فصل: من فوائد ابن العربي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد ابن العربي في الآية:

قال رحمه الله:
قَوْله تَعَالَى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}.
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {جَعَلَ}: وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْسِيمُهُ وَتَفْسِيرُهُ، وَمَعْنَى اللَّفْظِ هَاهُنَا: مَا سَمَّى اللَّهُ ذَلِكَ حُكْمًا وَلَا يُعْتَدُّ بِهِ شَرْعًا، بَيْدَ أَنَّهُ قَضَى بِهِ عِلْمًا، وَأَوْجَدَهُ بِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ خَلْقًا؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَنَفْعٍ وَضُرٍّ، وَطَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِ الْمُسَمَّيَاتِ فِيهَا لُغَةٌ: فَالْبَحِيرَةُ، هِيَ: النَّاقَةُ الْمَشْقُوقَةُ الْأُذُنُ لُغَةً، يُقَالُ: بَحَرْت أُذُنَ النَّاقَةِ أَيْ شَقَقْتهَا.
وَالسَّائِبَةُ، هِيَ: الْمُخَلَّاةُ لَا قَيْدَ عَلَيْهَا وَلَا رَاعِيَ لَهَا.
وَالْوَصِيلَةُ فِي الْغَنَمِ: كَانَتْ الْعَرَبُ إذَا وَلَدَتْ الشَّاةُ أُنْثَى كَانَتْ لَهُمْ، وَإِنْ وَلَدَتْ ذَكَرًا كَانَتْ لِآلِهَتِهِمْ، وَإِنْ وَلَدَتْ ذَكَرًا وَأُنْثَى قَالُوا: وَصَلَتْ أَخَاهَا، فَكَانَ الْكُلُّ لِلْآلِهَةِ، وَلَمْ يَذْبَحُوا الذَّكَرَ.
وَالْحَامِي: كَانَتْ الْعَرَبُ إذَا نَتَجَتْ مِنْ صُلْبِ الْفَحْلِ عَشَرَةُ أَبْطُنٍ قَالُوا: حَمَى ظَهْرَهُ فَسَيَّبُوهُ لَا يُرْكَبُ وَلَا يُهَاجُ.
وَلِهَذِهِ الْآيَةِ تَفْسِيرٌ طَوِيلٌ بِاخْتِلَافٍ كَثِيرٍ يَرْجِعُ إلَى مَا أَوْضَحَهُ مَالِكٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ.
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: قَالَ مَالِكٌ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْتِقُونَ الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ يُسَيِّبُونَهَا، فَأَمَّا الْحَامِي فَمِنْ الْإِبِلِ؛ كَانَ الْفَحْلُ إذَا انْقَضَى ضِرَابُهُ جَعَلُوا عَلَيْهِ مِنْ رِيشِ الطَّوَاوِيسِ وَسَيَّبُوهُ.
وَأَمَّا الْوَصِيلَةُ فَمِنْ الْغَنَمِ وَلَدَتْ أُنْثَى بَعْدَ أُنْثَى سَيَّبُوهَا.
وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ وَغَيْرُهُ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَوَّلُ مَنْ نَصَبَ النُّصُبَ، وَسَيَّبَ السَّوَائِبَ، وَغَيَّرَ عَهْدَ إبْرَاهِيمَ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ؛ وَلَقَدْ رَأَيْته يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، يُؤْذِي أَهْلَ النَّارِ بِرِيحِهِ».
قَالَ: وَأَوَّلُ مَنْ بَحَرَ الْبَحَائِرَ «رَجُلٌ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ عَمَدَ إلَى نَاقَتَيْنِ لَهُ، فَجَدَعَ آذَانَهُمَا، وَحَرَّمَ أَلْبَانَهُمَا وَظُهُورَهُمَا، ثُمَّ احْتَاجَ إلَيْهِمَا، فَشَرِبَ أَلْبَانَهُمَا، وَرَكِبَ ظُهُورَهُمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ رَأَيْتهمَا فِي النَّارِ يَخْبِطَانِهِ بِأَخْفَافِهِمَا وَيَعَضَّانِهِ بِأَفْوَاهِهِمَا».
وَنَحْوُهُ عَلِيُّ بْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: «لَقَدْ رَأَيْته يُؤْذِي أَهْلَ النَّارِ بِرِيحِهِ» وَلَمْ يَزِدْ.
وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ: السَّوَائِبُ الْغَنَمُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: الْبَحِيرَةُ بِنْتُ السَّائِبَةِ.
