فصل: من فوائد ابن عاشور في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَمَنْ عَادَ} إلى مثل ذلك فقتل الصيد متعمدًا وهو محرم {فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} أي فهو ينتقم الله تعالى منه لأن الجزاء إذا وقع مضارعًا مثبتًا لم تدخله الفاء ما لم يقدر المبتدأ على المشهور، وكذا المنفي بلا، وجوز السمين أن تكون «من» موصولة ودخلت الفاء لشبه المبتدأ بالشرط وهي زائدة والجملة بعدها خبر ولا حاجة حينئذ إلى إضمار المبتدأ.
والمراد بالانتقام التعذيب في الآخرة؛ وأما الكفارة فعن عطاء وإبراهيم وابن جبير والحسن والجمهور أنها واجبة على العائد فيتكرر الجزاء عندهم بتكرر القتل.
وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وشريح أنه إن عاد لم يحكم عليه بكفارة حتى أنهم كانوا يسألون المستفتي هل أصبت شيئًا قبله؟ فإن قال: نعم لم يحكم عليه وإن قال لا حكم عليه تعلقًا بظاهر الآية.
وأنت تعلم أن وعيد العائد لا ينافي وجوب الجزاء عليه وإنما لم يصرح به لعلمه فيما مضى، وقيل: معنى الآية ومن عاد بعد التحريم إلى ما كان قبله وليس بالبعيد، وأما حمل الانتقام على الانتقام في الدنيا بالكفارة وإن كان محتملًا لكنه خلاف الظاهر.
وكذا كون المراد ينتقم منه إذا لم يكفر.
وقد اختلفوا فيما إذا اضطر محرم إلى أكل الميتة أو الصيد فقال زفر يأكل الميتة لا الصيد لتعدد جهات حرمته عليه، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: يتناول الصيد ويؤدي الجزاء لأن حرمة الميتة أغلط ألا ترى أن حرمة الصيد ترتفع بالخروج من الإحرام فهي مؤقتة بخلاف حرمة الميتة فعليه أن يقصد أخف الحرمتين دون أغلظهما والصيد وإن كان محظور الإحرام لكن عند الضرورة يرتفع الحظر فيقتله ويأكل منه ويؤدي الجزاء كما في «المبسوط».
وفي «الخانية» المحرم إذا اضطر إلى ميتة وصيد فالميتة أولى في قول أبي حنيفة. ومحمد.
وقال أبو يوسف والحسن: يذبح الصيد ولو كان الصيد مذبوحًا فالصيد أولى عند الكل.
ولو وجد لحم صيد ولحم آدمي كان لحم الصيد أولى ولو وجد صيدًا وكلبًا فالكلب أولى لأن في الصيد ارتكاب محظورين.
وعن محمد الصيد أولى من لحم الخنزير انتهى.
وفي هذا خلاف ما ذكر في «المبسوط» {والله عَزِيزٌ} غالب لا يغالب {ذُو انتقام} شديد فينتقم ممن يتعدى حدوده ويخالف أوامره ويصر على معاصيه. اهـ.

.من فوائد ابن عاشور في الآية:

قال رحمه الله:
{يا أيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}.
استئناف لبيان آية: {ليبلونّكم الله بشيء من الصيد} [المائدة: 94] أو لنسخ حكمها أن كانت تضمّنت حكمًا لم يبق به عمل.
وتقدّم القول في معنى {وأنتم حرم} في طالع هذه السورة [المائدة: 1].
واعلم أنّ الله حرّم الصيد في حالين: حال كون الصائد محرِمًا، وحال كون الصيد من صيد الحرم، ولو كان الصائد حلالًا؛ والحكمة في ذلك أنّ الله تعالى عظّم شأن الكعبة من عهد إبراهيم عليه السلام وأمره بأن يتّخذ لها حرَمًا كما كان الملوك يتّخذون الحِمى، فكانت بيت الله وحماه، وهو حرم البيت محترمًا بأقصى ما يعدّ حرمة وتعظيمًا فلذلك شرع الله حرمًا للبيت واسعًا وجعل الله البيت أمنًا للناس ووسّع ذلك الأمن حتى شمل الحيوان العائش في حرمه بحيث لا يرى الناس للبيت إلاّ أمنا للعائذ به وبحرمه.
