فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ} هي فعيلة بمعنى مفعولة من البحر وهو الشق والتاء للنقل إلى الإسمية أو لحذف الموصوف، قال الزجاج: كان أهل الجاهلية إذا نتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر بحروا أذنها وشقوها وامتنعوا من نحرها وركوبها ولا تطرد من ماء ولا تمنع عن مرعى وهي البحيرة، وعن قتادة أنها إذا نتجت خمسة أبطن نظر في الخامس فإن كان ذكرًا ذبحوه وأكلوه وإن كان أنثى شقوا أذنها وتركوها ترعى ولا يستعملها أحد في حلب وركوب ونحو ذلك، وقيل: البحيرة هي الأنثى التي تكون خامس بطن وكانوا لا يحلون لحمها ولبنها للنساء فإن ماتت اشترك الرجال والنساء في أكلها، وعن محمد بن إسحاق ومجاهد أنها بنت السائبة، وستأتي إن شاء الله تعالى قريبًا وكانت تهمل أيضًا.
وقيل: هي التي ولدت خمسًا أو سبعًا، وقيل: عشرة أبطن وتترك هملًا وإذا ماتت حل لحمها للرجال خاصة.
وعن ابن المسيب أنها التي منع لبنها للطواغيت فلا تحلب، وقيل: هي التي ولدت خمس إناث فشقوا أذنهاوتركوها هملًا، وجعلها في «القاموس» على هذا القول من الشاء خاصة، وكما تسمى بالبحيرة تسمى بالغزيرة أيضًا.
«وقيل: هي السقب الذي إذا ولد شقوا أذنه وقالوا: اللهم إن عاش فَفَتِيّ وإن مات فذكي فإذا مات أكلوه»، وقيل: هي التي تترك في المرعى بلا راع.
{وَلاَ سَائِبَةٍ} هي فاعلة من سيبته أي تركته وأهملته فهو سائب وهي سائبة أو بمعنى مفعول كـ{عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [الحاقة: 21، القارعة: 7].
واختلف فيها فقيل هي الناقة تبطن عشرة أبطن إناث فتهمل ولا تركب ولا يجز وبرها ولا يشرب لبنها إلا ضيف ونسب إلى محمد بن إسحاق، وقيل: هي التي تسيب للأصنام فتعطى للسدنة ولا يطعم من لبنها إلا أبناء السبيل ونحوهم وروي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم، وقيل: هي البعير يدرك نتاج نتاجه فيترك ولا يركب، وقيل: «كان الرجل إذا قدم من سفر بعيد أو نجت دابته من مشقة أو حرب قال: هي سائبة أو كان ينزع من ظهرها فقارة أو عظمًا وكانت لا تمنع عن ماء ولا كلأ ولا تركب»، وقيل: هي ما ترك ليحج عليه، وقيل: هي العبد يعتق على أن لا يكون عليه ولاء ولا عقل ولا ميراث.
{وَلاَ وَصِيلَةٍ} هي فعيلة بمعنى فاعلة؛ وقيل: مفعولة والأول أظهر كما ينبىء عن ذلك بيان المراد بها.
واختلف فيه فقال الفراء: هي الشاة تنتج سبعة أبطن عناقين عناقين وإذا ولدت في آخرها عناقًا وجديًا قيل: وصلت أخاها فلا يشرب لبن الأم إلا الرجال دون النساء وتجرى مجرى السائبة، وقال الزجاج: هي الشاة إذا ولدت ذكرًا كان لآلهتهم وإذا ولدت أنثى كانت لهم وإن ولدت ذكرًا وأنثى قالوا: وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم.
