فصل: قال السمرقندي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال أبو جعفر الرازي: دخل على صفوان بن حرث شاب من أصحاب الأهواء فذكر شيئًا من أمره، فقال صفوان: ألا أدلك على خاصة اللّه التي تخص بها أولياءه، {يا أيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} الآية.
وقال الضحّاك: عليكم أنفسكم إذا إختلفت الأهواء ما لم يكن سيف أو سوط.
وقال ابن جبير: نزلت هذه الآية في أهل الكتاب يعني عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل من أهل الكتاب.
وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس «إن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل هجر وعليهم المنذر ابن ساوي التميمي يدعوهم إلى الإسلام فإن أبو فليؤدوا الجزية فلما أتاه الكتاب عرضه على من عنده من اليهود والعرب والنصارى والمجوس فأقرّوا بالجزية وكرهوا الإسلام، فكتب إليه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم» أما العرب فلا تقبل منهم إلاّ الإسلام أو السيف، وأما أهل الكتاب والمجوس فاقبل منهم الجزية فلما قرأ عليهم كتاب رسول الله عليه السلام أسلمت العرب وأما أهل الكتاب والمجوس أعطوا الجزية، فقال في ذلك: منافقو أهل مكة وقالوا: عجبًا من محمد يزعم أن اللّه تعالى بعثه ليقاتل الناس، حتى يقولوا لا إله إلاّ اللّه، وقد قبل من مجوس هجر وأهل الكتاب الجزية، هلاّ أكرههم على الإسلام وقد ردّها على إخواننا من العرب؟
فشقّ ذلك على المسلمين مشقة شديدة فأنزل اللّه تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} يعني بعد أن بلغ محمد فأحذر، وأنزل بعد ما أسلم العرب {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي} [البقرة: 256].
وقال ابن عباس: نزلت في جميع الكفار وذلك أن الرجل كان إذا أسلم قالوا: سفهت أباك، وضللت، وفعلت وفعلت فأنزل الله: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم} وهذه لفظة إغراء، والعرب تغري من الصفات بعليك عليك ولبيك وإليك وعندك ودونك. اهـ.

.قال السمرقندي:

وقوله تعالى: {يا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} معناه: الزموا أنفسكم كما تقول: عليك زيدًا، معناه: الزم زيدًا.
معناه: الزموا أمر أنفسكم لا يؤاخذكم بذنوب غيركم.
{لاَ يَضُرُّكُمْ} وأصل اللغة: لا يضرركم.
فأدغم أحد الراءين في الثاني، وضمت الثانية لالتقاء الساكنين.
وهذا جواب الشرط وموضعه الجزم.
وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه سئل عن هذه الآية فقال: إذا رأيتم شُحًّا مطاعًا، وهوًى متبعًا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليكم بخويصة أنفسكم.
وروى عمر بن جارية اللخمي عن أبي أمية قال: سألت أبا ثعلبة الخشني عن هذه الآية فقال: لقد سألت عنها خبيرًا سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يَا أبَا ثَعْلَبَةَ ائْتَمِرُوا بِالمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ المُنْكَرِ.
فَإِذَا رَأَيْتَ دُنْيا مُؤْثَرَةً، وَشُحًّا مُطاعًا، وَإعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأي بِرَأيِهِ، فَعَلَيْكَ نَفْسَكَ.
فَإنَّ مِنْ بَعْدِكُمْ أيَّامَ الصَّبْرِ المُتَمِسِّكُ يَوْمَئِذٍ بِمِثْلِ الَّذِي أنْتُمْ عَلَيْهِ لَهُ كأَجْرِ خَمْسِينَ عَامِلًا»
قالوا: يا رسول الله كأجر خمسين عاملًا منهم قال: «لا بَلْ كَأَجْرِ خَمْسِينَ عَامِلًا مِنْكُمْ» وروي عن أبي بكر الصديق أنه قال: يا أيها الناس إنكم تتلون هذه الآية على غير تأويلها.
إنه كان رجال طعموا بالإسلام، وذاقوا حلاوته، وكانت لهم قرابة من المشركين.
فأرادوا أن يذيقوهم حلاوة الإسلام، وأن يدخلوهم في الإسلام.
فنزل {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم}.
والذي نفس أبي بكر بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليعمنكم الله بعقاب من عنده.
وروي عن أبي العالية أنه قال: كانوا عند عبد الله بن مسعود، فوقع بين رجلين ما يكون بين الناس، حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه فقال بعضهم: ألا أقوم فآمرهما بالمعروف؟ فقال بعضهم: عليك نفسك إن الله تعالى يقول: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ} يقول: لا يضركم ضلالة من ضلّ {إِذَا اهتديتم} فقال ابن مسعود: مه لم يجىء تأويل هذه الآية، بعد.
فما دامت قلوبكم واحدة، وأهواؤكم واحدة، ولم تلبسوا شيعًا، فمروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، فإذا اختلفت القلوب والأهواء فعند ذلك جاء تأويلها.
وقوله تعالى: {لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ} يقول: لا يضركم ضلالة من ضلّ {إِذَا اهتديتم} إذا ثبتم على الحق {إِلَى الله} تعالى: {مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} يوم القيامة {فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا.
وقال في رواية الكلبي نزلت في «منذر بن عمرو» بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل هجر ليدعوهم إلى الإسلام، فأبوا الإسلام، فوضع عليهم الجزية فقال: {لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ} من أهل هجر، وأقر بالجزية {إِذَا اهتديتم} إلى الله يعني آمنتم بالله. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم}.
في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إِلى هَجَر، وعليهم المنذر بن ساوي يدعوهم إِلى الإسلام، فإن أبوا فليُؤدُّوا الجزية، فلما أتاه الكتاب، عرضه على مَن عنده من العرب واليهود والنصارى والمجوس، فأقرُّوا بالجزية، وكرهوا الإسلام، فكتب إِليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما العرب فلا تقبل منهم إِلا الإسلام أو السّيف، وأما أهل الكتاب والمجوس فاقبل منهم الجزية» فلما قرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلمت العرب، وأعطى أهل الكتاب والمجوس الجزية، فقال منافقوا مكة: عجبًا لمحمدٍ يزعم أن الله بعثه ليقاتل الناس كافة حتى يسلموا، وقد قبل من مجوس هَجر، وأهل الكتاب الجزية، فهلاّ أكرههم على الإسلام، وقد ردَّها على إِخواننا من العرب، فشق ذلك على المسلمين، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
وقال مقاتل: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقبل الجزية إِلا من أهل الكتاب فلما أسلمت العرب طوعًا وكرهًا، قبلها من مجوس هَجَر، فطعن المنافقون في ذلك، فنزلت هذه الآية.
والثاني: أن الرجل كان إِذا أسلم، قالوا له سفهت آباءك وضللتهم، وكان ينبغي لك أن تنصرهم، فنزلت هذه الآية، قاله ابن زيد. اهـ.

