فصل: تفسير الآية رقم (102):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله: {حِينَ يُنَزَّلُ القرآن} في هذا الظرفِ احتمالان:
أظهرهما: أنه منصوبٌ بـ {تسْألُوا}، قال الزمخشريُّ: «وإنْ تَسْألُوا عنها: عن هذه التكاليفِ الصعبةِ، حين يُنَزَّلُ القرآنُ: في زمانِ الوحي، وهو ما دام الرسولُ بين أظْهُرِكُمْ يُوحَى إليه تَبْدُ لكم تلك التكاليفُ التي تَسُؤكُمْ وتُؤمَرُوا بتحمُّلِها، فَتُعَرِّضُوا أنفسكُمْ لِغَضَبِ اللَّهِ؛ لتفريطكم فيها»، ومن هنا قلنا: إنَّ الضمير في {عَنْهَا} عائدٌ على الأشياءِ الأولِ، لا على نوعها.
والثاني: أنَّ الظرف منصوبٌ بـ {تُبْدَ لَكُمْ}، أي: تَظْهَرْ لكم تلك الأشياءُ حين نُزُولِ القرآنِ، قال بعضهم: «في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ؛ لأنَّ التقدير: عن أشياءَ، إنْ تُسْألوا عَنْهَا، تُبْدَ لكم حين نُزولِ القرآنِ، وإن تُبْدَ لَكُمْ، تَسُؤكُمْ»، ولا شك أن المعنى على هذا الترتيب، لا أنه لا يقالُ في ذلك تقديمٌ وتأخيرٌ، فإنَّ الواو لا تقتضي ترتيبًا، فلا فرق، ولكن إنما قُدِّم هذا أولًا على قوله: {وإنْ تَسْألُوا}؛ لفائدةٍ، وهي الزجرُ عن السؤالِ؛ فإنه قدَّم لهم أنَّ سؤالهم عن أشياء متى ظهرتْ، أساءتهم قبل أن يُخْبِرَهم بأنهم إنْ سألُوا عنها، بدتْ لهم لينزجرُوا، وهو معنًى لائقٌ.
قوله: {عَفَا الله عَنْهَا} فيه وجهان:
أحدهما: أنه في محلِّ جرٍّ؛ لأنه صفةٌ أخرى لـ «أشياء»، ولا حاجة إلى ادِّعاء التقديم والتأخيرِ في هذا؛ كما قاله بعضهم، قال: «تقديرُه: لا تَسْألُوا عن أشْيَاءَ عفا الله عَنْهَا إنْ تُبْدً لَكُمْ إلى آخر الآية»؛ لأنَّ كلًا من الجملتين الشرطيَتَيْنِ وهذه الجملة صفةٌ لـ «أشْيَاء»، فمِنْ أين أنَّ هذه الجملةَ مستحقةٌ للتقديمِ على ما قبلها؟ وكأنَّ هذا القائل إنَّما قدَّرَها متقدِّمةً؛ ليتضحَ أنها صفةٌ لا مستأنفةٌ.
والثاني: أنها لا محلَّ لها؛ لاستئنافها، والضميرُ في {عَنْهَا} على هذا يعودُ على المسألةِ المدُلولِ عليها بـ {لا تَسألُوا}، ويجوزُ أنْ تعودَ على {أشْيَاء}، وإنْ كان في الوجه الأولِ يتعيَّن هذا؛ لضرورةِ الربطِ بين الصفةِ والموصوف. اهـ.

.تفسير الآية رقم (102):

قوله تعالى: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما نهى عن السؤال عنها ليتعرف حالها، علل ذلك بأن غيرهم عرف أشياء وطلب أن يعطاها، إما بأن سأل غيره ذلك، وإما بأن شرعها وسأل غيره أن يوافقه عليها وهو قاطع بأنها غاية في الحسن فكانت سبب شقائه فقال: {قد سألها} يعني أمثالها، ولم يقل: سأل عنها، إشارة إلى ما أبدته {قوم} أي أولو عزم وبأس وقيام في الأمور.
ولما كان وجود القوم فضلًا عن سؤالهم لم يستغرق زمان القبل، أدخل الجار فقال: {من قبلكم} ولما كان الشيء إذا جاء عن مسألة جديرًا بالقبول لاسيما إذا كان من ملك فكيف إذا كان من ملك الملوك.
فكان رده في غاية البعد، عبر عن استبعاده بأداة العبد في قوله: {ثم أصبحوا بها} أي عقب إتيانهم إياها سواء من غير مهلة {كافرين} أي ثابتين في الكفر، هذا زجر بليغ لأن يعودوا لمثل ما أرادوا من تحريم ما أحل لهم ميلًا إلى الرهبانية والتعمق في الدين المنهي عنه بقوله: {لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} [المائدة: 87]. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

