فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

وجملة ما عليه أهل العلم في هذا أن الأمر بالمعروف متعين متى رجي القبول أو رجي رد المظالم ولو بعنف ما لم يخف المراء ضررًا يلحقه في خاصيته أو فتنة يدخلها على المسلمين إما بشق عصا وإما بضرر يلحق طائفة من الناس فإذا خيف هذا فعليكم أنفسكم محكم واجب أن يوقف عنده، وقال سعيد بن جبير معنى هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم} فالتزموا شرعكم بما فيه من جهاد وأمر بمعروف وغيره، ولا يضركم ضلال أهل الكتاب إذا اهتديتما وقال ابن زيد: معنى الآية: يا أيها الذين آمنوا من أبناء أولئك الذين بحروا البحيرة وسيبوا السوائب عليكم أنفسكم في الاستقامة على الدين ولا يضركم ضلال الأسلاف إذا اهتديتم، قال: وكان الرجل إذا أسلم قال له الكفار سفهت أباءك وضللتهم وفعلت وفعلت فنزلت الآية بسبب ذلك.
قال القاضي أبو محمد: ولم يقل أحد فيما علمت أنها آية موادعة للكفار وكذلك ينبغي أن لا يعارض أنها شيء مما أمر الله به في غير ما آية من القيام بالقسط والأمر بالمعروف، قال المهدوي: وقد قيل هي منسوخة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف ولا يعلم قائله، وقال بعض الناس نزلت بسبب ارتداد بعض المؤمنين وافتتانهم كابن أبي سرح وغيره، فقيل للمؤمنين لا يضركم ضلالهم، وقرأ جمهور الناس {لا يضُرُّكم} بضم الضاد وشد الراء المضمومة، وقرأ الحسن بن أبي الحسن {لا يضُرْكم} بضم الضاد وسكون الراء، وقرأ إبراهيم {لا يضِرك} بكسر الضاد وهي كلها لغات بمعنى ضر يضر وضار يضور وضير. اهـ.

.قال الشوكاني:

وقد دلت الآيات القرآنية، والأحاديث المتكاثرة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجوبًا مضيقًا متحتمًا، فتحمل هذه الآية على من لا يقدر على القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو لا يظن التأثير بحال من الأحوال، أو يخشى على نفسه أن يحلّ به ما يضرّه ضررًا يسوغ له معه الترك {إلى الله مَرْجِعُكُمْ} يوم القيامة {فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
وقد أخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، وعبد ابن حميد، وأبو داود، والترمذي وصححه، والنسائي وابن ماجه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والدارقطني والضياء، في المختارة وغيرهم، عن قيس بن أبي حازم قال: قام أبو بكر، فحمد الله وأثنى عليه وقال: يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية: {يا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم} وإنكم تضعونها على غير مواضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب» وفي لفظ لابن جرير عنه: «والله لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر، أو ليعمنكم الله منه بعقاب» وأخرج الترمذي وصححه، وابن ماجه، وابن جرير، والبغوي في معجمه، وابن أبي حاتم والطبراني، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن أبي أمية الشعثاني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف تصنع في هذه الآية؟ قال: أية آية؟ قلت: قوله: {يا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم} قال: أما والله لقد سألت عنها خبيرًا، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحًا مطاعًا وهوى متبعًا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العوام، فإن من ورائكم أيامًا الصبر فيهنّ مثل القبض على الجمر، للعامل فيهنّ أجر خمسين رجلًا يعملون مثل عملكم».
وفي لفظ: قيل يا رسول الله أجر خمسين رجلًا منا أو منهم؟ قال: «بل أجر خمسين منكم» وأخرج أحمد وابن أبي حاتم، والطبرني وابن مردويه، عن عامر الأشعري أنه كان فيهم أعمى، فاحتبس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه فقال: «ما حبسك؟» قال: يا رسول الله قرأت هذه الآية: {يا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم} قال: فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أين ذهبتم؟ إنما هي لا يضرّكم من ضلّ من الكفار إذا اهتديتم» وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، وأبو الشيخ عن الحسن: أن ابن مسعود سأله رجل عن قوله: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُم} فقال: يا أيها الناس إنه ليس بزمانها إنها اليوم مقبولة، ولكنه قد أوشك أن يأتي زمان تأمرون بالمعروف فيصنع بكم كذا وكذا، أو قال: فلا يقبل منكم، فحينئذ عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم.
وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد عنه في الآية قال: «مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ما لم يكن من دون ذلك السوط والسيف، فإذا كان كذلك فعليكم أنفسكم» وأخرج ابن جرير، وابن مردويه، عن ابن عمر، أنه قال في هذه الآية: إنها لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، عن رجل قال: كنت في خلافة عمر بن الخطاب بالمدينة في حلقة فيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيهم شيخ حسبت أنه قال أُبيّ بن كعب، فقرأ {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} فقال: إنما تأويلها في آخر الزمان.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وأبو الشيخ، عن أبي مازن قال: انطلقت على عهد عثمان إلى المدينة، فإذا قوم جلوس فقرأ أحدهم: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} فقال أكثرهم: لم يجيء تأويل هذه الآية اليوم.
وأخرج ابن جرير عن جبير بن نفير قال: كنت في حلقة فيها أصحاب النبي وإني لأصغر القوم، فتذاكروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقلت: أليس الله يقول: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ}؟ فأقبلوا عليّ بلسان واحد فقالوا: تنزع آية من القرآن لا نعرفها ولا ندري ما تأويلها؟ حتى تمنيت أني لم أكن تكلمت، ثم أقبلوا يتحدّثون، فلما حضر قيامهم قالوا: إنك غلام حدث السن، وإنك نزعت آية لا ندري ما هي؟ وعسى أن تدرك ذلك الزمان «إذا رأيت شحًا مطاعًا وهوى متبعًا وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت» وأخرج ابن مردويه، عن معاذ بن جبل، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو حديث أبي ثعلبة الخشني المتقدّم، وفي آخره «كأجر خمسين رجلًا منكم» وأخرج ابن مردويه، عن أبي سعيد الخدري قال: ذكرت هذه الآية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لم يجيء تأويلها، لا يجيء تأويلها حتى يهبط عيسى ابن مريم عليه السلام»، والروايات في هذا الباب كثيرة، وفيما ذكرناه كفاية، ففيه ما يرشد إلى ما قدمناه من الجمع بين هذه الآية وبين الآيات والأحاديث الواردة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. اهـ.