.قال الفخر:

قوله: {عَلَيْكم أَنفُسَكُمْ} أي احفظوا أنفسكم من ملابسة المعاصي والإصرار على الذنوب قال النحويون عليك وعندك ودونك من جملة أسماء الأفعال.
تقول العرب: عليك وعندك ودونك، فيعدونها إلى المفعول ويقيمونها مقام الفعل، وينصبون بها، فيقال: عليك زيدًا كأنه قال: خذ زيدًا فقد علاك، أي أشرف عليك، وعندك زيدًا، أي حضرك فخذه ودونك، أي قرب منك فخذه، فهذه الأحرف الثلاثة لا اختلاف بين النحويين في إجازة النصب بها ونقل صاحب الكشاف {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} بالرفع عن نافع. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قال الزجاج: ومعنى الآية: إِنما ألزمكم الله أمر أنفسكم، ولا يؤاخذكم بذنوب غيركم، وهذه الآية لا توجب ترك الأمر بالمعروف، لأن المؤمن إِذا تركه وهو مستطيع له، فهو ضالّ وليس بمهتدٍ. اهـ.

.قال الألوسي:

{يا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ}.
أي الزموا أنفسكم واحفظوها من ملابسة المعاصي والإصرار على الذنوب، فعليكم اسم فعل أمر نقل إلى ذلك مجموع الجار والمجرور لا الجار وحده كما قيل.
وهو متعد إلى المفعول به بعده وقد يكون لازمًا، والمراد به الأمر بالتمسك كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «عليك بذات الدين» وذكر أبو البقاء أن الكاف والميم في موضع جر لأن اسم الفعل هو المجموع وعلى وحدها لم تستعمل اسمًا للفعل بخلاف رويدكم فإن الكاف والميم هناك للخطاب فقط ولا موضع لها لأن رويدًا قد استعمل اسمًا لأمر المواجه من غير كاف الخطاب وإلى ذلك ذهب سيبويه وهو الصحيح، ونقل الطبرسي أن استعمال على مع الضمير اسم فعل خاص فيما إذا كان الضمير للخطاب فلو قلت عليه زيدًا لم يجز وفيه خلاف.
وقرأ نافع في الشواذ {أَنفُسَكُمْ} بالرفع، والكلام حينئذٍ مبتدأ وخبر أي لازمة عليكم أنفسكم أو حفظ أنفسكم لازم عليكم بتقدير مضاف في المبتدأ.
وقوله تعالى: {لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم}.
يحتمل الرفع على أنه كلام مستأنف في موضع التعليل لما قبله وينصره قراءة أبي حيوة {لا}، ويحتمل أن يكون مجزومًا جوابًا للأمر، والمعنى إن لزمتم أنفسكم لا يضركم.
وإنما ضمت الراء اتباعًا لضمة الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة والأصل لا يضرركم، ويجوز أن يكون نهيًا مؤكدًا للأمر السابق والكلام على حد لا أرينك ههنا.
وينصر احتمال الجزم قراءة من قرأ {لاَ يَضُرُّكُمْ} بالفتح {وَلاَ يَضُرُّكُمْ} بكسر الضاد وضمها من ضاره يضيره ويضوره بمعنى ضره كذمه وذامه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