وَالسَّائِبَةُ هِيَ النَّاقَةُ إذَا تَابَعَتْ بَيْنَ عَشْرِ إنَاثٍ لَيْسَ بَيْنَهُنَّ ذَكَرٌ لَمْ يَرْكَبْ ظَهْرَهَا، وَلَمْ يُجَزَّ وَبَرَهَا، وَلَمْ يَشْرَبْ لَبَنَهَا إلَّا ضَيْفٌ فَمَا نَتَجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أُنْثَى شُقَّتْ أُذُنُهَا، وَخُلِّيَ سَبِيلُهَا مَعَ أُمِّهَا، فَلَمْ يَرْكَبْ ظَهْرَهَا، وَلَمْ يَجُزَّ وَبَرَهَا، وَلَمْ يَشْرَبْ لَبَنَهَا إلَّا ضَيْفٌ، كَمَا فُعِلَ بِأُمِّهَا؛ فَهِيَ الْبَحِيرَةُ بِنْتُ السَّائِبَةِ.
وَالْوَصِيلَةُ: الشَّاةُ إذَا أَتَأَمَّتْ عَشْرَ إنَاثٍ مُتَتَابِعَاتٍ فِي خَمْسَةِ أَبْطُنٍ لَيْسَ بَيْنَهُنَّ ذَكَرٌ جُعِلَتْ وَصِيلَةً، قَالُوا: قَدْ وُصِلَتْ، فَكَانَ مَا وَلَدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لِلذُّكُورِ مِنْهُمْ دُونَ الْإِنَاثِ إلَّا أَنْ يَمُوتَ مِنْهَا شَيْءٌ فَيَشْتَرِكُونَ فِي أَكْلِهِ ذُكُورُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ.
وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِ ابْنِ إِسْحَاقَ: فَكَانَ مَا وَلَدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لِذُكُورِهِمْ دُونَ إنَاثِهِمْ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَالْحَامِي الْفَحْلُ إذَا نَتَجَ لَهُ عَشْرُ إنَاثٍ مُتَتَابِعَاتٍ لَيْسَ بَيْنَهُنَّ ذَكَرٌ حُمِيَ ظَهْرُهُ، فَلَمْ يُرْكَبْ ظَهْرُهُ، وَلَمْ يُجَزَّ وَبَرُهُ، وَخُلِّيَ فِي إبِلِهِ يَضْرِبُ، لَا يُنْتَفَعُ مِنْهُ بِشَيْءٍ بِغَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْبَحِيرَةُ النَّاقَةُ.
وَالْوَصِيلَةُ الشَّاةُ.
وَالْحَامِي الْفَحْلُ.
وَسَائِبَةٌ يَقُولُ يُسَيِّبُونَهَا لِأَصْنَامِهِمْ.
وَرُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى عَمْرَو بْنَ لُحَيِّ بْنَ قَمْعَةَ بْنَ خِنْدِفٍ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ.
قَالَ: فَسَأَلْته عَمَّنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ مِنْ النَّاسِ.
قَالَ: هَلَكُوا»
.
وَرُوِيَ أَنَّ سَبَبَ نَصْبِ الْأَوْثَانِ وَتَغْيِيرِ دِينِ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ إلَى الشَّامِ، فَلَمَّا قَدِمَ مَأْرِبَ مِنْ أَرْضِ الْبَلْقَاءِ؛ وَبِهَا يَوْمَئِذٍ الْعَمَالِيقُ أَوْلَادُ عِمْلِيقَ، وَيُقَالُ عِمْلَاقُ بْنُ لَاوِذْ بْنُ سَامِ بْنُ نُوحٍ، رَآهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ، فَقَالَ لَهُمْ: مَا هَذِهِ الْأَصْنَامُ الَّتِي أَرَاكُمْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: هَذِهِ أَصْنَامٌ نَسْتَمْطِرُهَا فَتُمْطِرُنَا، وَنَسْتَنْصِرُنَا فَتَنْصُرُهَا.
فَقَالَ لَهُمْ: أَفَلَا تُعْطُونِي مِنْهَا صَنَمًا أَسِيرُ بِهِ إلَى أَرْضِ الْعَرَبِ فَيَعْبُدُوهُ؟ فَأَعْطَوْهُ صَنَمًا يُقَالُ لَهُ هُبَلُ.
فَقَدِمَ بِهِ مَكَّةَ فَنَصَبَهُ، وَأَخَذَ النَّاسُ بِعِبَادَتِهِ وَتَعْظِيمِهِ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا بِزَعْمِهِمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لِرِضَا رَبِّهِمْ وَفِي طَاعَتِهِ، وَطَاعَةُ اللَّهِ وَرِضَاهُ إنَّمَا تُعْلَمُ مِنْ قَوْلِهِ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ لِلَّهِ بِذَلِكَ قَوْلٌ، فَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَفْتَرُونَهُ عَلَى اللَّهِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}.
وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ اللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ}.
وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنْ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمْ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَمِنْ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمْ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إذْ وَصَّاكُمْ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ: {وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا}.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِأَكْثَمَ بْنِ الْجَوْنِ: «رَأَيْت عَمْرَو بْنَ لُحَيِّ بْنَ قَمْعَةَ بْنَ خِنْدِفٍ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، فَمَا رَأَيْت رَجُلًا أَشْبَهَ بِرَجُلٍ مِنْك بِهِ وَلَا بِهِ مِنْك.
فَقَالَ أَكْثَمُ: أَخْشَى أَنْ يَضُرَّنِي شَبَهُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ: لَا؛ لَأَنَّك مُؤْمِنٌ وَهُوَ كَافِرٌ؛ إنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إسْمَاعِيلَ، وَبَحَرَ الْبَحِيرَةَ، وَسَيَّبَ السَّائِبَةَ، وَحَمَى الْحَامِيَ»
.
وَرَوَى أَبُو الْأَحْوَصِ عَوْنُ بْنُ مَالِكٍ بْنُ نَضْلَةَ الْجُشَمِيُّ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّهُ وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَرَبُّ إبِلٍ أَنْتَ أَمْ رَبُّ غَنَمٍ؟ فَقَالَ: مِنْ كُلِّ الْمَالِ آتَانِي اللَّهُ فَأَكْثَرَ وَأَطْيَبَ.
فَقَالَ: هَلْ تُنْتِجُ إبِلُك صِحَاحًا آذَانُهَا فَتَعْمِدَ إلَى الْمَوَاسِي فَتَقْطَعَ آذَانَهَا، فَتَقُولَ: هَذِهِ بُحُرٌ.
وَتَشُقُّ جُلُودَهَا، فَتَقُولَ: هَذِهِ صُرُمٌ، فَتُحَرِّمُهَا عَلَيْك وَعَلَى أَهْلِك؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَحَلَّ لَك مَا آتَاك، وَمُوسَى اللَّهِ أَحَدُّ، وَسَاعِدُ اللَّهِ أَشَدُّ»
.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: لَمَّا ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى الْعَرَبَ عَلَى مَا كَانَتْ تَفْعَلُهُ مِنْ ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ تَحْذِيرًا لِلْأُمَّةِ عَنْ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ مِنْ الْبَاطِلِ، وَلَزِمَهُمْ الِانْقِيَادُ إلَى مَا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، دُونَ التَّعَلُّقِ بِمَا كَانَ يُلْقِيهِ إلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ مِنْ الْأَبَاطِيلِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: الْحَبْسُ الَّذِي جَاءَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِطْلَاقِهَا الَّتِي فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ}.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: هَذَا الَّذِي كَلَّمَ بِهِ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ أَبَا يُوسُفَ عِنْدَ هَارُونَ.
وَهَذِهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ أَبَا يُوسُفَ خَالَفَ مَالِكًا فِي الْأَحْبَاسِ، وَرَأَى رَأْيَ شَيْخِهِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنَّ الْحَبْسَ بَاطِلٌ.
وَرَوَى عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: حَضَرْت مَالِكًا وَقَدْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ عَنْ صَدَقَةِ الْحَبْسِ، فَقَالَ: إذَا حِيزَتْ مَضَتْ.
قَالَ الْعِرَاقِيُّ: إنَّ شُرَيْحًا قَالَ: لَا حَبْسَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ.
فَضَحِكَ مَالِكٌ، وَكَانَ قَلِيلَ الضَّحِكِ، وَقَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ شُرَيْحًا لَوْ دَرَى مَا صَنَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَاهُنَا.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مَالِكًا قَالَ لَهُ أَبُو يُوسُفَ بِحَضْرَةِ الرَّشِيدِ: إنَّ الْحَبْسَ لَا يَجُوزُ.
فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: فَهَذِهِ الْأَحْبَاسُ أَحْبَاسُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ وَفَدَكَ وَأَحْبَاسُ أَصْحَابِهِ؟ فَأَمَّا «حَظُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ».
