فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال مالك والشافعي وأحمد: إن لحم الصيد مباح للمحرم بشرط أن لا يصطاده المحرم ولا يصطاد له لما روى أبو داود في سننه عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصاد لكم» وعن أبي هريرة وعطاء ومجاهد أنهم أجازوا للمحرم ما صاده الحلال وإن لأجله إذا لم يدل لم يشر، وكذلك ما ذبحه قبل إحرامه وهو مذهب أبي حنيفه وأصحابه لما روي عن أبي قتادة أنه اصطاد حمار وحش وهو حلال في أصحاب محرمين له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل أشرتم؟ هل أعنتم؟ فقالوا: هل بقي من لحمه شيء؟ قالوا معنا رجله. فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم فأكلها. هذان قولان مفرعان على تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد. وقال في الكشاف. أخذ أبو حنيفة بالمفهوم فكأنه قيل: وحرم عليكم أيها المحرمون ما صدتم في البر، فيخرج عنه مصيد غيرهم. ويرد عليه أن المفهوم ليس بحجة. ثم حث على الطاعة والاجتناب عن المعاصي بقوله: {واتقوا الله الذي إليه تحشرون} وهو كلام جامع للوعد والوعيد.
ثم ذكر سبب حرمة الصيد في الحرم وفي الإحرام فقال: {جعل الله} أي حكم وبين بالخطاب والتعريف، أو صير بخلق دواعي التعظيم في القلوب {قيامًا للناس} وهم العرب ووجه المجاز أن أهل بلدة إذا قالوا «الناس فعلوا كذا» أرادوا أهل بلدتهم فنطق القرآن على مجرى عادتهم. وبيان القيام أن قوام المعيشه إما بكثرة المنافع وقد جعله بحيث يجبي إليه ثمرات كل شيء، وإما بدفع المضار وقد صيره حرمًا آمنًا، وإما بحصول الجاه والرياسة وتوفر الدواعي والرغبات وذلك بدعاء إبراهيم عليه السلام. {فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم} [إبراهيم: 37] ثم المنافع الدينية الحاصلة من مناسكها وشعائرها أكثر من أن تحصى وأظهر من أن تخفى. وانتصب {البيت الحرام} على أنه عطف بيان على جهة المدح لا على جهة التوضيح إذ الكعبة أوضح من أن توضح، ويحتمل أن يراد بالناس عامة الناس لما يتم لهم من أمر حجهم وعمرتهم وتجارتهم وأنواع منافعهم الدينية والدنيوية. وعن عطاء بن أبي رباح: لو تركوه عامًا واحدًا لم ينظرا ولم يؤخروا. وتفسير الشهر الحرام والهدي والقلائد تقدم في أوّل السورة. وإنما كان الشهر الحرام سببًا لقيام الناس وقوامهم لأنه إذا دخل الشهر الحرام كان يزول خوفهم ويقدرون على الأسفار وتحصيل الأقوات قدر ما يكفيهم طول السنة، فلولا حرمة ذلك لهلكوا من الجوع. وأيضًا هو سبب لاكتساب الثواب من قبل مناسك الحج وإقامتها.
وأما الهدي فأنه نسك للمهدي وقوام لمعايش الفقراء، وكذا القلائد فكان من قلد الهدي أو قلد نفسه من لحاء شجر الحرم لم يتعرض له أحد، وكل ذلك لأن الله تعالى أوقع في قلوبهم تعظيم الكعبة وما يتعلق بها ذلك الذي ذكر من جعل الكعبة قيامًا للناس أو من حفظ حرمة الإحرام والحرم مشروع {لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض} وذلك أنه علم في الأزل أن مقتضى طباع العرب الحرص على القتل والغارة وكان ذلك مما يفضي إلى الفناء وانقطاع النسل، فدبر هذا التدبير المحكم والفعل المتقن كي يصير سببًا للأمان في بعض الأمكنة وفي بعض الأزمان فتستقيم مصالح الإنسان. ولا ريب أن مثل هذا التقدير والتدبير لا يصح إلا ممن يعلم الكائنات وأسبابها وغاياتها بل يعلم المعلومات بأسرها كلياتها وجزئياتها قديمها وحديثها، عللها ومعلولها، موجودها ومعدومها، وذلك قوله: {وأن الله بكل شيء عليم} فما أحسن هذا الترتيب! ثم خوّفهم وأطمعهم بقوله: {اعلموا أن الله شديد العقاب} لمن انتهك محارمه {وأن الله غفور رحيم} لمن حافظ عليها. وذكر الوصفين في جانب الرحمة دليل على أن جانب الرحمة أغلب كما قال «سبقت رحمتي غضبي» ثم قرر أن رسول الله ما كان مكلفًا إلا بالتبليغ فإذا بلغ خرج من العهدة وبقي الأمر من جانبكم وأنه تعالى يعلم جهركم وسركم، وفيه من الوعيد ما فيه، عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن الله عز وجل حرم عليكم عبادة الأوثان وشرب الخمر والطعن في الأنساب ألا وإن الخمر لعن الله شاربها