فصل: مُلَخَّصُ مَا حَقَّقَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَأَمَّا بُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا فِي إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ عَلَى إِبْطَالِ الْقِيَاسِ، فَإِنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ اثْنَانِ فِي أَنَّ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ مُصَدِّقُونَ بِالْقُرْآنِ وَفِيهِ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (5: 3) {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (4: 59) فَمِنَ الْبَاطِلِ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ يَعْلَمُونَ هَذَا وَيُؤْمِنُونَ بِهِ ثُمَّ يَرُدُّونَ عِنْدَ التَّنَازُعِ إِمَّا إِلَى قِيَاسٍ أَوْ رَأْيٍ. هَذَا مَا لَا يَظُنُّهُ بِهِمْ ذُو عَقْلٍ.
فَكَيْفَ وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي أَوْ أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي، إِنْ قُلْتُ فِي آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ بِرَأْيِي، أَوْ بِمَا لَا أَعْلَمُ» وَصَحَّ عَنِ الْفَارُوقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «اتَّهِمُوا الرَّأْيَ عَلَى الدِّينِ، وَإِنَّ الرَّأْيَ مِنَّا هُوَ الظَّنُّ وَالتَّكَلُّفُ» وَعَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي فُتْيَا أَفْتَاهَا «إِنَّمَا كَانَ رَأْيًا رَأَيْتُهُ فَمَنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ» وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ» وَعَنْ سَهْلِ بْنِ حَنِيفٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ» وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ جَهَنَّمَ» وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «سَأَقُولُ فِيهَا بِجُهْدِ رَأْيِي». وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ فِي حَدِيثِ: «تَبْتَدِعُ كَلَامًا لَيْسَ مِنْ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُ؛ فَإِنَّهُ بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ» فَعَلَى هَذَا النَّحْوِ هُوَ كُلُّ رَأْيٍ.
وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ لَا عَلَى أَنَّهُ إِلْزَامٌ وَلَا أَنَّهُ حَقٌّ، وَلَكِنَّهُ إِشَارَةٌ بِعَفْوٍ أَوْ صُلْحٍ أَوْ تَوَرُّعٍ فَقَطْ لَا عَلَى سَبِيلِ الْإِيجَابِ... وَحَدِيثُ مُعَاذٍ الَّذِي فِيهِ: «أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلَا آلُو» لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ إِلَّا الْحَارِثُ بْنُ عَمْرٍو وَهُوَ مَجْهُولٌ لَا يُدْرَى مَنْ هُوَ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَهْلِ حِمْصَ لَمْ يُسَمِّهِمْ عَنْ مُعَاذٍ. وَقَدْ تَقَصَّيْنَا إِسْنَادَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ كُلِّهَا فِي كُتُبِنَا الْمَذْكُورَةِ وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ.
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ قَاسِمٍ، نَا ابْنُ قَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ قَاسِمٍ، نَا جَدِّي قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيُّ، نَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، نَا عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، نَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُصَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً أَعْظَمُهَا فِتْنَةً عَلَى أُمَّتِي قَوْمٌ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ، فَيُحِلُّونَ الْحَرَامَ وَيُحَرِّمُونَ الْحَلَالَ».
