فصل: تفسير الآية رقم (97):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (97):

قوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما كان الإحرام وتحريم الصيد فيه إنما هو لقصد تعظيم الكعبة، بين تعالى حكمة ذلك وأنه كما جعل الحرم والإحرام سببًا لأمن الوحش والطير جعله سببًا لأمن الناس وسببًا لحصول السعادة دنيا وأخرى، فقال مستأنفًا بيانًا لحكمة المنع في أول السورة من استحلال من يقصدها للزيارة: {جعل الله} أي بما له من العظمة وكمال الحكمة ونفوذ الكلمة {الكعبة} وعبر عنها بذلك لأنها مأخوذة من الكعب الذي به قيام الإنسان وقوامه، وبيّنها مادحًا بقوله: {البيت الحرام} أي الممنوع من كل جبار دائمًا الذي تقدم في أول السورة أني منعتكم من استحلال من يؤمّه {قيامًا للناس} أي في أمر معاشهم ومعادهم لأنها لهم كالعماد الذي يقوم به البيت، فيأمن به الخائف ويقوى فيه الضعيف ويقصده التجار والحجاج والعمّار فهو عماد الدين والدنيا.
ولما ذكر ما به القوام من المكان، أتبعه ذلك من الزمان فقال: {والشهر الحرام} أي الذي يفعل فيه الحج وغيره يأمن فيه الخائف.
ولما ذكر ما به القوام من المكان والزمان، أتبعه ما به قوام الفقراء من شعائره فقال: {والهدي} ثم أتبعه أعزَّه وأخصه فقال: {والقلائد} أي والهدي العزيز الذي يقلد فيذبح ويقسم على الفقراء، وفي الآية التفات إلى ما في أول السورة من قوله: {يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام} [المائدة: 2]- فقوانينُها أن من قصدها في شهر الحرام لم يتعرض له أحد ولو كان قتل ابنه، ومن قصدها في غيره ومعه هدي قلده أو لم يقلده أو لم يكن معه هدي وقلد نفسه من لَحاء شجر الحرم لم يعرِض له أحد حتى أن بعضهم يلقي الهدي وهو مضطر فلا يعرض له ولو مات جوعًا، وسواء في ذلك صاحبه وغيره لأن الله تعالى أوقع في قلوبهم تعظيمها، لأنه تعالى جبل العرب على الشجاعة ليفتح بهم البلاد شرقًا وغربًا ليظهرعموم رسالة نبيهم صلى الله عليه وسلم، فلزم من ذلك شدة حرصهم على القتل والغارات، وعلم أن ذلك إن دام بهم شَغلَهم عن تحصيل ما يحتاجون إليه لعيشهم، فأدى إلى فنائهم، فجعل بيته المكرم وما كان من أسبابه أمانًا يكون به قوام معاشهم ومعايشهم، فكان ذلك برهانًا ظاهرًا على أن الإله عالم بجميع المعلومات وأن له الحكمة البالغة.
ولما أخبر بعلة التعظيم لما أمر بتعظيمه من نظم أمور الناس، ذكر علة ذلك الجعل فقال: {ذلك} أي الجعل العظيم الذي تم أمره على ما أراد جاعله سبحانه: {لتعلموا} أي بهذا التدبير المحكم {أن الله} أي الذي له الكمال كله الذي جعل ذلك {يعلم ما في السماوات} فلذلك رتبها ترتيبًا فصلت به الأيام والليالي، فكانت من ذلك الشهور والأعوام، وفصّل من ذلك ما فصل للقيام المذكور {وما في الأرض} فلذلك جعل فيها ما قامت به مصالح الناس وكف فيه أشدهم وأفتكهم عن أضعفهم وآمن فيه الطير والوحش، فيؤدي ذلك من له عقل رصين وفكر متين إلى أن يعلم أن فاعل ذلك من العظمة ونفوذ الكلمة بحيث يستحق الإخلاص في العبادة وأن يمتثل أمره في إحلال ما أحل من الطعام وتحريم ما حرم من الشراب وغير ذلك.
ولما ذكر هذا العلم العظيم، ذكر ما هو أعم منه فقال: {وأن} أي ولتعلموا أن {الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلمًا الذي فعل ذلك فتم له {بكل شيء عليم} وإلاّ لما أثبت جميع مقتضيات ذلك ونفى جميع موانعه حتى كان، ولقد اتخذ العرب- كما في السيرة الهشامية وغيرها- طواغيت، وهي بيوت جعل لها سدنة وحجابًا وهدايا أكثروا منها، وعظمت كل قبيلة ما عندها أشد تعظيم وطافوا به فلم يبلغ شيء منها ما بلغ أمر الكعبة المشرفة ولا قارب، ليحصل العلم بأنه سبحانه لا شيء مثله ولا شريك له. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أن اتصال هذه الآية بما قبلها، هو أن الله تعالى حرّم في الآية المتقدمة الاصطياد على المحرم، فبين أن الحرم كما أنه سبب لأمن الوحش والطير، فكذلك هو سبب لأمن الناس عن الآفات والمخافات، وسبب لحصول الخيرات والسعادات في الدنيا والآخرة. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