وقيل: هي الشاة تلد ذكرًا ثم أنثى فتصل أخاها فلا يذبحون أخاها من أجلها وإذا ولدت ذكرًا قالوا: هذا قربان لآلهتنا.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هي الشاة تنتج سبعة أبطن فإن كان السابع أنثى لم ينتفع النساء منها بشيء إلا أن تموت فتأكلها الرجال والنساء وكذا إن كان ذكرًا وأنثى قالوا وصلت أخاها فتترك معه ولا ينتفع بها إلا الرجال دون النساء فإن ماتت اشتركوا فيها.
وقال ابن قتيبة: إن كان السابع ذكرًا ذبح وأكلوا منه دون النساء وقالوا: خالصة لذكورنا محرمة على أزواجنا وإن كانت أنثى تركت في الغنم وإن كان ذكرًا وأنثى فكقول ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وقال محمد بن إسحاق: وهي الشاة تنتج عشر إناث متواليات في خمسة أبطن فما ولدت بعده للذكور دون الإناث فإذا ولدت ذكرًا وأنثى معًا قالوا: وصلت أخاها فلم يذبحوه لمكانها، وقيل: هي الشاة تنتج خمسة أبطن أو ثلاثة فإن كان جديًا ذبحوه وإن كان أنثى أبقوها وإن كان ذكرًا وأنثى قالوا: وصلت أخاها، وقال بعضهم: الوصيلة من الإبل وهي الناقة تبكر فتلد أنثى ثم تثني بولادة أنثى أخرى ليس بينهما ذكر فيتركونها لآلهتهم ويقولون: قد وصلت أنثى بأنثى ليس بينهما ذكر.
وقيل: هي الناقة التي وصلت بين عشرة أبطن لا ذكر بينها.
{وَلاَ حَامٍ} هو فاعل من الحمى بمعنى المنع.
واختلف فيه أيضًا فقال الفراء: هو الفحل إذ لقح ولد ولده فيقولون: قد حمى ظهره فيهمل ولا يطرد عن ماء ولا مرعى، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وابن مسعود وهو قول أبي عبيدة والزجاج أنه الفحل يولد من ظهره عشرة أبطن فيقولون: حمى ظهره فلا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ومرعى.
وعن الشافعي أنه الفحل يضرب في مال صاحبه عشر سنين، وقيل: هو الفحل ينتج له سبع أإاث متواليات فيحمى ظهره، وجمع بين الأقوال المتقدمة في كل من تلك الأنواع بأن العرب كانت تختلف أفعالهم فيها.
والمراد من هذه الجملة رد وإبطال لما ابتدعه أهل الجاهلية.
ومعنى {مَّا جَعَلَ} ما شرع ولذلك عدي إلى مفعول واحد وهو {بَحِيرَةٍ} وما عطف عليها.
و{مِنْ} سيف خطيب أتى بها لتأكيد النفي.
وأنكر بعضهم مجىء جعل بمعنى شرع عن أحد من أهل اللغة وجعلها هنا للتصيير والمفعول الثاني محذوف أي ما جعل البحيرة ولا ولا مشروعة وليس كما قال فإن الراغب نقل ذلك عن أهل اللغة وهو ثقة لا يفتري عليهم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ}.
استئناف ابتدائي جاء فارقًا بين ما أحدثه أهل الجاهلية من نقائض الحنيفية وبين ما نوّه الله به ممّا كانوا عليه من شعائر الحج، فإنّه لمّا بيّن أنّه جعل الكعبة قيامًا للناس وجعل الهدْي والقلائد قيامًا لهم، بيّن هنا أنّ أمورًا ما جعلها الله ولكن جعلها أهل الضلالة ليميز الخبيث من الطيّب، فيكون كالبيان لآية {قل لا يستوي الخبيث والطيّب} [المائدة: 100]، فإنّ البَحيرة وما عطف عليها هنا تشبهُ الهدي في أنّها تحرّر منافعها وذواتها حيّة لأصنامهم كما تهدي الهدايا للكعبة مذكّاة، فكانوا في الجاهلية يزعمون أنّ الله شرع لهم ذلك ويخلطون ذلك بالهدايا، ولذلك قال الله تعالى: {قل هلمَّ شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرَّم هذا} وقال في هذه الآية: {ولكنّ الذين كفروا يفترون على الله الكذب}.