قَالَ عَلِيٌّ: وَالشَّرِيعَةُ كُلُّهَا إِمَّا فَرْضٌ يَعْصِي مَنْ تَرَكَهُ، وَإِمَّا حَرَامٌ يَعْصِي مَنْ فَعَلَهُ، وَإِمَّا مُبَاحٌ لَا يَعْصِي مَنْ فَعَلَهُ وَلَا مَنْ تَرَكَهُ. وَهَذَا الْمُبَاحُ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: إِمَّا مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ يُؤْجَرُ مَنْ فَعَلَهُ وَلَا يَعْصِي مَنْ تَرَكَهُ، وَإِمَّا مَكْرُوهٌ يُؤْجَرُ مَنْ تَرَكَهُ وَلَا يَعْصِي مَنْ فَعَلَهُ، وَإِمَّا مُطْلَقٌ لَا يُؤْجَرُ مَنْ فَعَلَهُ وَلَا مَنْ تَرَكَهُ، وَلَا يَعْصِي مَنْ تَرَكَهُ وَلَا مَنْ فَعَلَهُ. وَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (2: 29) وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} (6: 119) فَصَّحَ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ حَلَالٌ إِلَّا مَا فُصِّلَ تَحْرِيمُهُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ. حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ، نَا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، نَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، نَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، نَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، نَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، نَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، نَا الرَّبِيعُ بْنُ مُسْلِمٍ الْقُرَشِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا. فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَسَكَتَ حَتَّى أَعَادَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ، ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَائْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ».
قَالَ عَلِيٌّ: فَجَمَعَ هَذَا الْحَدِيثُ جَمِيعَ أَحْكَامِ الدِّينِ أَوَّلِهَا عَنْ آخِرِهَا. فَفِيهِ أَنَّ مَا سَكَتَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ وَلَا نَهَى عَنْهُ فَهُوَ مُبَاحٌ وَلَيْسَ حَرَامًا وَلَا فَرْضًا، وَأَنَّ مَا أَمَرَ بِهِ فَهُوَ فَرْضٌ، وَمَا نَهَى عَنْهُ فَهُوَ حَرَامٌ، وَأَنَّ مَا أَمَرَنَا بِهِ فَإِنَّمَا يَلْزَمُنَا مِنْهُ مَا نَسْتَطِيعُ فَقَطْ، وَأَنْ نَفْعَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً نُؤَدِّي مَا أَلْزَمَنَا، وَلَا يَلْزَمُنَا تَكْرَارُهُ فَأَيُّ حَاجَةٍ بِأَحَدٍ إِلَى الْقِيَاسِ أَوْ رَأْيٍ مَعَ هَذَا الْبَيَانِ الْوَاضِحِ، وَنَحْمَدُ اللهَ عَلَى عَظِيمِ نِعَمِهِ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: لَا يَجُوزُ إِبْطَالُ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ إِلَّا حَتَّى تُوجِدُونَا تَحْرِيمَ الْقَوْلِ بِهِ نَصًّا فِي الْقُرْآنِ. قُلْنَا: قَدْ أَوَجَدْنَاكُمُ الْبُرْهَانَ نَصًّا بِذَلِكَ بِأَلَّا تَرُدُّوا التَّنَازُعَ إِلَّا إِلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فَقَطْ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} (7: 3) وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (16: 74) وَالْقِيَاسُ ضَرْبُ أَمْثَالٍ فِي الدِّينِ لِلَّهِ تَعَالَى.
ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ: إِنْ عَارَضْتُمُ الرَّوَافِضَ بِمِثْلِ هَذَا فَقَالُوا لَكُمْ: لَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِإِبْطَالِ الْإِلْهَامِ، وَلَا بِإِبْطَالِ اتِّبَاعِ الْإِمَامِ، إِلَّا حَتَّى تُوجِدُونَا تَحْرِيمَ ذَلِكَ نَصًّا. أَوْ قَالَ لَكُمْ ذَلِكَ أَهْلُ كُلِّ مَقَالَةٍ فِي تَقْلِيدِ إِنْسَانٍ بِعَيْنِهِ، بِمَاذَا تَتَفَصُّونَ؟ بَلِ الْحَقُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَا يَحِلُّ أَنْ يُقَالَ عَلَى اللهِ تَعَالَى: إِنَّهُ حَرَّمَ أَوْ حَلَّلَ أَوْ أَوْجَبَ إِلَّا بِنَصٍّ فَقَطْ، وَبِاللهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ اهـ.