قرأ ابن عامر {قَيِّمًا} بغير ألف، ومعناه المبالغة في كونه قائمًا بإصلاح مهمات الناس كقوله تعالى: {دِينًا قِيَمًا} [الأنعام: 161] والباقون بالألف، وقد استقصينا ذلك في سورة النساء. اهـ.
قال الفخر:
سميت الكعبة كعبة لارتفاعها، يقال للجارية إذا نتأ ثديها وخرج كاعب وكعاب، وكعب الإنسان يسمى كعبًا لنتوه من الساق، فالكعبة لما ارتفع ذكرها في الدنيا واشتهر أمرها في العالم سميت بهذا الاسم، ولذلك فإنهم يقولون لمن عظم أمره فلان علا كعبه. اهـ.

.قال الثعلبي:

قال مجاهد: سميت كعبة مربع والعرب تسمي كل بيت مربع كعبة.
وقال مقاتل: سميت كعبة لانفرادها من البنيان.
قال أهل اللغة: أصلها من الخروج والارتفاع وسمّي الكعب كعبًا لخروجه من جانبي القدم، ومنه قيل للجارية إذا قاربت البلوغ وخرجت ثدياها: قد تكعبت، فسميت الكعبة كعبة لارتفاعها من الأرض، وثباتها على الموضع الرفيع، وسميت البيت الحرام لأن اللّه حرّمه وعظم حرمته.
وفي الحديث: «مكتوب في أسفل المقام: إني أنا اللّه ذو بكة حرمتها يوم خلقت السماوات والأرض. ويوم وضعت هذين الجبلين وحففتهما بسبعة أملاك حفًا من جاءني زائرًا لهذا البيت عارفًا بحقه مذعنًا لي بالربوبية حرّمت جسده على النار». اهـ.

.قال القرطبي:

وقد سُمْيت الكَعْبة كعبة؛ لأنها مربّعة وأكثر بيوت العرب مُدوّرة.
وقيل: إنما سُمّيت كعبة لنتوئها وبروزها، فكلّ ناتىء بارز كَعْب، مستديرًا كان أو غير مستدير.
ومنه كَعْب القَدَم وكُعُوب الفتاة.
وكَعَبَ ثديُ المرأة إذا ظهر في صدرها.
والبيت سُمّي بذلك لأنها ذات سقف وجدار، وهي حقيقة البيتية وإن لم يكن بها ساكن.
وسماه سبحانه حرامًا بتحريمه إياه؛ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إن مكة حَرَّمها الله ولم يُحرِّمها الناس» وقد تقدم أكثر هذا مستوفى والحمد لله. اهـ.

.قال الألوسي:

وقوله تعالى: {البيت الحرام} عطف بيان على جهة المدح لأنه عرف بالتعظيم عندهم فصار في معنى المعظم أو لأنه وصف بالحرام المشعر بحرمته وعظمته، وذكر البيت كالتوطئة له فالاعتراض بالجمود من الجمود دون التوضيح، وقيل: جىء به للتبيين لأنه كان لخثعم بيت يسمونه بالكعبة اليمانية.
وجوز أن يكون بدلًا وأن يكون مفعولًا ثانيًا لجعل. اهـ.

.قال الفخر:

