فصل: من فوائد القرطبي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويروى عن ابن عباس ومجاهد كالقولين وجملة حيوان الماء على قسمين: سمك وغير سمك فأما السمك فجميعه حلال على اختلاف أجناسه وأنواعه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في البحر: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي ولا فرق بين أن يموت بسبب أو بغير سبب فيحل أكله وقال أبو حنيفة لا يحل إلا أن يموت بسبب وما عدا السمك فقسمان: قسم يعيش في البر والبحر كالضفدع والسرطان فلا يحل أكلهما وقال سفيان أرجو أن يكون بالسرطان بأس واختلفوا في الجراد فقيل هو من صيد البحر فيحل أكله للمحرم وذهب جمهور العلماء إلى أنه من صيد البر وأنه لا يحل للمحرم أكله في حال الإحرام فإن أصاب جرادة فعليه صدقة.
قال عمر: في الجرادة تمرة.
وعنه وعن ابن عباس قبضة من طعام وكذلك طير الماء فهو من صيد البر أيضًا وقال أحمد: يؤكل كل ما في البحر إلا الضفدع والتمساح قال لأن التمساح يفترس ويأكل الناس.
وقال ابن أبي ليلى ومالك يباح كل ما في البحر وذهب جماعة إلى أن ماله نظير من البر يؤكل فيؤكل نظيره من حيوان البحر مثل بقر الماء ونحوه ولا يؤكل ما لا يؤكل نظيره في البر مثل كلب الماء وخنزير الماء فلا يحل أكله.
قوله تعالى: {متاعًا لكم وللسيارة} يعني ينتفع به المقيمون والمسافرون فيتزودون منه.
قوله تعالى: {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا} ذكر الله عز وجل تحريم الصيد على المحرم في ثلاثة مواضع من هذه السورة أحدها في أول السورة وهو قوله: غير محلِّي الصيد وأنتم حرم.
والثاني قوله: {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} والثالث: هذه الآية وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا.
كل ذلك لتأكيد تحريم قتل الصيد على المحرم واختلف العلماء هل يجوز للمحرم أن يأكل من لحم صيد صاده غيره فذهب قوم إلى أنه لا يحل ذلك بحال يروى ذلك عن ابن عباس وهو قول طاوس وإليه ذهب الثوري واحتجوا على ذلك بما روي عن الصعب بن جثامة الليثي أنه أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم حمارًا وحشيًا وهو بالأبواء أبو بودان فرده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلما رأى ما في وجهه من الكراهة قال: إنا لم نرده عليك إلا أنّا حرم.
أخرجاه في الصحيحين وذهب جمهور العماء إلى أنه يجوز للمحرم أن يأكل لحم الصيد إذا لم يصده بنفسه ولا صِيدَ له ولا بإشارته ولا أعان عليه.
وهذا قول عمر وعثمان وأبي هريرة وبه قال عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وأصحاب الرأي ويدل عليه ما روي عن أبي قتادة الأنصاري، قال: كنت جالسًا مع رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في منزل في طريق مكة ورسول الله صلى الله عليه وسلم أمامنا والقوم محرمون وأنا غير محرم عام الحديبية، فأبصروا حمارًا وحشيًا وأنا مشغول أخصف نعلًا فلم يؤذنوا بي وأحبوا لو أني أبصرته فالتفتُّ، فأبصرته، فقمت إلى الفرس فأسرجته ثم ركبت ونسيت السوط والرمح فقلت لهم ناولوني السوط والرمح.
قالوا: لا والله لا نعينك عليه، فغضبت ونزلت فأخذتهما ثم ركبت فشددت على الحمار فعقرته ثم جئت به وقد مات، فوقعوا فيه يأكلون.
ثم إنهم شكّوا في أكلهم إياه وهم حرم فرحنا وخبأت العضد فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك فقال: «هل معكم منه شيء؟» فقلت نعم.
فناولته العضد فأكل منها وهو محرم.
وزاد في رواية: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: إنما هي طعمة أطعمكموها الله.
وفي رواية: هو حلال فكلوه.
وفي رواية قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها قالوا: لا؟ قال: كلوا ما بقي من لحمها» أخرجاه في الصحيحين وأجاب أصحاب هذا المذهب عن حديث الصعب بن جثامة بأنه إنما رده النبي صلى الله عليه وسلم لأنه ظن أنه إنما صيد لأجله والمحرم لا يأكل ما صيد لأجله {واتقوا الله} يعني فلا تستحلُّوا الصيد في حال الإحرام ولا في الحرم ثم حذرهم بقوله: {الذي إليه تحشرون} يعني في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم. اهـ.