قال المفسرون: يعني قوم صالح سألوا الناقة ثم عقروها وقوم موسى قالوا: {أَرِنَا الله جَهْرَةً} [النساء: 153] فصار ذلك وبالًا عليهم، وبنو إسرائيل {قَالُواْ لِنَبِىّ لَّهُمُ ابعث لَنَا مَلِكًا نقاتل في سَبِيلِ الله} قال تعالى: {فما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلًا منهم} [البقرة: 246] و{قَالُواْ أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بالملك مِنْهُ} [البقرة: 247] فسألوها ثم كفروا بها، وقوم عيسى سألوا المائدة ثم كفروا بها، فكأنه تعالى يقول أولئك سألوا فلما أعطوا سؤالهم ساءهم ذلك فلا تسألوا عن أشياء فلعلكم إن أعطيتم سؤلكم ساءكم ذلك فإن قيل: إنه تعالى قال: أولا: {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء} [المائدة: 101] ثم قال ههنا: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مّن قَبْلِكُمْ} وكان الأولى أن يقول: قد سأل عنها قوم فما السبب في ذلك.
قلنا الجواب من وجهين: الأول: أن السؤال عن الشيء عبارة عن السؤال عن حالة من أحواله، وصفة من صفاته، وسؤال الشيء عبارة عن طلب ذلك الشيء في نفسه، يقال: سألته درهمًا أي طلبت منه الدرهم ويقال: سألته عن الدرهم أي سألته عن صفة الدرهم وعن نعته، فالمتقدمون إنما سألوا من الله إخراج الناقة من الصخرة، وإنزال المائدة من السماء، فهم سألوا نفس الشيء، وأما أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فهم ما سألوا ذلك، وإنما سألوا عن أحوال الأشياء وصفاتها، فلما اختلف السؤالان في النوع، اختلفت العبارة أيضًا إلا أن كلا القسمين يشتركان في وصف واحد، وهو أنه خوض في الفضول، وشروع فيما لا حاجة إليه، وفيه خطر المفسدة، والشيء الذي لا يحتاج إليه ويكون فيه خطر المفسدة، يجب على العاقل الاحتراز عنه، فبيّن تعالى أن قوم محمد عليه السلام في السؤال عن أحوال الأشياء مشابهون لأولئك المتقدمين في سؤال تلك الأشياء في كون كل واحد منهما فضولًا وخوضًا فيما لا فائدة فيه.
الوجه الثاني: في الجواب أن الهاء في قوله: {قَدْ سَأَلَهَا} غير عائدة إلى الأشياء التي سألوا عنها، بل عائدة إلى سؤالاتهم عن تلك الأشياء، والتقدير: قد سأل تلك السؤالات الفاسدة التي ذكرتموها قوم من قبلكم، فلما أجيبوا عنها أصبحوا بها كافرين. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ} فيه أربعة تأويلات:
أحدها: قوم عيسى سألوه المائدة، ثم كفروا بها، قاله ابن عباس.
والثاني: أنهم قوم صالح سألوا الناقة، ثم عقروها وكفروا به.
والثالث: أنهم قريش سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحوِّل لهم الصفا ذهبًا، قاله السدي.
والرابع: أنهم القوم الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مَنْ أبي؟ ونحوه، فلما أخبرهم به أنكروه وكفروا به، قاله بعض المتأخرين. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {قد سألها قومٌ من قبلكم} في هؤلاء القوم أربعة أقوال:
أحدها: أنهم الذين سألوا عيسى نزول المائدة، قاله ابن عباس، والحسن.
والثاني: أنهم قوم صالح حين سألوا الناقة، هذا على قول السدي.
وهذان القولان يخرجان على أنهما سألوا الآيات.
والثالث: أن القوم هم الذين سألوا في شأن البقرة وذبحها، فلو ذبحوا بقرةً لأجزأت، ولكنهم شدّدوا فشدّد الله عليهم، قاله ابن زيد.
وهذا يخرج على سؤال من سأل عن الحج، إِذ لو أراد الله أن يشدِّد عليهم بالزيادة في الفرض لشدّد.
والرابع: أنهم الذين قالوا لنبيٍ لهم: ابعث لنا ملكًا نقاتل في سبيل الله، وهذا عن ابن زيد أيضًا، وهو يخرج على من قال: إِنما سألوا عن الجهاد والفرائض تمنيًا لذلك.
قال مقاتل: كان بنو إِسرائيل يسألون أنبياءهم عن أشياء، فإذا أخبروهم بها تركوا قولهم ولم يصدّقوهم، فأصبحوا بتلك الأشياء كافرين. اهـ.