.مُلَخَّصُ مَا حَقَّقَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ:

عَقَدَ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ «إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ عَنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ» فَصْلًا فِي تَحْرِيمِ الْإِفْتَاءِ فِي دِينِ اللهِ بِالرَّأْيِ الْمُخَالِفِ لِلنُّصُوصِ، صَدَّرَهُ بِآيَاتٍ أَوَّلُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (28: 50) قَالَ: فَقَسَّمَ الْأَمْرَ إِلَى أَمْرَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا إِمَّا الِاسْتِجَابَةُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ وَمَا جَاءَ بِهِ، وَإِمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى، فَكُلُّ مَا لَمْ يَأْتِ بِهِ الرَّسُولُ فَهُوَ مِنَ الْهَوَى، وَقَفَّى عَلَى الْآيَاتِ بِطَائِفَةٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ أَوَّلُهَا حَدِيثُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ: «إِنَّ اللهَ لَا يَنْزِعُ الْعِلْمَ بَعْدَ إِذْ أَعْطَاكُمُوهُ انْتِزَاعًا، وَلَكِنْ يَنْزِعُهُ مَعَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ بِعِلْمِهِمْ، فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ يُسْتَفْتَوْنَ فَيُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ فَيُضِلُّونَ وَيَضِلُّونَ» وَحَدِيثُ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ: «تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، أَعْظَمُهَا فِتْنَةً قَوْمٌ يَقِيسُونَ الدِّينَ بِرَأْيِهِمْ يُحَرِّمُونَ بِهِ مَا أَحَلَّ اللهُ وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللهُ» رَوَاهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ.
ثُمَّ أَوْرَدَ فَصْلًا بَلْ فَصْلَيْنِ فِيمَا رُوِيَ عَنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ كَالْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَالْعَبَادِلَةِ وَغَيْرِهِمْ فِي ذَمِّ الرَّأْيِ وَمِنْهَا قَوْلُ عُمَرَ: «إِيَّاكُمْ وَأَصْحَابَ الرَّأْيِ فَإِنَّهُمْ أَعْدَاءُ السُّنَنِ، أَعْيَتْهُمُ الْأَحَادِيثُ أَنْ يَعُوهَا، وَتَفَلَّتَتْ مِنْهُمْ أَنْ يَحْفَظُوهَا. فَقَالُوا بِالرَّأْيِ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» وَلِلْأَثَرِ أَلْفَاظٌ أُخْرَى، قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَأَسَانِيدُ هَذِهِ الْآثَارِ عَنْ عُمَرَ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ.
ثُمَّ عَقَدَ فَصْلًا آخَرَ ذَكَرَ فِيهِ مَا احْتَجَّ بِهِ أَهْلُ الرَّأْيِ مِنْ إِفْتَاءِ بَعْضِ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ وَقَضَائِهِمْ بِالرَّأْيِ، كَقَوْلِ عُمَرَ لِكَاتِبِهِ: «قُلْ: هَذَا مَا رَأَى عُمَرُبْنُ الْخَطَّابِ» وَقَوْلِ عُثْمَانَ فِي الْأَمْرِ بِإِفْرَادِ الْعُمْرَةِ عَنِ الْحَجِّ: «إِنَّمَا هُوَ رَأْيٌ رَأَيْتُهُ» وَقَوْلِ عَلِيٍّ فِي أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ: «اتَّفَقَ رَأْيِي وَرَأْيُ عُمَرَ عَلَى أَلَّا يَبِعْنَ» وَمَا نُقِلَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ عَلَى الْقَضَاءِ بِكِتَابِ اللهِ إِنْ وُجِدَ فِيهِ الْحُكْمُ وَإِلَّا فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهِمَا مَا يُقْضَى بِهِ، جَمَعُوا لَهُ النَّاسَ أَوْ رُؤَسَاءَ النَّاسِ، وَفِي رِوَايَةٍ: عُلَمَاءَ النَّاسِ وَكِلَاهُمَا صَوَابٌ فَقَدْ كَانَ الرُّؤَسَاءُ عُلَمَاءَ وَاسْتَشَارُوهُمْ، وَكَانَ يَكُونُ الْقَضَاءُ بِمَا يَجْتَمِعُ رَأْيُهُمْ عَلَيْهِ. وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَشُورَةِ عُمَرَ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى.