وعاصرها وساقيها وبائعها وآكل ثمنها» فقام إليه أعرابي فقال: يا رسول الله إني كنت رجلًا هذه تجارتي واستفدت من بيع الخمر مالًا فهل ينفعني ذلك المال إن عملت فيه بطاعة الله؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أنفقته في الحج أو جهاد أو صدقة لم يعدل عند الله جناح بعوضة، إن الله لا يقبل إلا الطيب»، وأنزل الله عز وجل تصديقًا لقول رسوله: {قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث} وهو عام في حرام الأموال وحلالها وفاسد الأعمال وصالحها وسقيم المذاهب وصحيحها ورديء النفوس وجيدها، وأخبث الخبائث الروحانية الجهل والمعصية، وأطيب الطيبات الروحانية معرفة الله تعالى وطاعته، والبون بين الصنفين في العالم الروحاني أبعد منه في العالم الجسماني، لأن أثرهما في عالم الأرواح أبقى وأدوم وأجل وأعظم، فلا تستبدل الخيبث يا إنسان بالطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث، لأن كثرته في تحقيق قلة، ولذته في نفس الأمر ذلة، ونقده زيف وصرف العمر في طلبه حيف. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله: {قُل لاَّ يَسْتَوِى الخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ}: الخبيث ما اكتسبه الغافل عن الله تعالى في حالة اكتسابه، والطيب ما اكتسبه على شهود الحق.
ويقال الخبيث ما لم يُخْرَجْ منه حقُّ الله تعالى، والطيب ما أُخْرجَ منه حقه- سبحانه. ويقال الخبيث ما ادخرتَه لنفسك، والطيب ما قدَّمتَه لأمره. اهـ.

.من فوائد ابن العربي في الآية:

قال رحمه الله:
قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَك كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْخَبِيثِ: وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْكَافِرُ.
وَالثَّانِي: الْحَرَامُ.
وَأَمَّا الطَّيِّبُ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الطَّيِّبُ: وَفِيهِ أَيْضًا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمُؤْمِنُ.
الثَّانِي: الْحَلَالُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَوْ أَعْجَبَك كَثْرَةُ الْخَبِيثِ}: وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْخِطَابَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُعْجِبُهُ الْكُفَّارُ وَلَا الْحَرَامُ، وَإِنَّمَا يُعْجِبُ ذَلِكَ النَّاسَ.
الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِعْجَابًا بِهِ لَهُ أَنَّهُ صَارَ عِنْدَهُ عَجَبًا مِمَّا يُشَاهِدُ مِنْ كَثْرَةِ الْكُفَّارِ، وَالْمَالِ الْحَرَامِ، وَقِلَّةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقِلَّةِ الْمَالِ الْحَلَالِ.
وَقَدْ سَبَقَ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَحُكْمُهُ بِذَلِكَ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا آدَم، ابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ فَيَقُولُ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ لِلنَّارِ وَوَاحِدٌ لِلْجَنَّةِ».
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي وَجْهِ عَدَمِ اسْتِوَائِهِ وَوُجُوبِ تَفَاوُتِهِ: إنَّ الْحَرَامَ يُؤْذِي فِي الدِّينِ، وَيَجِبُ فَسْخُهُ وَرَدُّهُ، وَالْحَلَالُ يَنْفَعُ وَيَجِبُ إمْضَاؤُهُ وَيَصِحُّ تَنْفِيذُهُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}.
وَقَالَ: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}.
فَلَا يُعْجِبَنَّكَ كَثْرَةُ الْمَالِ الرِّبَوِيِّ، وَنُقْصَانُ الْمَالِ بِصَدَقَتِهِ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَمْحَقُ ذَلِكَ الْكَثِيرَ فِي الْعَاقِبَةِ، وَيُنَمِّي الْمَالَ الزَّكَاتِيَّ بِالصَّدَقَةِ؛ وَبِهَذَا احْتَجَّ مِنْ عُلَمَائِنَا مَنْ رَأَى أَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ يُفْسَخُ، وَلَا يُمْضَى بِحَوَالَةِ سُوقٍ، وَلَا بِتَغَيُّرِ بَدَنٍ؛ فَيَسْتَوِي فِي إمْضَائِهِ مَعَ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ؛ بَلْ يُفْسَخُ أَبَدًا.
