فصل: من فوائد الجصاص في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



لقد بلغ مغرب الشمس في نظر عينيه، لأن الإنسان عندما يقف وقت الغروب في خلاء فالشمس تغرب أمامه وكأنها تسقط في آخر الأفق. والحقيقة أن ذلك هو نهاية قدرة البصر. وجاء التفويض لذي القرنين: إما أن يعذب هؤلاء القوم، وإما أن يعاملهم بالحسنى. وليقس عمل كل إنسان منهم، وليجاز كل إنسان منهم حسب عمله. وهو لا يفعل ذلك عن هوى، لأنه ممكن في الأرض من الحق سبحانه وتعالى؛ لذلك قال الحق: {قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا} [الكهف: 87].
وكل إنسان- حتى النفعي- حين يرى أن ارتكاب العمل السيء يأتي له بالمتاعب والخسارة، يرجع عنه ولو لم يكن مؤمنًا باليوم الآخر. أما من يؤمن باليوم الآخر ويعمل عملًا صالحًا فماذا تكون نوعية معاملته؟ ها هو ذا الحق سبحانه وتعالى يقول: {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الحسنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف: 88].
إنه ينال التكريم والتشجيع، فالتكريم والتشجيع يجب أن ينالهما صاحب الحق فيهما لا المنافق أو المتمسح بالأبواب. هكذا يكون دستور كل متمكن في الأرض. وهكذا تكون رعاية أوامر الله ونواهيه. وحين أمرنا الحق بتحريم الصيد في البيت الحرام أو على المحرم ووضع عقوبة لمن أخطأ، فهو سبحانه وتعالى عادل معنا، فلا عقوبة إلا بنص ولا تجريم إلا بعد النص، ولذلك قال سبحانه: {عَفَا الله عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام}. فسبحانه يعفو عما سلف، أما من عاد ليرتكب نواهي الله في هذا المجال فيعاقبه الحق. فلا يقبل منه هدى ولا إطعام مساكين ولا صوم؛ لأن في تكرار المخالفة إصرارًا عليها، لذلك ينتقم منه الله، وهو العزيز الذي لا يُغْلَب.
وبعد أن تكلم الحق عن صيد البر وحكمه، أراد أن يوضح لنا أن ذلك الحكم لا ينسحب على كل صيد. فسبحانه حرم صيد البر إن كنا حرمًا، أو في دائرة الحرم. اهـ.

.من فوائد الجصاص في الآية:

قال رحمه الله:
بَابُ مَا يَقْتُلُهُ الْمُحْرِمُ:
قَوْله تَعَالَى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}.
لَمَّا كَانَ خَاصًّا فِي صَيْدِ الْبَرِّ دُونَ صَيْدِ الْبَحْرِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي سِيَاقِ الْآيَةِ مِنْ التَّخْصِيصِ، اقْتَضَى عُمُومُهُ تَحْرِيمَ سَائِرِ صَيْدِ الْبَرِّ إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو سَعِيدٍ وَعَائِشَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «خَمْسٌ يَقْتُلُهُنَّ الْمُحْرِمُ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الْحَيَّةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْغُرَابُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ» عَلَى اخْتِلَافٍ مِنْهُمْ فِي بَعْضِهَا، وَفِي بَعْضِهَا: «هُنَّ فَوَاسِقُ».
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «الْكَلْبُ الْعَقُورُ الْأَسَدُ».
وَرَوَى حَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ عَنْ وَبَرَةَ قَالَ: سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ «أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ الذِّئْبِ وَالْفَأْرَةِ وَالْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ».
فَذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الذِّئْبَ.
وَذَكَرَ الْقَعْنَبِيُّ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: «الْكَلْبُ الْعَقُورُ الَّذِي أُمِرَ الْمُحْرِمُ بِقَتْلِهِ مَا قَتَلَ النَّاسَ وَعَدَا عَلَيْهِمْ، مِثْلُ الْأَسَدِ وَالنَّمِرِ وَالذِّئْبِ وَهُوَ الْكَلْبُ الْعَقُورُ، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ السِّبَاعِ لَا يَعْدُو مِثْلُ الضَّبُعِ وَالثَّعْلَبِ وَالْهِرَّةِ وَمَا أَشْبَهَهُنَّ مِنْ السِّبَاعِ فَلَا يَقْتُلْهُنَّ الْمُحْرِمُ، فَإِنْ قَتَلَ مِنْهُنَّ شَيْئًا فَدَاهُ».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ تَلَقَّى الْفُقَهَاءُ هَذَا الْخَبَرَ بِالْقَبُولِ وَاسْتَعْمَلُوهُ فِي إبَاحَةِ قَتْلِ الْأَشْيَاءِ الْخَمْسَةِ لِلْمُحْرِمِ.