.قال الألوسي:

{قَدْ سَأَلَهَا} أي المسألة فالضمير في موقع المصدر لا المفعول به، والمراد سأل مثلها في كونها محظورة ومستتبعة للوبال {قَوْمٌ} وعدم التصريح بالمثل للمبالغة في التحذير، وجوز أن يكون الضمير للأشياء على تقدير المضاف أيضًا فالضمير في موقع المفعول به وذلك من باب الحذف والإيصال والمراد سأل عنها، وقيل: لا حاجة إلى جعله من ذلك الباب لأن السؤال هنا استعطاء وهو يتعدى بنفسه كقولك: سألته درهمًا بمعنى طلبته منه لا استخبار كما في صدر الآية، واختلف في تعيين القوم.
فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه هم قوم عيسى عليه الصلاة والسلام سألوه إنزال المائدة ثم كفروا بها، وقيل: هم قوم صالح عليه السلام سألوه الناقة ثم عقروها وكفروا بها، وقيل: هم قوم موسى عليه السلام سألوه أن يريهم الله تعالى جهرة أو سألوه بيان البقرة.
وعن مقاتل هم بنو إسرائيل مطلقًا كانوا يسألون أنبياءهم عن أشياء فإذا أخبروهم كذبوهم.
وعن السدي هم قريش سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يحول الصفا ذهبًا، وقال الجبائي: كانوا يسألونه صلى الله عليه وسلم عن أنسابهم فإذا أخبرهم عليه الصلاة والسلام لم يصدقوا ويقولوا: ليس الأمر كذلك، ولا يخفى عليك الغث والسمين من هذه الأقوال وأن بعضها يؤيد حمل السؤال على الاستعطاء وبعضها يؤيد حمله على الاستخبار، والحمل على الاستخبار أولى، وإلى تعينه ذهب بعض العلماء.
{مِن قَبْلِكُمْ} متعلق بسألها، وجوز كونه متعلقًا بمحذوف وقع صفة لقوم، واعترض بأن ظرف الزمان لا يكون صفة الجثة ولا حالًا منها ولا خبرًا عنها، وأجيب بأن التحقيق أن هذا مشروط إذا عدمت الفائدة أما إذا حصلت فيجوز كما إذا أشبهت الجثة المعنى في تجددها ووجودها وقتًا دون وقت نحو الليلة الهلال بخلاف زيد يوم السبت وما نحن فيه مما فيه فائدة لأن القوم لا يعلم هل هم ممن مضى أم لا؟ وقال أبو حيان وهو تحقيق بديع غفلوا عنه: هذا المنع إنما هو في الزمان ظرف المجرد عن الوصف أما إذا تضمن وصفًا فيجوز كقبل وبعد فإنهما وصفان في الأصل فإذا قلت جاء زيد قبل عمرو فالمعنى جاء في زمان قبل زمان مجيئه أي متقدم عليه ولذا وقع صلة للموصول، ولو لم يلحظ فيه الوصف وكان ظرف زمان مجرد لم يجز أن يقع صلة ولا صفة.
قال تعالى: {والذين مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21] ولا يجوز والذين اليوم وما نحن فيه من المتضمن لا المجرد وهو ظاهر، وما قيل من أنه ليس من المتنازع فيه في شيء لأن الواقع صفة هو الجار والمجرور لا الظرف نفسه ليس بشيء لأن دخول الجار عليه إذا كان من أول في لا يخرجه عن كونه في الحقيقة هو الصفة أو نحوها فليفهم.
{ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا} أي بسببها، وهو متعلق بقوله سبحانه وتعالى: {كافرين} قدم عليه رعاية للفواصل.
وقرأ أبي {قد سألها قوم بينت لهم فأصبحوا بها كافرين}. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {قد سألها قوم من قبلكم ثُم أصبحوا بها كافرين} استئناف بياني جواب سؤال يثيره النهي عن السؤال ثم الإذن فيه في حين ينزل القرآن، أن يقول سائل: إن كان السؤال في وقت نزول القرآن وأنّ بعض الأسئلة يسوء جوابه قومًا، فهل الأوْلى ترك السؤال أو إلقاؤه.
فأجيب بتفصيل أمرها بأنّ أمثالها قد كانت سببًا في كفر قوممٍ قبل المسلمين.
وضمير {سألها} جُوّز أن يكون عائدًا إلى مصدر مأخوذ من الكلام غير مذكور دلّ عليه فعل {تسألوا}، أي سأل المسألة، فيكون الضمير منصوبًا على المفعولية المطلقة.
وجرى جمهور المفسّرين على تقدير مضاف، أي سأل أمثالها.
والمماثلة في ضآلة الجدوى.
والأحسن عندي أن يكون ضمير {سألها} عائدًا إلى {أشياء}، أي إلى لفظه دون مدلوله.
فالتقدير: قد سأل أشياء قومٌ من قبلكم، وعدّي فعل {سأل} إلى الضمير على حذف حرف الجرّ، وعلى هذا المعنى يكون الكلام على طريقة قريبة من طريقة الاستخدام بل هي أحقّ من الاستخدام، فإنّ أصل الضمير أن يعود إلى لفظ باعتبار مدلوله وقد يعود إلى لفظ دون مدلوله، نحو قولك: لك درهم ونصفه، أي نصف درهم لا الدرهم الذي أعطيته إياه.