وَأَمَّا أَصْحَابُهُ: فَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَطَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرِ، وَعَائِشَةَ، وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَرَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، وَخَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَجَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَابْنَ عُمَرَ، وَأُمَّ سَلَمَةَ، وَحَفْصَةَ، وَقَدْ رَوَى حَدِيثَ عُمَرَ جَمَاعَةٌ، قَالُوا: «إنَّ عُمَرَ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنِّي أَصَبْت مَالًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ قَطُّ مَالًا أَنْفَسَ مِنْهُ يَعْنِي بِسَمْعٍ، وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: احْبِسْ الْأَصْلَ وَسَبِّلْ الثَّمَرَاتِ»
.
وَأَشَارَ بِهِ إلَى الصَّدَقَةِ الدَّائِمَةِ فَإِنَّهُ لَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عُمَرُ صَدَقَةً فَبِيعَ لَانْقَطَعَ أَجْرُهُ فِي الْحَبْسِ؛ وَكَتَبَ عُمَرُ فِي شَرْطِهِ: «هَذَا مَا تَصَدَّقَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ صَدَقَةً لَا تُبَاعُ وَلَا تُورَثُ وَلَا تُوهَبُ، لِلْفُقَرَاءِ، وَالْقُرْبَى، وَالرِّقَابِ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالضَّيْفِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالًا».
وَجَاءَ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ هَذِهِ أُمَّهَاتُهَا.
وَتَعَلَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَابَ عَلَى الْعَرَبِ مَا كَانَتْ تَفْعَلُ مِنْ تَسْيِيبِ الْبَهَائِمِ وَحِمَايَتِهَا وَحَبْسِ أَنْفُسِهَا عَنْهَا.
وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَابَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَصَرَّفُوا بِعُقُولِهِمْ بِغَيْرِ شَرْعٍ تَوَجَّهَ إلَيْهِمْ، أَوْ تَكْلِيفٍ فُرِضَ عَلَيْهِمْ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا عَابَ عَلَيْهِمْ أَنْ نَقَلُوا الْمِلْكَ إلَى غَيْرِ مَالِكٍ، وَالْمِلْكُ قَدْ عَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَمْوَالِ، وَجَعَلَ الْأَيْدِي تَتَبَادَلُ فِيهِ بِوُجُوهٍ شَرْعِيَّةٍ، أَوْ تَبْطُلُ فِي الْأَعْيَانِ بِمَعَانٍ قَرِيبَةٍ، كَالْعِتْقِ وَالْهَدْيِ؛ فَأَمَّا هَذِهِ الطَّرِيقُ فَبِدْعَةٌ.
قُلْنَا: بَلْ سُنَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ.
جَوَابٌ ثَانٍ: وَذَلِكَ أَنَّ الْحَبْسَ عِنْدَنَا لَا يَنْقُلُ الْمِلْكَ؛ بَلْ يَبْقَى عَلَى حُكْمِ مَالِكِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْحَبْسُ فِي الْغَلَّةِ وَالْمَنْفَعَةِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَفِي الْقَوْلِ الثَّانِي يُنْقَلُ الْمِلْكُ إلَى الْمَحْبُوسِ عَلَيْهِ وَهُوَ مَالِكٌ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا كَانَ يَصِحُّ هَذَا لَوْ كَانُوا مُعَيَّنِينَ، فَأَمَّا الْمَجْهُولُ وَالْمَعْدُومُ فَلَا يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ إلَيْهِ.
قُلْنَا: هَذَا يَبْطُلُ بِأَرْبَعَةِ مَسَائِلَ: الْأُولَى الْمَسْجِدُ.
الثَّانِيَةُ الْمَقْبَرَةُ.
الثَّالِثَةُ الْقَنْطَرَةُ، قَالُوا يَصِحُّ هَذَا، وَهُوَ حَبْسٌ عَلَى مَعْدُومٍ وَمَجْهُولٍ وَهُوَ الرَّابِعُ.
جَوَابٌ خَامِسٌ: وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ نَاقَضَ؛ فَقَالَ: إذَا أَوْصَى بِالْحَبْسِ جَازَ، وَهَذِهِ الْمُنَاقَضَاتُ الْخَمْسُ لَا جَوَابَ لَهُ عَنْهَا إلَّا وَيَنْعَكِسُ عَلَيْهِمْ فِي مَسْأَلَتِنَا، وَلَهُمْ آثَارٌ لَمْ نَرْضَ ذِكْرَهَا لِبُطْلَانِهَا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي عِتْقِ السَّائِبَةٍ: قَالَ أَصْبَغُ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ: أَكْرَهُ عِتْقَ السَّائِبَةِ؛ لِأَنَّهُ كَهِبَةِ الْوَلَاءِ.