وَمِنْهُ مَا فِي كِتَابِ عُمَرَ إِلَى شُرَيْحٍ: «إِذَا وَجَدْتَ شَيْئًا فِي كِتَابِ اللهِ فَاقْضِ بِهِ وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ أَتَاكَ شَيْءٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَاقْضِ بِمَا سَنَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ أَتَاكَ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ وَلَمْ يَسُنَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاقْضِ بِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ، وَإِنْ أَتَاكَ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ وَلَمْ يَسُنَّهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ أَحَدٌ قَبْلَكَ فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَجْتَهِدَ رَأْيَكَ فَتَقَدَّمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَتَأَخَّرَ فَتَأَخَّرَ، وَمَا أَرَى التَّأَخُّرَ إِلَّا خَيْرًا لَكَ» وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ جَرِيرٍ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَمْرِهِ بِأَنْ يَجْتَهِدَ رَأْيَهُ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ كَلَامٌ بِمَعْنَى هَذَا، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَالَةِ الثَّالِثَةِ لِمَنْ عَرَضَ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ: «فَإِنْ جَاءَهُ أَمْرٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ وَلَا قَضَى بِهِ نَبِيُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْيَقْضِ بِمَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ» وَقَالَ فِي الْحَالَةِ الرَّابِعَةِ: «فَلْيَجْتَهِدْ رَأْيَهُ وَلَا يَقُلْ إِنِّي أَرَى وَإِنِّي أَخَافُ، فَإِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَالْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَ ذَلِكَ مُشْتَبِهَاتٌ فَدَعْ مَا يُرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يُرِيبُكَ». اهـ.
وَمُرَادُ ابْنِ مَسْعُودٍ بِالصَّالِحِينَ هُوَ عَيْنُ مُرَادِ عُمَرَ بِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ فِي كِتَابِهِ إِلَى شُرَيْحٍ، كَالَّذِينِ كَانَ يَسْتَشِيرُهُمْ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
أَقُولُ: هَذَا زُبْدَةُ مَا وَرَدَ فِي هَذَا الْفَصْلِ وَغَيْرِهِ بِمَعْنَاهُ. وَكُلُّهُ يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الْقَضَاءِ إِلَّا رَأْيَ عُثْمَانَ فِي إِفْرَادِ الْعُمْرَةِ عَنِ الْحَجِّ، فَإِنَّهُ فِي مَسْأَلَةٍ دِينِيَّةٍ، وَهُوَ شَاذٌّ وَلَا حُجَّةَ فِي مِثْلِ هَذَا بِقَوْلِ صَحَابِيٍّ، وَهُوَ لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا بِالْعَمَلِ بِهِ، بَلْ تَرَكَهُ إِلَى النَّاسِ وَهُمْ مُخَيَّرُونَ فِيهِ شَرْعًا. وَأَمَّا الْقَضَاءُ بِمَا ذَكَرَ مِنَ الْمَرَاتِبِ الْأَرْبَعِ فَهُوَ لَيْسَ بِرَأْيِ صَحَابِيٍّ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا تِلْكَ سُنَّتُهُمُ الَّتِي جَرَوْا عَلَيْهَا، وَاهْتَدَى بِهِمْ فِيهَا سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَتْ إِجْمَاعًا صَحِيحًا. وَلَكِنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ تَرَكُوا جَمْعَ الْعُلَمَاءِ لِاسْتِشَارَتِهِمْ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ، اكْتِفَاءً بِتَقْلِيدِ مَذَاهِبِهِمْ. وَلَا حُجَّةَ فِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ وَلَا فِي أَقْوَالِهِمْ فِيهَا عَلَى جَوَازِ اسْتِخْرَاجِ أَحْكَامٍ لَمْ يَرِدْ فِيهَا قُرْآنٌ وَلَا سُنَّةٌ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، كَمَا فَعَلَ الْمُؤَلِّفُونَ فِي الْفِقْهِ، وَإِنَّمَا الِاجْتِهَادُ وَالرَّأْيُ فِي الْأَقْضِيَةِ الَّتِي تَحْدُثُ لِلنَّاسِ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ أُمُورِ السِّيَاسَةِ، وَهِيَ الَّتِي فَوَّضَ اللهُ أَمْرَهَا إِلَى أُولِي الْأَمْرِ بِشَرْطِهِ.