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْكَلْبِ الْعَقُورِ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى مَا قَدَّمْنَا الرِّوَايَةَ فِيهِ: «إنَّهُ الْأَسَدُ» وَيَشْهَدُ لِهَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عَلَى عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ فَقَالَ: «أَكَلَك كَلْبُ اللَّهِ» فَأَكَلَهُ الْأَسَدُ.
قِيلَ لَهُ: إنَّ الْكَلْبَ الْعَقُورَ هُوَ الذِّئْبُ.
وَرُوِيَ فِي بَعْضِ أَخْبَارِ ابْنِ عُمَرَ فِي مَوْضِعٍ «الْكَلْبُ» «الذِّئْبُ»، وَلَمَّا ذَكَرَ الْكَلْبَ الْعَقُورَ أَفَادَ بِذَلِكَ كَلْبًا مِنْ شَأْنِهِ الْعَدْوَ عَلَى النَّاسِ وَعَقْرِهِمْ، وَهَذِهِ صِفَةُ الذِّئْبِ، فَأَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِالْكَلْبِ هَاهُنَا الذِّئْبُ.
وَقَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا عَدَا عَلَى الْمُحْرِمِ وَابْتَدَأَهُ بِالْأَذَى فَجَائِزٌ لَهُ قَتْلُهُ مِنْ غَيْرِ فَدِيَةٍ لِأَنَّ فَحْوَى ذِكْرِهِ الْكَلْبَ الْعَقُورَ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ ابْتَدَأَهُ السَّبْعُ فَقَتَلَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي ابْتَدَأَ السَّبْعَ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ، لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}.
وَاسْمُ الصَّيْدِ وَاقِعٌ عَلَى كُلِّ مُمْتَنِعِ الْأَصْلِ مُتَوَحِّشٍ، وَلَا يَخْتَصُّ بِالْمَأْكُولِ مِنْهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} فَعَلَّقَ الْحُكْمَ مِنْهُ بِمَا تَنَالُهُ أَيْدِينَا وَرِمَاحُنَا، وَلَمْ يُخَصِّصْ الْمُبَاحَ مِنْهُ دُونَ الْمَحْظُورِ الْأَكْلِ.
ثُمَّ خَصَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَشْيَاءَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْخَبَرِ وَذَكَرَ مَعَهَا الْكَلْبَ الْعَقُورَ، فَكَانَ تَخْصِيصُهُ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَذِكْرُهُ لِلْكَلْبِ الْعَقُورِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا ابْتَدَأَ الْإِنْسَانَ بِالْأَذَى مِنْ الصَّيْدِ فَمُبَاحٌ لِلْمُحْرِمِ قَتْلُهُ؛ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ الْمَذْكُورَةَ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَبْتَدِئَ بِالْأَذَى، فَجَعَلَ حُكْمَهَا حُكْمَ حَالِهَا فِي الْأَغْلَبِ وَإِنْ كَانَتْ قَدْ لَا تَبْتَدِئُ فِي حَالٍ؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ إنَّمَا تَتَعَلَّقُ فِي الْأَشْيَاءِ بِالْأَعَمِّ الْأَكْثَرِ، وَلَا حُكْمَ لِلشَّاذِّ النَّادِرِ.
ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ الْكَلْبَ الْعَقُورَ وَقِيلَ هُوَ الْأَسَدُ فَإِنَّمَا أَبَاحَ قَتْلَهُ إذَا قَصَدَ بِالْعَقْرِ وَالْأَذَى، وَإِنْ كَانَ الذِّئْبُ فَذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِ فِي الْأَغْلَبِ؛ فَمَا خَصَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ بِالْخَبَرِ وَقَامَتْ دَلَالَتُهُ فَهُوَ مَخْصُوصٌ مِنْ عُمُومِ الْآيَةِ، وَمَا لَمْ يَخُصَّهُ وَلَمْ تَقُمْ دَلَالَةُ تَخْصِيصِهِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى عُمُومِهَا.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الضَّبُعُ صَيْدٌ وَفِيهِ كَبْشٌ إذَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ».
وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ، وَالضَّبُعُ مِنْ ذِي النَّابِ مِنْ السِّبَاعِ وَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا كَبْشًا.
فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا قِسْت عَلَى الْخَمْسِ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا وَهُوَ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ قِيلَ لَهُ: إنَّمَا خَصَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الْخَمْسَةَ مِنْ عُمُومِ الْآيَةِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَنَا الْقِيَاسُ عَلَى الْمَخْصُوصِ إلَّا أَنْ تَكُونَ عِلَّتُهُ مَذْكُورَةً فِيهِ أَوْ دَلَالَةٌ قَائِمَةً فِيمَا خَصَّ، فَلَمَّا لَمْ تَكُنْ لِلْخَمْسِ عِلَّةٌ مَذْكُورَةٌ فِيهَا لَمْ يَجُزْ الْقِيَاسُ عَلَيْهَا فِي تَخْصِيصِ عُمُومِ الْأَصْلِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ دَلَالَتِهِ عَلَى مَا يَبْتَدِئُ الْإِنْسَانَ بِالْأَذَى مِنْ السِّبَاعِ، وَكَوْنُهُ غَيْرَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ دَلَالَةٌ مِنْ فَحْوَى الْخَبَرِ وَلَا عِلَّتَهُ مَذْكُورَةٌ فِيهِ، فَلَمْ يَجُزْ اعْتِبَارُهُ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ فِيمَا ابْتَدَأَ الْمُحْرِمَ فِي سُقُوطِ الْجَزَاءِ، فَجَازَ تَخْصِيصُهُ بِالْإِجْمَاعِ وَبَقِيَ حُكْمُ عُمُومِ الْآيَةِ فِيمَا لَمْ يَخُصَّهُ الْخَبَرُ وَلَا الْإِجْمَاعُ.
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَأْبَى الْقِيَاسَ فِي مِثْلِهِ لِأَنَّهُ حَصَرَهُ بِعَدَدٍ فَقَالَ «خَمْسٌ يَقْتُلُهُنَّ الْمُحْرِمُ» وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ مَحْظُورٌ، فَغَيْرُ جَائِزٍ اسْتِعْمَالُ الْقِيَاسِ فِي إسْقَاطِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْبَى صِحَّةَ الِاعْتِلَالِ بِكَوْنِهِ غَيْرَ مَأْكُولٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ نَفْيٌ وَالنَّفْيُ لَا يَكُونُ عِلَّةً، وَإِنَّمَا الْعِلَلُ أَوْصَافٌ ثَابِتَةٌ فِي الْأَصْلِ الْمَعْلُولِ، وَأَمَّا نَفْيُ الصِّفَةِ فَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً.
فَإِنْ غُيِّرَ الْحُكْمُ بِإِثْبَاتِ وَصْفٍ وَجَعَلَ الْعِلَّةَ أَنَّهُ مُحَرَّمُ الْأَكْلِ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ هُوَ الْحُكْمُ بِنَفْيِ الْأَكْلِ، فَلَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ نَافِيًا لِلصِّفَةِ، فَلَمْ يَصِحَّ الِاعْتِلَالُ بِهَا.
وَزَعَمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ مَا لَا يُؤْكَلُ مِنْ الصَّيْدِ فَلَا جَزَاءَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِيهِ.
قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: فَقَالَ قَائِلُونَ وَهُمْ الْجُمْهُورُ: «سَوَاءٌ قَتَلَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ» وَجَعَلُوا فَائِدَةَ تَخْصِيصِهِ الْعَمْدَ بِالذِّكْرِ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ}، وَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِالْعَمْدِ دُونَ الْخَطَإِ؛ لِأَنَّ الْمُخْطِئَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَلْحَقَهُ الْوَعِيدُ، فَخَصَّ الْعَمْدَ بِالذِّكْرِ وَإِنْ كَانَ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ مِثْلَهُ لِيَصِحَّ رُجُوعُ الْوَعِيدِ إلَيْهِ؛ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَالْحَسَنِ رِوَايَةً وَإِبْرَاهِيمَ وَفُقَهَاءَ الْأَمْصَارِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: مَا رَوَى مَنْصُورٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ رِجْلٍ قَدْ سَمَّاهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى فِي الْخَطَإِ شَيْئًا» وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ وَعَطَاءٍ وَسَالِمٍ وَالْقَاسِمِ وَأَحَدِ قَوْلَيْ مُجَاهِدٍ فِي رِوَايَةِ الْجُعْفِيِّ عَنْهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: مَا رَوَى سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} قَالَ: «إذَا كَانَ عَامِدًا لِقَتْلِهِ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ، وَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ عَامِدًا لِقَتْلِهِ فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: «قَدْ فَسَدَ حَجُّهُ وَعَلَيْهِ الْهَدْيُ».
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ نَحْوُ قَوْلِ مُجَاهِدٍ فِي أَنَّ الْجَزَاءَ إنَّمَا يَجِبُ إذَا كَانَ عَامِدًا لِقَتْلِهِ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ.
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ جِنَايَاتِ الْإِحْرَامِ لَا يَخْتَلِفُ فِيهَا الْمَعْذُورُ وَغَيْرُ الْمَعْذُورِ فِي بَابِ وُجُوبِ الْفِدْيَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ عَذَرَ الْمَرِيضَ وَمَنْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ وَلَمْ يُخْلِهِمَا مِنْ إيجَابِ الْكَفَّارَةِ؟ وَكَذَلِكَ لَا خِلَافَ فِي فَوَاتِ الْحَجِّ لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ أَنَّهُ غَيْرُ مُخْتَلِفِ الْحُكْمِ؛ وَلَمَّا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي جِنَايَاتِ الْإِحْرَامِ وَكَانَ الْخَطَأُ عُذْرًا؛ لَمْ يَكُنْ مُسْقِطًا لِلْجَزَاءِ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَا يَجُوزُ عِنْدَكُمْ إثْبَاتُ الْكَفَّارَاتِ قِيَاسًا، وَلَيْسَ فِي الْمُخْطِئِ نَصٌّ فِي إيجَابِ الْجَزَاءِ.
قِيلَ لَهُ: لَيْسَ هَذَا عِنْدَنَا قِيَاسًا؛ لِأَنَّ النَّصَّ قَدْ وَرَدَ بِالنَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الصَّيْدِ فِي قَوْلِهِ: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} وَذَلِكَ عِنْدَنَا يَقْتَضِي إيجَابَ الْبَدَلِ عَلَى مُتْلِفِهِ، كَالنَّهْيِ عَنْ قَتْلِ صَيْدِ الْآدَمِيِّ أَوْ إتْلَافِ مَالِهِ يَقْتَضِي إيجَابَ الْبَدَلِ عَلَى مُتْلِفِهِ؛ فَلَمَّا جَرَى الْجَزَاءُ فِي هَذَا الْوَجْهِ مَجْرَى الْبَدَلِ وَجَعَلَهُ اللَّهُ مِثْلًا لِلصَّيْدِ؛ اقْتَضَى النَّهْيُ عَنْ قَتْلِهِ إيجَابَ بَدَلِهِ عَلَى مُتْلِفِهِ، ثُمَّ ذَلِكَ الْبَدَلُ يَكُونُ الْجَزَاءَ بِالِاتِّفَاقِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ اسْتِوَاءُ حَالِ الْمَعْذُورِ وَغَيْرِ الْمَعْذُورِ فِي سَائِرِ جِنَايَاتِ الْإِحْرَامِ كَانَ مَفْهُومًا مِنْ ظَاهِرِ النَّهْيِ تَسَاوِي حَالِ الْعَامِدِ وَالْمُخْطِئِ؛ وَلَيْسَ ذَلِكَ عِنْدَنَا قِيَاسًا، كَمَا أَنَّ حُكْمَنَا فِي غَيْرِ بَرِيرَةَ بِمَا حَكَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَرِيرَةَ لَيْسَ بِقِيَاسٍ، وَكَذَلِكَ حُكْمُنَا فِي الْعُصْفُورِ بِحُكْمِ الْفَأْرَةِ وَحُكْمُنَا فِي