وَقَدْ احْتَجَّ أَيْضًا مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَنْ اكْتَرَى قَاعَةً إلَى أَمَدٍ فَكَمُلَ أَمَدُهُ، وَقَدْ بَنَى بِهَا وَأَسَّسَ، فَأَرَادَ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَنْ يُخْرِجَهُ، فَإِنَّهُ يَدْفَعُ إلَيْهِ قِيمَةَ بِنَائِهِ قَائِمًا، وَلَا يَهْدِمُهُ عَلَيْهِ، كَمَا يُفْعَلُ بِالْغَاصِبِ إذَا بَنَى فِي الْبُقْعَةِ الْمَغْصُوبَةِ.
وَنَظَرَ آخَرُونَ إلَى أَنَّ الْبَيْعَ إذَا فُسِخَ بَعْدَ الْفَوْتِ يَكُونُ فِيهِ غَبْنٌ عَلَى أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَلَا عُقُوبَةَ فِي الْأَمْوَالِ.
وَكَذَلِكَ إذَا كَمُلَ أَمَدُ الْبَانِي فَأَيُّ حُجَّةٍ لَهُ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الْبُنْيَانَ إلَى أَمَدٍ، فَإِنَّ صَاحِبَ الْعَرْصَةِ سَيَحْتَاجُ إلَى عَرْصَتِهِ لِمِثْلِ مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ الْبِنَاءِ أَوْ لِغَيْرِهِ، فَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَلْزَمَهُ إخْلَاؤُهَا مِمَّا شَغَلَهَا بِهِ.
وَهَذِهِ كُلُّهَا حُقُوقٌ مُرْتَبِطَةٌ بِحَقَائِقَ وَأَدِلَّةٍ تَتَّفِقُ تَارَةً وَتَفْتَرِقُ أُخْرَى، وَتَتَبَايَنُ تَارَةً وَتَتَمَاثَلُ أُخْرَى.
وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: حَقِيقَةُ الِاسْتِوَاءِ: الِاسْتِمْرَارُ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَمِثْلُهُ الِاسْتِقَامَةُ، وَضِدُّهُ الِاعْوِجَاجُ، وَذَلِكَ يَتَصَرَّفُ إلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: الِاسْتِوَاءُ فِي الْمِقْدَارِ، وَلَا يَتَسَاوَى الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ مِقْدَارًا فِي الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ الْخَبِيثَ أَوْزَنُ دُنْيَا وَالطَّيِّبُ أَوْزَنُ أُخْرَى.
الثَّانِي: الِاسْتِوَاءُ فِي الْمَكَانِ، وَلَا يَسْتَوِيَانِ أَيْضًا فِيهِ؛ لِأَنَّ الْخَبِيثَ فِي النَّارِ وَالطَّيِّبَ فِي الْجَنَّةِ.
الثَّالِثُ: الِاسْتِوَاءُ فِي الذَّهَابِ، وَلَا يَتَسَاوَيَانِ أَيْضًا فِيهِ؛ لِأَنَّ الْخَبِيثَ يَأْخُذُ جِهَةَ الشِّمَالِ وَالطَّيِّبَ يَأْخُذُ فِي جِهَةِ الْيَمِينِ.
الرَّابِعُ: الِاسْتِوَاءُ فِي الْإِنْفَاقِ، وَلَا يَسْتَوِيَانِ أَيْضًا فِيهِ؛ لِأَنَّ مُنْفِقَ الْخَبِيثِ يَعُودُ عَلَيْهِ الْخُسْرَانُ فِي الدَّارَيْنِ، وَمُنْفِقَ الطَّيِّبِ يَرْبَحُ فِي الدَّارَيْنِ.
أَمَّا خُسْرَانُ الْأَوَّلِ فَنَقْصُ مَالِهِ فِي الدُّنْيَا، وَنَقْصُ مَالِهِ فِي الْآخِرَةِ؛ وَرَبِحَ مُنْفِقُ الطَّيِّبِ فِي الدُّنْيَا حُسْنُ النِّيَّةِ وَصِدْقُ الرَّجَاءِ فِي الْعِوَضِ، وَرِبْحُهُ فِي الْآخِرَةِ ثِقَلُ الْمِيزَانِ. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ}.
هَذِهِ الْآيَةُ تَتِمَّةُ السِّيَاقِ السَّابِقِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ أَنَّ جَزَاءَ الصَّيْدِ يَكُونُ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ، وَأُرِيدَ بِالْكَعْبَةِ هُنَالِكَ حَرَمُهَا وَجِوَارُهَا الَّذِي تُؤَدَّى فِيهِ الْمَنَاسِكُ كَمَا تَقَدَّمَ، ثُمَّ ذَكَرَ الْكَعْبَةَ وَأَرَادَ بِهَا عَيْنَهَا وَلِذَلِكَ بَيَّنَهَا بِالْبَيْتِ الْحَرَامِ وَذَكَرَ الْهَدْيَ أَيْضًا.