فالتصدّي للتفرقة بين الهدي وبين البحيرة والسائبة ونحوهما، كالتصدّي لبيان عدم التفرقة بين الطواف وبين السعي للصفا والمروة في قوله: {إنّ الصفا والمروة من شعائر الله} [البقرة: 158] كما تقدّم هنالك.
وقد قدّمنا ما رواه مجاهد عن ابن عباس: أنّ ناسًا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحيرة والسائبة ونحوهما فنزلت هذه الآية.
وممّا يزيدك ثقة بما ذكرته أنّ الله افتتح هذه الآية بقوله: {ما جعل الله} لتكون مقابلًا لقوله في الآية الأخرى {جعل الله الكعبة} [المائدة: 97].
ولولا ما توسّط بين الآيتين من الآي الكثيرة لكانت هذه الآية معطوفة على الأولى بحرف العطف إلاّ أنّ الفصل هنا كان أوقع ليكون به استقلال الكلام فيفيد مزيد اهتمام بما تضمّنه.
والجعل هنا بمعنى الأمر والتشريع، لأنّ أصل «جعل» إذَا تعدّى إلى مفعول واحد أن يكون بمعنى الخلق والتكوين، ثم يستعار إلى التقدير والكتْب كما في قولهم: فرض عليه جعالة، وهو هنا كذلك فيؤول إلى معنى التقدير والأمر بخلاف ما وقع في قوله: {جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس} [المائدة: 97].
فالمقصود هنا نفي تشريع هذه الأجناس من الحقائق فإنّها موجودة في الواقع.
فنفي جعلها مُتعيّن لأن يكون المراد منه نفيَ الأمر والتشريع، وهو كناية عن عدم الرضا به والغضببِ على من جعله، كما يقول الرجل لمن فعل شيئًا: ما أمرتك بهذا.
فليس المراد إباحته والتخيير في فعله وتركه كما يستفاد من المقام، وذلك مثل قوله: {قل هلمّ شهداءكم الذين يشهدون أنّ الله حرّم هذا} [الأنعام: 150] فإنّه كناية عن الغضب على من حرّموه، وليس المراد أنّ لهم أن يجتنبوه.
وأدخلت «من» الزائدة بعد النفي للتنصيص على أنّ النفي نفي الجنس لا نفي أفراد معيّنة، فقد ساوى أن يقال: لاَ بحيرة ولاَ سائبةَ مع قضاء حقّ المقام من بيان أنّ هذا ليس من جعل الله وأنّه لا يَرضى به فهو حرام.
والبَحيرة بفتح الباء الموحّدة وكسر الحاء المهملة فَعِيلة بمعنى مفعولة، أي مبحورة، والبَحْر الشقّ.
يقال: بحرَشقّ.
وفي حديث حفر زمزم أنّ عبد المطلب بَحَرَها بَحْرًا، أي شقّها ووسّعها.
فالبحيرة هي الناقة، كانوا يشقّون أذنها بنصفين طولًا علامة على تخليتها، أي أنّها لا تركب ولا تنحر ولا تمنع عن ماء ولا عن مرعى ولا يَجزرونها ويكون لبنها لطواغيتهم، أي أصنامهم، ولا يشرب لبنها إلاّ ضيف، والظاهر أنّه يشربه إذا كانت ضيافة لزيارة الصنم أو إضافة سادنه، فكلّ حيّ من أحياء العرب تكون بحائرهم لصنمهم.
وقد كانت للقبائل أصنام تدين كلّ قبيلة لصنم أو أكثر.
وإنّما يجعلونها بحيرة إذا نُتجت عشرة أبطن على قول أكثر أهل اللغة.