الزَّيْتِ بِحُكْمِ السَّمْنِ إذَا مَاتَ فِيهِ لَيْسَ هُوَ قِيَاسًا عَلَى الْفَأْرَةِ وَعَلَى السَّمْنِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ تَسَاوِي ذَلِكَ قَبْلَ وُرُودِ الْحُكْمِ بِمَا وَصَفْنَا، فَإِذَا وَرَدَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ كَانَ حُكْمًا فِي جَمِيعِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ حُكْمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَقَاءِ صَوْمِ الْآكِلِ نَاسِيًا هُوَ حُكْمُ فِيهِ بِبَقَاءِ صَوْمِ الْمُجَامَعِ نَاسِيًا لِأَنَّهُمَا غَيْرُ مُخْتَلِفَيْنِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا مِنْ الْأَحْكَامِ فِي حَالِ الصَّوْمِ وَكَذَلِكَ قَالُوا فِيمَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ بَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ إنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الرُّعَافِ وَالْقَيْءِ اللَّذَيْنِ جَاءَ فِيهِمَا الْأَثَرُ فِي جَوَازِ الْبِنَاءِ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا مِنْ أَحْكَامِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ، فَلَمَّا وَرَدَ الْأَثَرُ فِي بَعْضِ ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا فِي جَمِيعِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِقِيَاسٍ.
كَذَلِكَ حُكْمُ قَاتِلِ الصَّيْدِ خَطَأً.
وَأَمَّا مُجَاهِدُ فَإِنَّهُ تَارِكٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} فَمَنْ كَانَ ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ عَامِدًا لِقَتْلِ الصَّيْدِ فَقَدْ شَمِلَهُ الِاسْمُ، فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ، وَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ عَامِدًا لِقَتْلِهِ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى كَفَّارَةِ قَاتِلِ الْخَطَإِ فَلَمْ تَرُدُّوا عَلَيْهِ قَاتِلَ الْعَمْدِ، كَذَلِكَ لَمَّا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى قَاتِلِ الْعَمْدِ بِإِيجَابِ الْجَزَاءِ لَمْ يَجُزْ إيجَابُهَا عَلَى قَاتِلِ الْخَطَإِ.
قِيلَ لَهُ: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا نَصَّ عَلَى حُكْمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَتْلَيْنِ وَجَبَ اسْتِعْمَالُهُمَا وَلَمْ يَجُزْ قِيَاسُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَنَا قِيَاسُ الْمَنْصُوصَاتِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ.
وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ قَتْلَ الْعَمْدِ لَمْ يَخْلُ مِنْ إيجَابِ الْقَوَدِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مِنْ الْكَفَّارَةِ وَالدِّيَةِ، وَمَتَى أَخْلَيْنَا قَاتِلَ الصَّيْدِ خَطَأً مِنْ إيجَابِ الْجَزَاءِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ فَيَكُونُ لَغْوًا عَارِيًّا مِنْ حُكْمٍ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ أَحْكَامَ الْقَتْلِ فِي الْأُصُولِ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ وَالْمُبَاحِ وَالْمَحْظُورِ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ ذَلِكَ فِي الصَّيْدِ، فَلِذَلِكَ اسْتَوَى حُكْمُ الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ فِيهِ وَاخْتَلَفَ فِي قَتْلِ الْآدَمِيِّ.
قَوْله تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ} اُخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالْمِثْلِ، فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ الْمِثْلَ نَظِيرُهُ؛ فِي الْأَرْوَى بَقَرَةٌ وَفِي الظَّبْيَةِ شَاةٌ وَفِي النَّعَامَةِ بَعِيرٌ» وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدٍ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ فِي آخَرِينَ مِنْ التَّابِعِينَ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ وَالشَّافِعِيِّ وَذَلِكَ فِيمَا لَهُ نَظِيرٌ مِنْ النَّعَمِ، فَأَمَّا مَا لَا نَظِيرَ لَهُ مِنْهُ كَالْعُصْفُورِ وَنَحْوِهِ فَفِيهِ الْقِيمَةُ.