قال النابغة:
والمؤمننِ العائذاتتِ الطيرَ يمسحُها ** رُكبانُ مكَّةَ بين الغِيل فالسَّنَد

فالتحريم لصيد حيوان البرّ، ولم يحرّم صيد البحر إذ ليس في شيء من مساحة الحرم بحر ولا نهر.
ثم حُرّم الصيد على المحرم بحجّ أو عمرة، لأنّ الصيد إثارة لبعض الموجودات الآمنة.
وقد كان الإحرام يمنع المحرمين القتال ومنعوا التقاتل في الأشهر الحرم لأنها زمن الحج والعمرة فألحق مثل الحيوان في الحرمة بقتل الإنسان، أو لأنّ الغالب أنّ المحرم لا ينوي الإحرام إلاّ عند الوصول إلى الحرم، فالغالب أنَّه لا يصيد إلاّ حيوان الحرم.
والصيد عامّ في كلّ ما شأنه أن يصاد ويقتل من الدوابّ والطير لأكله أو الانتفاع ببعضه.
ويلحق بالصيد الوحوش كلّها.
قال ابن الفرس: والوحوش تسمّى صيدًا وإن لم تُصد بعدُ، كما يقال: بئس الرميَّة الأرنب، وإن لم ترم بعد.
وخصّ من عمومه ما هو مضرّ، وهي السباع المؤذية وذوات السموم والفأر وسباع الطير.
ودليل التخصيص السنّة.
وقصد القتل تبع لتذكّر الصائد أنّه في حال إحرام، وهذا مورد الآية، فلو نسي أنّه محرم فهو غير متعمّد، ولو لم يقصد قتله فأصابه فهو غير متعمّد.
ولا وجه ولا دليل لمن تأوّل التعمّد في الآية بأنّه تعمّد القتل مع نسيان أنّه محرم.
وقوله: {وأنْتم حُرُم} حُرُم جمع حرام، بمعنى مْحرم، مثل جمع قذال على قذل، والمحرم أصله المتلبِّس بالإحرام بحجّ أو عمرة.
ويطلق المحرم على الكائن في الحرم.
قال الراعي:
قتلوا ابنَ عفّان الخليفةَ مُحْرمًا ** أي كائنًا في حرم المدينة.

فأمّا الإحرام بالحجّ والعمرة فهو معلوم، وأمّا الحصول في الحرم فهو الحلول في مكان الحرم من مكة أو المدينة.
وزاد الشافعي الطائف في حرمة صيده لا في وجوب الجزاء على صائده.
فأمّا حرم مكة فيحرم صيده بالاتّفاق.
وفي صيده الجزاء.
وأمّا حرم المدينة فيحرم صيده ولا جزاء فيه، ومثله الطائف عند الشافعي.
وحرم مكة معلوم بحدود من قبل الإسلام، وهو الحرم الذي حرّمه إبراهيم عليه السلام ووضعت بحدوده علامات في زمن عمر بن الخطاب.
وأمّا حرم المدينة فقال النبي صلى الله عليه وسلم «المدينة حرم من ما بين عيَر أو عائر (جبل) إلى ثور» قيل: هو جبل ولا يعرف ثور إلاّ في مكة.
قال النووي: أكثر الرواة في كتاب «البخاري» ذكروا عيَرًا، وأمّا ثور فمنهم من كنّى عنه فقال: من عير إلى كذا، ومنهم من ترك مكانه بياضًا لأنّهم اعتقدوا ذكر ثور هنا خطأ.
وقيل: إنّ الصواب إلى أحُد كما عند أحمد والطبراني.
وقيل: ثور جبل صغير وراء جبل أحُد.
وقوله: {ومن قتله منكم} الخ، «من» اسم شرط مبتدأ، و{قتله} فعل الشرط، و{منكم} صفة لاسم الشرط، أي من الذين آمنوا.
وفائدة إيراد قوله: {منكم} أعرض عن بيانها المفسّرون.
والظاهر أنّ وجه إيراد هذا الوصف التنبيه على إبطال فعل أهل الجاهلية، فمن أصاب صيدا في الحرم منهم كانوا يضربونه ويسلبونه ثيابه، كما تقدّم آنفًا.
وتعليق حكم الجزاء على وقوع القتل يدلّ على أنّ الجزاء لا يجب إلاّ إذا قتل الصيد، فأمّا لو جرحه أو قطع منه عضوا ولم يقتله فليس فيه جزاء، ويدلّ على أنّ الحكم سواء أكل القاتل الصيد أو لم يأكله لأنّ مناط الحكم هو القتل.