.من فوائد القرطبي في الآية:

قال رحمه الله:
{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)}.
فيه ثلاث عشرة مسألة:
الأُولى قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر} هذا حكم بتحليل صيد البحر، وهو كل ما صيد من حيتانه.
والصيد هنا يراد به المَصِيد، وأُضيف إلى البحر لما كان منه بسبب.
وقد مضى القول في البحر في «البقرة» والحمد لله.
و{مَتَاعًا} نصب على المصدر أي متعتم به متاعًا.
الثانية قوله تعالى: {وَطَعَامُهُ} الطعام لفظ مشترك يطلق على كل ما يُطعَم ويُطلق على مطعوم خاص كالماء وحده، والبُرّ وحده، والتمر وحده، واللَّبن وحده، وقد يطلق على النوم كما تقدّم؛ وهو هنا عبارة عما قذف به البحر وطَفَا عليه؛ أسند الدَّارَقُطْنيّ عن ابن عباس في قول الله عز وجل: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} الآية صيده ما صِيد وطعامه ما لفظ البحر.
وروي عن أبي هريرة مثله؛ وهو قول جماعة كثيرة من الصحابة والتابعين.
وروي عن ابن عباس طعامه ميتته؛ وهو في ذلك المعنى.
وروى عنه أنه قال: طعامه ما مُلِّح منه وبقي؛ وقاله معه جماعة.
وقال قوم: طعامه مِلحه الذي ينعقد من مائِهِ وسائر ما فيه من نبات وغيره.
الثالثة قال أبو حنيفة: لا يؤكل السمك الطافي، ويؤكل ما سواه من السمك، ولا يؤكل شيء من حيوان البحر إلا السمك؛ وهو قول الثوريّ في رواية أبي إسحاق الفَزَاريّ عنه.
وكره الحسن أكل الطافي من السمك.
وروي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كرهه، وروي عنه أيضًا أنه كره أكل الجِرِّيّ، وروي عنه أكل ذلك كله وهو أصح؛ ذكره عبد الرزاق عن الثوريّ عن جعفر بن محمد عن علي قال: الجراد والحِيتان ذَكِيٌّ؛ فعليّ مختلف عنه في أكل الطافي من السمك، ولم يختلف عن جابر أنه كرهه، وهو قول طاوس ومحمد بن سيرين وجابر بن زيد، واحتجوا بعموم قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة}.
وبما رواه أبو داود والدَّارَقُطْنِيّ عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كُلُوا ما حَسَر عنه البحر وما ألقاه وما وجدتموه ميتًا أو طافيًا فوق الماء فلا تأكلوه» قال الدَّارَقُطْنيّ: تفرد به عبد العزيز بن عُبيد الله، عن وهب بن كَيْسان عن جابر، وعبد العزيز ضعيف لا يحتج به.
وروى سفيان الثوريّ عن أبي الزُّبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه؛ قال الدَّارَقُطْنِيّ: لم يسنده عن الثوريّ غير أبي أحمد الزُّبيريّ وخالفه وكيع والعدنيان وعبد الرزاق ومُؤَمَّل وأبو عاصم وغيرهم؛ رووه عن الثوريّ موقوفًا وهو الصواب.
وكذلك رواه أيوب السَّخْتِياني، وعُبيد الله بن عمر وابن جُرَيْج، وزُهير وحمّاد بن سَلَمة وغيرهم عن أبي الزّبير موقوفًا؛ قال أبو داود: وقد أسند هذا الحديث من وجه ضعيف عن ابن أبي ذئب عن أبي الزّبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال الدَّارَقُطْنيّ: وروي عن إسماعيل بن أُمية وابن أبي ذئب عن أبي الزّبير مرفوعًا، ولا يصح رفعه، رفعه يحيى بن سليم عن إسماعيل بن أُمية ووقفه غيره.
وقال مالك والشافعي وابن أبي ليلى والأُوزاعيّ والثوريّ في رواية الأشجعيّ: يؤكل كل ما في البحر من السمك والدّواب، وسائر ما في البحر من الحيوان، وسواء اصطيد أو وجد ميتًا؛ واحتج مالك ومن تابعه بقوله عليه الصلاة والسلام في البحر: «هو الطَّهور ماؤُه الحِلُّ ميتته» وأصح ما في هذا الباب من جهة الإسناد حديث جابر في الحُوت الذي يقال له: «العَنْبَر» وهو من أثبت الأحاديث خرّجه الصحيحان.