وقيل: إذا نُتجت خمسة أبطن وكان الخامس ذكرًا.
وإذا ماتت حتف أنفها حلّ أكل لحمها للرجال وحرم على النساء.
والسائبة: البعير أو الناقة يجعل نَذرًا عن شفاء من مرض أو قدوم من سفر، فيقول: أجعله لله سائبة.
فالتاء فيه للمبالغة في الوصف كتاء نسّابة، ولذلك يقال: عبد سائبة، وهو اسم فاعل بمعنى الانطلاق والإهمال، وقيل: فاعل بمعنى مفعول، أي مسيّب.
وحكم السائبة كالبحيرة في تحريم الانتفاع، فيكون ذلك كالعتق وكانوا يدفعونها إلى السدنة ليُطعموا من ألبانها أبناء السبيل.
وكانت علامتها أن تقطع قطعة من جلدة فَقار الظهر، فيقال لها: صَريم وجمعه صُرُم، وإذا ولدت الناقة عشرة أبطن كلّهنّ إناث متتابعة سيّبوها أيضًا فهي سائبة، وما تلده السائبة يكون بحيرة في قول بعضهم.
والظاهر أنّه يكون مثلها سائبة.
والوصيلة من الغنم هي الشاة تلد أنثى بعد أنثى، فتسمّى الأمّ وصيلة لأنّها وصلت أنثى بأنثى، كذا فسّرها مالك في رواية ابن وهب عنه، فعلى هذه الرواية تكون الوصيلة هي المتقرّب بها، ويكون تسليط نفي الجعل عليها ظاهرًا.
وقال الجمهور: الوصيلة أن تلد الشاة خمسة أبطن أو سبعة (على اختلاف مصطَلَح القبائل) فالأخير إذا كان ذكرًا ذبحوه لبيوت الطواغيت وإن كانت أنثى استحيوها، أي للطواغيت، وإن أتأمت استحيوهما جميعًا وقالوا: وَصَلت الأنثى أخاها فمنعته من الذبح، فعلى هذا التأويل فالوصيلة حالة من حالات نسل الغنم، وهي التي أبطلها الله تعالى، ولم يتعرّضوا لبقية أحوال الشاة.
والأظهر أنّ الوصيلة اسم للشاة التي وصلت سبعة أبطن إناثًا، جمعًا بين تفسير مالك وتفسير غيره، فالشاة تسيّب للطواغيت، وما ذكروه من ذبح ولدها أو ابنتها هو من فروع استحقاق تسييبها لتكون الآية شاملة لأحوالها كلّها.
وعن ابن إسحاق: الوصيلة الشاة تتئم في خمسة أبطن عشرة إناث فما ولدت بعد ذلك فهو للذكور منهم دون النساء إلاّ أن يموت شيء منها فيشترك في أكله الرجال والنساء.
وفي «صحيح البخاري» عن سعيد بن المسيّب: أنّ الوصيلة من الإبل إذا بكّرت الناقة في أول إنتاج الإبل بأنثى ثم تثنّي بعد بأنثى في آخر العام فكانوا يجعلونها لطواغيتهم.
وهذا قاله سعيد من نفسه ولم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم ووقع في سياق البخاري إيهام اغترّ به بعض الشارحين ونبّه عليه في «فتح الباري».
وعلى الوجوه كلّها فالوصيلة فعيلة بمعنى فاعلة.
والحامي هو فحل الإبل إذا نُتجت من صلبه عشرة أبطن فيمنع من أن يركب أو يحمل عليه ولا يمنع من مرعًى ولا ماء.
ويقولون: إنّه حمى ظهره، أي كان سببًا في حمايته، فهو حام.
قال ابن وهب عن مالك، كانوا يجعلون عليه ريش الطواويس ويسيّبونه، فالظاهر أنّه يكون بمنزلة السائبة لا يؤكل حتى يموت وينتفع بوبره للأصنام. اهـ.