وقوله: {متعمّدًا} قيد أخرج المخطىء، أي في صيده.
ولم تبيّن له الآية حكمًا لكنّها تدلّ على أنّ حكمه لا يكون أشدّ من المتعمّد فيحتمل أن يكون فيه جزاء آخر أخفّ ويحتمل أن يكون لا جزاء عليه وقد بيّنته السنّة.
قال الزهري: نزل القرآن بالعمد وجرت السنّة في الناسي والمخطىء أنّهما يكفّران.
ولعلّه أراد بالسنّة العمل من عهد النبوءة والخلفاء ومضى عليه عمل الصحابة.
وليس في ذلك أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، وجمهور فقهاء الأمصار: إنّ العمد والخطأ في ذلك سواء، وقد غلَّب مالك فيه معنى الغُرم، أي قاسه على الغُرم.
والعمد والخطأ في الغرم سواء فلذلك سوّى بينهما.
ومضى بذلك عمل الصحابة.
وقال أحمد بن حنبل، وابن عبد الحكم من المالكية، وداوود الظاهري، وابن جبير وطاووس، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، وعطاء، ومجاهد: لا شيء على الناسي.
وروي مثله عن ابن عباس.
وقال مجاهد، والحسن، وابن زيد، وابن جريج: إن كان متعمّدًا للقتل ناسيًا إحرامه فهو مورد الآية، فعليه الجزاء.
وأمّا المتعمّد للقتل وهو ذاكر لإحرامه فهذا أعظم من أن يكفّر وقد بطل حجّه، وصيده جيفة لا يؤكل.
والجزاء العوض عن عمل، فسمّى الله ذلك جزاء، لأنّه تأديب وعقوبة إلاّ أنّه شرع على صفة الكفّارات مثل كفارة القتل وكفارة الظهار.
وليس القصد منه الغرم إذ ليس الصيد بمنتفع به أحد من الناس حتى يغرَم قَاتله ليجبر ما أفاته عليه.
وإنّما الصيد ملك الله تعالى أباحه في الحلّ ولم يبحه للناس في حال الإحرام، فمن تعدّى عليه في تلك الحالة فقد فرض الله على المتعدّي جزاء.
وجعله جزاء ينتفع به ضعاف عبيده.
وقد دلّنا على أنّ مقصد التشريع في ذلك هو العقوبة قولُه عقبه {ليذوق وبال أمره}.
وإنّما سمّي جزاء ولم يسمّ بكفّارة لأنّه روعي فيه المماثلة، فهو مقدّر بمثل العمل فسمّي جزاء، والجزاء مأخوذ فيه المماثلة والموافقة قال تعالى: {جزاءًا وفاقًا} [النبأ: 26].
وقد أخبر أنّ الجزاء مثل ما قتل الصائد، وذلك المثل من النعم، وذلك أنّ الصيد إمّا من الدوابّ وإمّا من الطير، وأكثر صيد العرب من الدوابّ، وهي الحمر الوحشية وبقر الوحش والأروى والظباء ومن ذوات الجناح النعام والإوز، وأمّا الطير الذي يطير في الجوّ فنادر صيده، لأنّه لا يصاد إلاّ بالمعراض، وقلّما أصابه المعراض سوى الحمام الذي بمكة وما يقرب منها، فمماثلة الدوابّ للأنعام هيّنة.
وأمّا مماثلة الطير للأنعام فهي مقاربة وليست مماثلة؛ فالنعامة تقارب البقرة أو البدنة، والإوز يقارب السخلة، وهكذا.
وما لا نظير له كالعصفور فيه القيمة.
وهذا قول مالك والشافعي ومحمد بن الحسن.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: المثل القيمة في جميع ما يصاب من الصيد.
والقيمة عند مالك طعام.
وقال أبو حنيفة: دارهم.
فإذا كان المصير إلى القيمة؛ فالقيمة عند مالك طعام يتصدّق به، أو يصوم عن كلّ مدّ من الطعام يومًا، ولكسر المدّ يومًا كاملًا.
وقال أبو حنيفة: يشتري بالقيمة هديًا إن شاء، وإن شاء اشترى طعامًا، وإن شاء صام عن كلّ نصف صاع يومًا.