فصل: من فوائد الشعراوي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال أبو سفيان يوم أحد مخاطبًا جثّة حمزة «ذق عُقق».
وشهرة هذه الاستعارة قاربت الحقيقة، فحسن أن تبنى عليها استعارة أخرى في قوله تعالى: {فأذاقها الله لباس الجوع والخوف} [النحل: 112].
والوبال السوء وما يُكره إذا اشتدّ، والوبيل القوي في السوء {فأخذناه أخذًا وبيلا} [المزمل: 16].
وطعام وبيل: سيّء الهضم، وكلأ وبيل ومستوبل، تستولبه الإبل، أي تستوخمه.
قال زهير:
إلى كَلأٍ مُسْتَوْبِل مُتَوَخَّمِ

والأمر: الشأن والفعل، أي أمر من قتل الصيد متعمّدًا.
والمعنى ليجد سوء عاقبة فعله بما كلّفه من خسارة أو من تعب.
وأعقب اللّهُ التهديد بما عوّد به المسلمين من الرأفة فقال: {عفا الله عمّا سلف}، أي عفا عمّا قتلتم من الصيد قبل هذا البيان ومن عاد إلى قتل الصيد وهو محرم فالله ينتقم منه.
والانتقام هو الذي عُبّر عنه بالوبال من قبلُ، وهو الخسارة أو التعب، ففهم منه أنه كلّما عاد وجب عليه الجزاء أو الكفارة أو الصوم، وهذا قول الجمهور.
وعن ابن عباس، وشريح، والنخعي، ومجاهد، وجابر بن زيد: أنّ المتعمّد لا يجب عليه الجزاء إلاّ مرة واحدة فإن عاد حقّ عليه انتقام العذاب في الآخرة ولم يقبل منه جزاء.
وهذا شذوذ.
ودخلت الفاء في قوله: {فينتقم الله منه} مع أنّ شأن جواب الشرط إذا كان فعلًا أن لا تدخل عليه الفاء الرابطة لاستغنائه عن الربط بمجرّد الاتّصال الفعلي، فدخول الفاء يقع في كلامهم على خلاف الغالب، والأظهر أنّهم يرمون به إلى كون جملة الجواب اسمية تقديرًا فيرمزون بالفاء إلى مبتدأ محذوف جُعل الفعل خبرًا عنه لقصد الدلالة على الاختصاص أو التقوّي، فالتقدير: فهو ينتقم الله منه، لقصد الاختصاص للمبالغة في شدّة ما يناله حتى كأنّه لا ينال غيره، أو لقصد التقوّي، أي تأكيد حصول هذا الانتقام.
ونظيره {فمن يؤمن بربّه فلا يخافُ بخسًا ولا رهقًا} [الجن: 13] فقد أغنت الفاء عن إظهار المبتدإ فحصل التقوّي مع إيجاز.
هذا قول المحقّقين مع توجيهه، ومن النحاة من قال: إنّ دخول الفاء وعدمه في مثل هذا سواء، وإنّه جاء على خلاف الغالب.
وقوله: {والله عزيز ذو انتقام} تذييل.
والعزيز الذي لا يحتاج إلى ناصر، ولذلك وُصف بأنّه ذو انتقام، أي لأنّ من صفاته الحكمة، وهي تقتضي الانتقام من المفسد لتكون نتائج الأعمال على وفقها. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ...} الآية.
أي لا تقتلوا الصيد إن كنتم قد أحرمتم بالحج أو بالعمرة أو بهما معا، وإن لم تحرموا فالصيد محرّم أيضًا في حدود منطقة الحرم. وسبحانه قد جعل الحرم زمانًا والحرم مكانًا. وهو فَيْءٌ يلجأ إليه الناس من غرور عزة قوم على حساب ذلة قوم آخرين. وقديمًا كان يحارب بعضهم بعضا، ولذلك جعل الحق أربعة أشهر حرمًا في الزمان، أي لا قتال فيها، وذلك حتى يستريح المتعب من الحرب، ويستريح من يخاف على عزته، أو يذوق فيها الجميع لذة السلام والأمن، وقد يستمرون في ذلك الاستمتاع بالسلام والأمان. وكذلك جعل الحق الحرم أيضًا مكانًا آمنًا، لا يتعرض فيه أحد لأحد. وكان الإنسان يقابل في الحرم قاتل أبيه فلا يتعرض له، كل ذلك ليحمي عزة المسلمين أن تنكسر أمام غيرهم.
ومثال ذلك طرفان كلاهما على خلاف مع الآخر، وكل منهما يرغب في الصلح مع الطرف الآخر. وهنا يتدخل أي إنسان من الخارج فينجح؛ لأن الطرفين ميالان للصلح. وكل منهما يريد إنهاء الحرب ولكن تأخذه العزة بالإثم وتستولي عليه الحمية ويأنف أن يبدأ خصمه بطلب الصلح.