وَقَالَ الرَّازِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ اتِّصَالَ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى حَرَّمَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ الِاصْطِيَادَ عَلَى الْمُحْرِمِ، فَبَيَّنَ أَيْ هُنَا أَنَّ الْحَرَمَ كَمَا أَنَّهُ سَبَبٌ لِأَمْنِ الْوَحْشِ وَالطَّيْرِ فَكَذَلِكَ هُوَ سَبَبٌ لِأَمْنِ النَّاسِ مِنَ الْآفَاتِ وَالْمَخَافَاتِ، وَسَبَبٌ لِحُصُولِ الْخَيْرَاتِ وَالسِّعَادَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. اهـ.
{جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ} الْجَعْلُ هُنَا إِمَّا خِلْقِيٌّ تَكْوِينِيٌّ وَهُوَ التَّصْيِيرُ، وَإِمَّا أَمْرِيٌّ تَكْلِيفِيٌّ وَهُوَ التَّشْرِيعُ، وَسَيَأْتِي تَوْجِيهُ كُلٍّ مِنْهَا، «وَالْكَعْبَةُ» فِي اللُّغَةِ الْبَيْتُ الْمُكَعَّبُ أَيِ الْمُرَبَّعُ، وَقِيلَ:
الْمُرْتَفِعُ مِنْ كَعْبِ الرُّمْحِ وَهُوَ طَرَفُ الْأُنْبُوبِ النَّاشِزِ، أَوْ كَعْبِ الرَّجُلِ وَهُوَ النَّاتِئُ عِنْدَ مَفْصِلِ السَّاقِ، وَمِنْهُ كَعَّبَتِ الْجَارِيَةُ «الْبِنْتُ» وَكَعَّبَ ثَدْيُهَا يُكَعِّبُ إِذَا نَتَأَ وَارْتَفَعَ فَهِيَ كَاعِبٌ وَكَعَابٌ، وَثَدْيٌ كَاعِبٌ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَقَدْ غَلَبَ اسْمُ الْكَعْبَةِ عَلَى بَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ الَّذِي بَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِمَكَّةَ أُمِّ الْقُرَى فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ (ج1) وَتَفْسِيرِ آلِ عِمْرَانَ (ج4) قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّمَا سُمِّيَتِ الْكَعْبَةُ لِأَنَّهَا مُرَبَّعَةٌ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: إِنَّمَا سُمِّيَتِ الْكَعْبَةُ لِتَرْبِيعِهَا، و«الْقِيَامُ» أَصْلُهُ الْقِوَامُ بِالْوَاوِ فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً لِانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا كَالْمِيزَانِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا يَقُومُ بِهِ أَمْرُ النَّاسِ وَيَتَحَقَّقُ أَوْ يَسْتَقِيمُ وَيَصْلُحُ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ {قِيَمًا} بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْيَاءِ، وَهُوَ بِمَعْنَى {قِيَامًا} وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ {وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ} ذُو الْحِجَّةِ الَّذِي تُؤَدَّى فِيهِ مَنَاسِكُ الْحَجِّ فِي تِلْكَ الْمَعَاهِدِ الْمُقَدَّسَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ جِنْسُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ الَّتِي كَانُوا يَتْرُكُونَ فِيهَا الْقِتَالَ، {وَالْهَدْيَ} مَا يُهْدَى إِلَى الْحَرَمِ مِنَ الْأَنْعَامِ لِلتَّوْسِعَةِ عَلَى فُقَرَائِهِ، {وَالْقَلَائِدَ} هُنَا ذَاتُ الْقَلَائِدِ مِنَ الْهَدْيِ وَهِيَ الْأَنْعَامُ الَّتِي كَانُوا يُقَلِّدُونَهَا إِذَا سَاقُوهَا هَدْيًا، خَصَّهَا بِالذِّكْرِ لِعِظَمِ شَأْنِهَا، وَقِيلَ: هِيَ عَلَى مَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ، وَهُوَ مَا يُقَلَّدُ بِهِ الْهَدْيُ مِنَ النَّبَاتِ، وَكَذَا مَا كَانَ يَتَقَلَّدُ بِهِ مُرِيدُو الْحَجِّ وَالرَّاجِعُونَ مِنْهُ إِلَى بِلَادِهِمْ لِيَأْمَنُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَوَّلَ السُّورَةِ.