قوله: {قِيَامًا لّلنَّاسِ} أصله قوام لأنه من قام يقوم، وهو ما يستقيم به الأمر ويصلح، ثم ذكروا هاهنا في كون الكعبة سببًا لقوام مصالح الناس وجوهًا: الأول: أن أهل مكة كانوا محتاجين إلى حضور أهل الآفاق عندهم ليشتروا منهم ما يحتاجون إليه طول السنة، فإن مكة بلدة ضيقة لا ضرع فيها ولا زرع، وقلما يوجد فيها ما يحتاجون إلية، فالله تعالى جعل الكعبة معظمة في القلوب حتى صار أهل الدنيا راغبين في زيارتها، فيسافرون إليها من كل فج عميق لأجل التجارة ويأتون بجميع المطالب والمشتهيات، فصار ذلك سببًا لاسباغ النعم على أهل مكة.
الثاني: أن العرب كانوا يتقاتلون ويغيرون إلا في الحرم، فكان أهل الحرم آمنين على أنفسهم وعلى أموالهم حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه أو ابنه في الحرم لم يتعرض له، ولو جنى الرجل أعظم الجنايات ثم التجأ إلى الحرم لم يتعرض له ولهذا قال تعالى: {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا ءامِنًا وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67] الثالث: أن أهل مكة صاروا بسبب الكعبة أهل الله وخاصته وسادة الخلق إلى يوم القيامة وكل أحد يتقرب إليهم ويعظمهم.
الرابع: أنه تعالى جعل الكعبة قوامًا للناس في دينهم بسبب ما جعل فيها من المناسك العظيمة والطاعات الشريفة، وجعل تلك المناسك سببًا لحط الخطيآت، ورفع الدرجات وكثرة الكرامات.
واعلم أنه لا يبعد حمل الآية على جميع هذه الوجوه، وذلك لأن قوام المعيشة إما بكثرة المنافع وهو الوجه الأول الذي ذكرناه، وإما بدفع المضار وهو الوجه الثاني، وإما بحصول الجاه والرياسة وهو الوجه الثالث، وإما بحصول الدين وهو الوجه الرابع، فلما كانت الكعبة سببًا لحصول هذه الأقسام الأربعة، وثبت أن قوام المعيشة ليس إلا بهذه الأربعة ثبت أن الكعبة سبب لقوام الناس. اهـ.

.قال الثعلبي:

{قِيَامًا لِّلنَّاسِ} أي قوامًا لهم في أمر دينهم ودنياهم وصلاحًا لمعاشهم ومعادهم لما يحصل لهم من الحج والعمرة والزيارة والتجارة وما يجبى إليه من الثمرات ويظهر فيه من أنواع البركات.
فقال ابن جبير: من أتى هذا البيت يريد شيئًا للدنيا والآخرة أصابه.
{والشهر الحرام} أراد به الأشهر الحرم يأمن فيها الناس. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {قِيَامًا لِّلنَّاسِ} أي صلاحًا ومعاشًا، لأمن الناس بها؛ وعلى هذا يكون {قِيَامًا} بمعنى يقومون بها.
وقيل: {قِيَامًا} أي يقومون بشرائعها.
وقرأ ابن عامر وعاصم {قيمًا} وهما من ذوات الواو فقلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها.
وقد قيل: «قِوام».
قال العلماء: والحكمة في جَعْلِ الله تعالى هذه الأشياء قيامًا للناس، أن الله سبحانه خلق الخلق على سليقة الآدمية من التحاسد والتنافس والتقاطع والتدابر، والسلب والغارة والقتل والثأر، فلم يكن بدّ في الحكمة الإلهية، والمشيئة الأوّلية من كافّ يدوم معه الحال، ووازِعٍ يُحمَد معه المآل.
قال الله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً} [البقرة: 30] فأمرهم الله سبحانه بالخلافة، وجعل أُمورهم إلى واحد يزَعُهم عن التّنازع، ويحملهم على التآلف من التقاطع، ويردّ الظالم عن المظلوم، ويقرر كلّ يد على ما تستولي عليه.
روى ابن القاسم قال حدّثنا مالك أن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يقول: ما يَزَع الإمامُ أكثر مما يَزَع القرآن؛ ذكره أبو عمر رحمه الله.
وجَوْر السلطان عامًا واحدًا أقل أذاية من كون الناس فوضى لحظة واحدة؛ فأنشأ الله سبحانه الخليفة لهذه الفائدة، لتجري على رأيه الأُمور، ويكفّ الله به عادية الجمهور؛ فعظّم الله سبحانه في قلوبهم البيت الحرام، وأوقع في نفوسهم هيبته، وعظّم بينهم حرمته، فكان من لجأ إليه معصومًا به، وكان من اضطهد محميًّا بالكون فيه.
قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67].
قال العلماء: فلما كان موضعًا مخصوصًا لا يدركه كل مظلوم، ولا يناله كل خائف جعل الله الشهر الحرام ملجأ آخر. اهـ.

.قال الفخر:

المراد بقوله: {قِيَامًا لّلنَّاسِ} أي لبعض الناس وهم العرب، وإنما حسن هذا المجاز لأن أهل كل بلد إذا قالوا الناس فعلوا كذا وصنعوا كذا فإنهم لا يريدون إلا أهل بلدتهم فلهذا السبب خوطبوا بهذا الخطاب على وفق عادتهم. اهـ.
قال الفخر:
اعلم أن الآية دالة على أنه تعالى جعل أربعة أشياء سببًا لقيام الناس وقوامهم.