وقد أراد الحق أن تكون هناك في الأشهر الحرم فرصة للائتلاف والصلح وذلك بأن يلجأ الناس إلى البيت الحرام حتى تنفض البشرية عن نفسها البغضاء وحتى يرتاح البشر من القتال، فتصدر الأحكام في رويّة واتزان وهدوء أعصاب.
ويقول الحق جل وعلا: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الكعبة أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذلك صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا الله عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام} [المائدة: 95].
ولا يعتبر الشيء صيدًا إلا إذا كان مما يؤكل. أما إذا كان الشيء المصاد لا يؤكل كالسبع وغيره فقد قال بعض العلماء: لا يمنع ولا يحرم ولكنا نقول: إن الصيد هو كل ما يصاد سواء ليؤكل أو حتى غير مأكول، وذلك لنعلم أنفسنا وجوارحنا وأعضاءنا الأدب ونحن حرم. ومعنى {حُرُم} هو أن نكون محرمين أو في الحرم، والحرم له حدود معروفة. وداخل الحرم ممنوع على الإنسان أن يصطاد أي شيء من لحظة بلوغه ميقات الحج والعمرة.
إذن فحيز الصيد محدود بالنسبة لكل من دخل الحرم المكّي الشريف سواء أكان محرمًا أم لا. وحيز الصيد بالنسبة لمن أراد الحج أو العمرة هو أكثر رقعة واتساعا، ذلك أن التحريم يبدأ من حين الاحرام بالحج أو العمرة أو بهما. ولكن ماذا يكون الحكم إن اعتدى إنسان على الحكم واصطاد؟
{وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا}.
لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألحق قتل الخطأ بالعمد، وذلك حتى ينتبه كل مسلم إلى كل فعل وهو محرم، أو وهو في البيت الحرام.
هب أنك أردت أن تحك جلد رأسك بأظافرك وأنت محرم، هنا قد يتساقط بعض شعرك؛ فإن ثبت ذلك فعليك هدي للكعبة أو صوم أو إطعام مساكين؛ لأن الحق يريد لك حين تحرم أن تنتبه بكل جوارحك إلى أن كل حركة من حركاتك محفوظة ومحسوبة عليك، ولتكن في منتهى اليقظة الإيمانية، وأي خطأ مهما يكن يسيرًا يوجب الفدية. لذلك من قتل وجب عليه الجزاء لتعديه على شيء حرمه الله. والجزاء محدد بنص القول الحق: {فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم} وعند المثلية وقف العلماء أيضًا: أتكون المثلية بالقيمة، أو المثلية في الشكل؟
والمثلية في القيمة تعني أن تقوِّم الشيء المقتول بثمنه، وتشتري بالثمن شيئًا من الأنعام وتذبحها. والمثلية في الشكل تعني أن نشبه الشيء المقتول بمثيل له مما يذبح ويكون أقرب إلى شكله. ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قتل مسلم ضبعًا أمر المسلم أن يفدي بكبش. والصحابة رضوان الله عليهم: علي، عمر، وعثمان وعبدالله بن عمر أمروا رجلًا قتل نعامة أن يفديها ببدنة ناقة أو بعير لأنها تشابه النعامة في العلو. وحينما قتل إنسان ظبيًا فداه بشاة. والظبي أو الغزال هو الذكر، والغزالة هي الأنثى، وعندما قتل غزالًا صدر الحكم بالفداء بعنزة. ومن قتل «يربوعًا»- وهو من الزواحف وأكبر من الفأر قليلًا- صدر الحكم أن تكون الفدية «الجفرة» وهي ولد الماعز بعد أن يستغني عن لبن أمه ويستطيع الأكل.
إذن، فالمثلية هنا مثلية الشكل. وقال أبو حنيفة بإباحة أن تكون المثلية بالقيمة إن لم يوجد الشبيه. وعلى ذلك فالذي يصطاد من أجل أن يطعم نفسه يدفع ثمن الخطأ لغيره من المحتاجين. وإن كانت المثلية بالقيمة فالذي يحدد هذه القيمة أناس لهم بصيرة وهما اثنان من ذوي العدل. {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الكعبة} وهم الذين لا يميلون عن الحق، ويقيمون الميزان.
ويأمرنا الحق أن نحكم بالإنصاف لنكون من ذوي العدل، أي أن الإنسان حين يواجه خصمين فهو يعطي نصفه لخصم ونصفه الآخر للخصم الثاني، فلا يميل بالهوى ناحية أحدهما. ولا يدير الإنسان وجهه إلى الخصم أكثر مما يديره للآخر.