وفيه: فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له فقال: «هو رزق أخرجه الله لكم فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا» فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله؛ لفظ مسلم.
وأسند الدَّارَقُطْنيّ عن ابن عباس أنه قال أشهد على أبي بكر أنه قال: السمكة الطافية حلال لمن أراد أكلها.
وأسند عنه أيضًا أنه قال: أشهد على أبي بكر أنه أكل السمك الطافي على الماء.
وأَسند عن أبي أيوب أنه ركب البحر في رهط من أصحابه، فوجدوا سمكة طافية على الماء فسألوه عنها فقال: أطيبة هي لم تتغير؟ قالوا: نعم؛ قال: فكلُوها وارفعوا نصيبي منها؛ وكان صائمًا.
وأسند عن جَبَلة بن عطية أن أصحاب أبي طلحة أصابوا سمكة طافية فسألوا عنها أبا طلحة فقال: اهدوها إليّ.
وقال عمر بن الخطاب: الحُوت ذكِيٌّ والجراد ذكِيٌّ كله؛ رواه عنه الدَّارَقُطْنِيّ.
فهذه الآثار ترد قول من كره ذلك وتخصص عموم الآية، وهو حجة للجمهور؛ إلا أن مالكًا كان يكره خنزير الماء من جهة اسمه ولم يحرّمه وقال: أنتم تقولون خنزيرًا! وقال الشافعي: لا بأس بخنزير الماء.
وقال الليث: ليس بميتة البحر بأس، قال: وكذلك كلب الماء وفرس الماء.
قال: ولا يؤكل إنسان الماء ولا خنزير الماء.
الرابعة اختلف العلماء في الحيوان الذي يكون في البر والبحر هل يحل صيده للمحرم أم لا؟ فقال مالك وأبو مِجلَز وعطاء وسعيد بن جُبَير وغيرهم: كلّ ما يعيش في البر وله فيه حياة فهو صيد البر، إن قتله المحرم وَدَاه؛ وزاد أبو مِجْلَز في ذلك الضّفادع والسّلاحف والسّرَطان.
الضفادع وأجناسها حرام عند أبي حنيفة، ولا خلاف عن الشافعي في أنه لا يجوز أكل الضّفدع، واختلف قوله فيما له شبه في البر مما لا يؤكل كالخنزير والكلب وغير ذلك.
والصحيح أكل ذلك كله؛ لأنه نص على الخنزير في جواز أكله، وهو له شبه في البر مما لا يؤكل.
ولا يؤكل عنده التمساح ولا القِرْش والدّلفين، وكل ما له ناب لنهيه عليه السلام عن أكل كل ذي ناب.
قال ابن عطية: ومن هذه أنواع لا زوال لها من الماء فهي لا محالة من صيد البحر، وعلى هذا خرج جواب مالك في الضفادع في «المدوّنة» فإنه قال: الضفادع من صيد البحر.
وروي عن عطاء بن أبي رَبَاح خلاف ما ذكرناه، وهو أنه يراعي أكثر عيش الحيوان؛ سئل عن ابن الماء أصيد بَر هو أم صيد بحر؟ فقال: حيث يكون أكثر فهو منه، وحيث يفرخ فهو منه؛ وهو قول أبي حنيفة.
والصواب في ابن الماء أنه صيد بَرٍّ يرعى ويأكل الحب.
قال ابن العربي: الصحيح في الحيوان الذي يكون في البر والبحر منعه؛ لأنه تعارض فيه دليلان، دليل تحليل ودليل تحريم، فيغلب دليل التحريم احتياطًا.
والله أعلم.
الخامسة قوله تعالى: {وَلِلسَّيَّارَةِ} فيه قولان: أحدهما للمقيم والمسافر كما جاء في حديث أبي عُبيدة أنهم أكلوه وهم مسافرون، وأكل النبي صلى الله عليه وسلم وهو مقيم، فبيّن الله تعالى أنه حلال لمن أقام، كما أحله لمن سافر.
الثاني أن السيَّارة هم الذين يَركبونه، كما جاء في حديث مالك والنَّسائيّ: أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «هو الطّهُورُ ماؤُه الحِلُّ ميْتتهُ» قال ابن العربيّ قال علماؤنا: فلو قال له النبي صلى الله عليه وسلم «نعم» لما جاز الوضوء به إلاَّ عند خوف العطش؛ لأن الجواب مرتبط بالسؤال، فكان يكون محالًا عليه، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ابتدأ تأسيس القاعدة، وبيان الشرع فقال: «هو الطهور ماؤُه الحل ميتته».