الْجَمْعُ بَيْنَ إِثْبَاتِ الرَّأْيِ وَإِنْكَارِهِ.
ثُمَّ عَقَدَ ابْنُ الْقَيِّمِ فَصْلًا لِلْفَصْلِ بَيْنَ الرَّأْيِ الَّذِي يُعْمَلُ بِهِ وَالَّذِي لَا يُعْمَلُ بِهِ فَقَالَ: وَلَا تَعَارُضَ بِحَمْدِ اللهِ بَيْنَ هَذِهِ الْآثَارِ، عَنِ السَّادَةِ الْأَخْيَارِ، بَلْ كُلُّهَا حَقٌّ وَكُلٌّ مِنْهَا لَهُ وَجْهٌ. وَهَذَا إِنَّمَا يُتَبَيَّنُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الرَّأْيِ الْبَاطِلِ الَّذِي لَيْسَ مِنَ الدِّينِ وَالرَّأْيِ الْحَقِّ الَّذِي لَا مَنْدُوحَةَ عَنْهُ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ، فَنَقُولُ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ:
الرَّأْيُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ رَأَى الشَّيْءَ يَرَاهُ رَأْيًا، ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى الْمَرْئِيِّ نَفْسِهِ، مِنْ بَابِ اسْتِعْمَالِ الْمَصْدَرِ فِي الْمَفْعُولِ، كَالْهَوَى فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ هَوِيَهُ يَهْوَاهُ هَوًى، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي الشَّيْءِ الَّذِي يُهْوَى فَيُقَالُ: هَذَا هَوَى فُلَانٍ. وَالْعَرَبُ تُفَرِّقُ بَيْنَ مَصَادِرِ فِعْلِ الرُّؤْيَةِ بِحَسَبِ مَحَالِّهَا، فَتَقُولُ: رَأَى كَذَا فِي النَّوْمِ رُؤْيَا وَرَآهُ فِي الْيَقَظَةِ رُؤْيَةً، وَرَأَى كَذَا رَأَيًا لِمَا يُعْلَمُ بِالْقَلْبِ وَلَا يُرَى بِالْعَيْنِ وَلَكِنَّهُمْ خَصَّوْهُ بِمَا يَرَاهُ الْقَلْبُ بَعْدَ فَكٍّ وَتَأَمُّلٍ، وَطَلَبٍ لِمَعْرِفَةِ وَجْهِ الصَّوَابِ مِمَّا تَتَعَارَضُ فِيهِ الْأَمَارَاتُ، فَلَا يُقَالُ لِمَنْ رَأَى بِقَلْبِهِ أَمْرًا غَائِبًا عَنْهُ مِمَّا يُحِسُّ بِهِ: إِنَّهُ رَأَيَهُ، وَلَا يُقَالُ أَيْضًا لِلْأَمْرِ الْمَعْقُولِ الَّذِي لَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الْعُقُولُ وَلَا تَتَعَارَضُ فِيهِ الْأَمَارَاتُ: إِنَّهُ رَأَى، وَإِنِ احْتَاجَ إِلَى فِكْرٍ وَتَأَمُّلٍ، كَدَقَائِقِ الْحِسَابِ وَنَحْوِهَا.
وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَالرَّأْيُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: رَأْيٌ بَاطِلٌ بِلَا رَيْبٍ، وَرَأْيٌ صَحِيحٌ، وَرَأْيٌ هُوَ مَوْضِعُ الِاشْتِبَاهِ. وَالْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ قَدْ أَشَارَ إِلَيْهَا السَّلَفُ، فَاسْتَعْمَلُوا الرَّأْيَ الصَّحِيحَ وَعَمِلُوا بِهِ وَأَفْتَوْا بِهِ وَسَوَّغُوا الْقَوْلَ بِهِ، وَذَمُّوا الْبَاطِلَ وَمَنَعُوا مِنَ الْعَمَلِ وَالْفُتْيَا وَالْقَضَاءِ بِهِ، وَأَطْلَقُوا أَلْسِنَتَهُمْ بِذَمِّهِ وَذَمِّ أَهْلِهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: سَوَّغُوا الْعَمَلَ وَالْفُتْيَا وَالْقَضَاءَ بِهِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ إِلَيْهِ حَيْثُ لَا يُوجَدُ مِنْهُ بُدٌّ، وَلَمْ يُلْزِمُوا أَحَدًا الْعَمَلَ بِهِ، وَلَمْ يُحَرِّمُوا مُخَالَفَتَهُ، وَلَا جَعَلُوا مُخَالِفَهُ مُخَالِفًا لِلدِّينِ، بَلْ خَيَّرُوا بَيْنَ قَبُولِهِ وَرَدِّهِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا أُبِيحُ لِلْمُضْطَرِّ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ الَّذِي يَحْرُمُ عِنْدَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ إِلَيْهِ. كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: سَأَلْتُ الشَّافِعِيَّ عَنِ الْقِيَاسِ فَقَالَ لِي: عِنْدَ الضَّرُورَةِ. وَكَانَ اسْتِعْمَالُهُمْ لِهَذَا النَّوْعِ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ، لَمْ يُفَرِّطُوا فِيهِ وَيُفَرِّعُوهُ وَيُوَلِّدُوهُ وَيُوَسِّعُوهُ. كَمَا صَنَعَ الْمُتَأَخِّرُونَ بِحَيْثُ اعْتَاضُوا بِهِ عَنِ النُّصُوصِ وَالْآثَارِ، وَكَانَ أَسْهَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ حِفْظِهَا، كَمَا يُوجَدُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَضْبُطُ قَوَاعِدَ الْإِفْتَاءِ لِصُعُوبَةِ النَّقْلِ عَلَيْهِ وَتَعَسُّرِ حِفْظِهِ، فَلَمْ يَتَعَدَّوْا فِي اسْتِعْمَالِهِ قَدْرَ الضَّرُورَةِ، وَلَمْ يَبْغُوا بِالْعُدُولِ إِلَيْهِ مَعَ تَمَكُّنِهِمْ مِنَ النُّصُوصِ وَالْآثَارِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْمُضْطَرِّ إِلَى الطَّعَامِ الْمُحَرَّمِ: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2: 173) فَالْبَاغِي الَّذِي يَبْتَغِي الْمَيْتَةَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى التَّوَصُّلِ إِلَى الْمُذَكَّى، وَالْعَادِي الَّذِي يَتَعَدَّى قَدَرَ الْحَاجَةِ بِأَكْلِهَا.
ثُمَّ بَيَّنَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى أَنَّ الرَّأْيَ الْبَاطِلَ أَنْوَاعٌ قَالَ:
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: الرَّأْيُ الْمُخَالِفُ لِلنُّصُوصِ. وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ فَسَادُهُ وَبُطْلَانُهُ، وَلَا تَحِلُّ الْفُتْيَا بِهِ وَلَا الْقَضَاءُ، وَإِنْ وَقْعَ فِيهِ مَنْ وَقَعَ بِنَوْعِ تَأْوِيلٍ وَتَقْلِيدٍ.