وإن سأل أحد: كيف نأتي بذوي العدل؟ ونقول: انظر إلى عدالتهما في نفسيهما ولنر تصرفات الإنسان هل هي مستقيمة أو لا؟ وهل هو مسرف أو معتدل سواء في الطعام أو الغضب أو في أي لون من ألوان السلوك؟ ومن كان مأمونًا على نفسه فهو مأمون على غيره، ويجب كذلك أن يكون من ذوي الخبرة في هذا الأمر، ولذلك يجب أن ينتبه الناس إلى هذه المسائل لأننا نرى أن موجة من النفاق للشباب تسود بعض المجتمعات، فنسمع أصواتًا تقول: إن الشباب يجب أن يتولى القيادة.
ونقول لأصحاب هذه الأصوات: تمهلوا ودققوا النظر في مثل هذا القول؛ لأن الشباب عليه أن يزاول عمله الخاص في فترة الشباب، وعلينا ملاحظته وهو يؤدي عمله فإن نجح ورأينا فيه أمانة على حركة نفسه، وعدلًا مع نفسه وعدم إسراف على نفسه فإننا نرشحه من بعد ذلك ليخدم أمته بعد أن يثبت أنه مأمون في عدالة نفسه. ولا يصح أن نجرب في الأمة مَن لا يَستند إلى رصيد من الخبرة السابقة.
إنه لا يصح أن نولي الأمر في أي قطاع لمن أطلقوا عليهم: الأطفال المعجزة. ومن يريد أن يجرب فليجرب في نفسه، وفيما يملك، لا في الأمم والشعوب. وعلى الشاب أن يبدأ حياته بنشاط جدي لذاته، ليستخلص النفعية القريبة منه وألا يغش نفسه، فإن نجح في ذلك، نأخذ منه بعض الوقت أو كل الوقت لخدمة أمته بعد أن يثبت لنا أنه قد وصل إلى النضج العقلي الكافي، وقد زادت تجاربه وفقد شهية الطموح الشخصي والمتع الصغيرة، ووصل إلى القدرة على التجرد ليحكم بين الناس.
فإذا كان الحق قد أمرنا أن نختار ذوي العدل للحكم في رقبة شاة، فما بالنا برقاب الناس ومصالح الناس؟
نحن- إذن- مطالبون بأن نميز ذوي العدل بين الناس من خلال مراقبة حركة الإنسان مع نفسه وعلى نفسه وعلى أهله، وعندما نكتشف أنه صار مأمونًا على نفسه، هنا نستطيع أن نوليه أمور غيره بالخدمة العامة، وذلك حتى لا تخيب الأمة، فالأمم إنما تخيب باختيار غير مدروس لقيادات المواقع المختلفة فيها.
ولنا أن نلحظ في عملنا دقة المعاني التي جاءت في القرآن الكريم، فنحن هنا في أمر شاة أو حيوان نستصدر الحكم من ذوي العدل. {فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الكعبة} وما يحكم به ذوا العدل إنما يذهب كله للكعبة؛ ليأكله الموجودون في البيت الحرام لعبادة الرحمن. وقد أراد الله أن يضمن قوت الذين يسكنون واديًا غير ذي زرع حتى من أغلاط الذين يعتدون على ما حرَّمَ الله صيده من الحيوان.
ولكن ما الحل إذا ما كان المخطئ لا يملك القدرة على أن يقدم هديًا بالغ الكعبة؟
والحق سبحانه لا يترك مثل هذه الأمور دون بيان أو تفصيل، فهاهوذا يضع الكفارة بإطعام مساكين، يحدد عددهم الاثنان من ذوي العدل. ومن لا يستطيع إطعام مساكين فليصم أيامًا بعدد الفقراء الذين كانوا يستحقون الطعام لو أخرجه. {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذلك صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} والوبال هو الثقل والعاقبة.
ولماذا الوبال؟ لأن الإنسان حين يدفع من ماله ثمن شراء المثل لما قتل سيعز عليه ماله، وأيضًا إن أطعم مساكين فهو سيشتري الطعام بمال يعز عليه، وكذلك يسبب له الصيام الإرهاق. إن هذا اللون من الكفارة يذيق الإنسان وبال ما فعل. وأراد الحق بذلك ألا يجعل الإحساس مجرد أمر شكلي، أو أن تظل الإساءة أمرًا شكليًا. وشاء سبحانه أن يرتب النفع للإحسان والضر للإساءة، حتى تستقيم الأمور في الكون. ولنا في قصة ذي القرنين المثل الواضح على ذلك: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} [الكهف: 83-84].
لقد مكن الحق لذي القرنين في الأرض، وأعطاه من كل شيء سببا. ومع ذلك لم يركن ذو القرنين إلى ما أعطى فلم يتقاعس ولم يكسل، بل يخبرنا الحق: {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف: 85].
لقد أخذ ذو القرنين من تمكين الله له في الأرض، وأخذ من عطاء الله له بشيء من كل سبب، إنه أخذ طاقة وإحساسًا بالمسئولية ليواصل مهمته: {حتى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشمس وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا قُلْنَا ياذا القرنين إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} [الكهف: 86].