و{عليكم} اسم فعل بمعنى الزَموا، وذلك أنّ أصله أن يقال: عليك أن تفعل كذا، فتكون جملة من خبر مقدّم ومبتدأ مؤخّر، وتكون «على» دالّة على استعلاء مجازي، كأنّهم جعلوا فعل كذا معتليًا على المخاطب ومتمكّنًا منه تأكيدًا لمعنى الوجوب فلمّا كثر في كلامهم قالوا: عليك كذا، فركّبوا الجملة من مجرور خبر واسم ذات مبتدأ بتقدير: عليك فعل كذا، لأنّ تلك الذات لا توصف بالعلوّ على المخاطب، أي التمكّن، فالكلام على تقدير.
وذلك كتعلّق التحريم والتحليل بالذوات في قوله: {حرّمت عليكم الميتة} [المائدة: 3]، وقوله: {أحلّت لكم بهيمة الأنعام} [المائدة: 1]، ومن ذلك ما روي {عليكم الدعاء وعليّ الإجابة} ومنه قولهم: عليّ أليّة، وعليّ نذر.
ثم كثر الاستعمال فعاملوا «على» معاملة فعل الأمر فجعلوها بمعنى أمر المخاطب بالملازمة ونصبوا الاسم بعدها على المفعولية.
وشاع ذلك في كلامهم فسمّاها النحاة اسم فعل لأنّها جعلت كالاسم لمعنى أمر مخصوص، فكأنّك عمدت إلى فعل «الزم» فسميّته «عَلَى» وأبرزت مَا مَعه من ضمير فألصقته بـ «عَلى» في صورة الضمير الذي اعتيد أن يتّصل بها، وهو ضمير الجرّ فيقال: عليك وعليكما وعليكم.
ولذلك لا يسند إلى ضمائر الغيبة لأنّ الغائب لا يؤمر بصيغة الأمر بل يؤمر بواسطة لام الأمر.
فقوله تعالى: {عليكم أنفسكم} هو بنصب {أنفسكم} أي الزموا أنفسكم، أي احرصوا على أنفسكم.
والمقام يبيّن المحروص عليه، وهو ملازمة الاهتداء بقرينة قوله: {إذا اهتديتم}، وهو يشعر بالإعراض عن الغير وقد بيّنه بقوله: {لاَ يضرّكم من ضلّ}.
فجملة {لا يضرّكم من ضلّ} تتنزّل من التي قبلها منزلة البيان فلذلك فصلت، لأنّ أمرهم بملازمة أنفسهم مقصود منه دفع ما اعتراهم من الغمّ والأسف على عدم قبول الضالّين للاهتداء، وخشية أن يكون ذلك لتقصير في دعوتهم، فقيل لهم: عليكم أنفسكم، أي اشتغلوا بإكمال اهتدائكم، ففعل {يضرّكم} مرفوع.
وقوله: {إذا اهتديتم} ظرف يتضمّن معنى الشرط يتعلّق بـ {يضرّكم}.
وقد شمل الاهتداء جميع ما أمرهم به الله تعالى.
ومن جملة ذلك دعوة الناس إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلو قصروا في الدعوة إلى الخير والاحتجاج له وسكتوا عن المنكر لضرّهم من ضلّ لأنّ إثم ضلاله محمول عليهم.
فلا يتوهّم من هذه الآية أنّها رخصة للمسلمين في ترك الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأنّ جميع ذلك واجب بأدلّة طفحت بها الشريعة.
فكان ذلك داخلًا في شرط {إذا اهتديتم}.
ولما في قوله: {عليكم أنفسكم} من الإشعار بالإعراض عن فريق آخر وهو المبيّين بِ {من ضلّ}، ولما في قوله: {إذا اهتديتم} من خفاء تفاريع أنواع الاهتداء؛ عرض لبعض الناس قديمًا في هذه الآية فشكّوا في أن يكون مُفادها الترخيص في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد حدث ذلك الظنّ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أخرج الترمذي عن أبي أمية الشعباني أنّه قال: سألت عنها أبا ثعلبة الخشني، فقال لي: سألتَ عنها خبيرًا، سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «بل ائتمروا بالمعروف وتناهَوا عن المنكر حتّى إذا رأيت شحًّا مُطَاعًا وهوى مُتَّبعًا وَدنْيَا مُؤثرَة وإعجابَ كلّ ذي رأي برأيه فعليك بخاصّة نفسك ودَعَ العوّام». اهـ.