.قال الألوسي:

وتوهم من ظاهر الآية الرخصة في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وأجيب عن ذلك بوجوه.
الأول أن الاهتداء لا يتم إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن ترك ذلك مع القدرة عليه ضلال.
فقد أخرج ابن جرير عن قيس بن أبي حازم قال: «صعد أبو بكر رضي الله تعالى عنه منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنكم لتتلون آية من كتاب الله سبحانه وتعدونها رخصة والله ما أنزل الله تعالى في كتابه أشد منها {يَهْتَدُونَ يا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} الآية والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليعمنكم الله تعالى منه بعقاب وفي رواية يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وإنكم تضعونها على غير موضعها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك أن يعمهم الله تعالى بعقاب».
وفي رواية ابن مردويه عن أبي بكر بن محمد قال: خطب أبو بكر الصديق الناس فكان في خطبته قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس لا تتكلوا على هذه الآية {يَهْتَدُونَ يا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} الخ إن الداعر ليكون في الحي فلا يمنعونه فيعمهم الله تعالى بعقاب».
ومن الناس من فسر الاهتداء هنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وروي ذلك عن حذيفة وسعيد بن المسيب، والثاني: أن الآية تسلية لمن يأمر وينهى ولا يقبل منه عند غلبة الفسق وبعد عهد الوحي، فقد أخرج عبد الرزاق وأبو الشيخ والطبراني وغيرهم عن الحسن أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه سأله رجل عن هذه الآية فقال: أيها الناس إنه ليس بزمانها ولكنه قد أوشك أن يأتي زمان تأمرون بالمعروف فيصنع بكم كذا وكذا أو قال: فلا يقبل منكم فحينئذٍ عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم.
وأخرج ابن جرير عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قيل له: لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه فإن الله تعالى يقول: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} فقال: إنها ليست لي ولا لأصحابي لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا فليبلغ الشاهد الغائب» فكنا نحن الشهود وأنتم الغيب ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم.
وأخرج ابن مردويه عن معاذ بن جبل أنه قال: يا رسول الله أخبرني عن قول الله عز وجل: {يا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم} فقال صلى الله عليه وسلم: يا معاذ «مروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر فإذا رأيتم شحًا مطاعًا وهوى متبعًا وإعجاب كل امرىء برأيه فعليكم أنفسكم لا يضركم ضلالة غيركم فإن من ورائكم أيام صبر المتمسك فيها بدينه مثل القابض على الجمر فللعامل منهم يومئذٍ مثل عمل أحدكم اليوم كأجر خمسين منكم قلت: يا رسول الله خمسين منهم قال: بل خمسين منكم أنتم».
والثالث: أنها للمنع عن هلاك النفس حسرة وأسفًا على ما فيه الكفرة والفسقة من الضلال فقد كان المؤمنون يتحسرون على الكفرة ويتمنون إيمانهم فنزلت.
والرابع: أنها للرخصة في ترك الأمر والنهي إذا كان فيهما مفسدة.
والخامس: أنها للأمر بالثبات على الإيمان من غير مبالاة بنسبة الآباء إلى السفه، فقد قيل: كان الرجل إذا أسلم قالوا له سفهت أباك فنزلت، وقيل: معنى الآية يا أيها الذين آمنوا الزموا أهل دينكم واحفظوهم وانصروهم لا يضركم من ضل من الكفار إذا فعلتم ذلك، والتعبير عن أهل الدين بالأنفس على حد قوله تعالى: {لاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} [النساء: 29] ونحوه، والتعبير عن ذلك الفعل بالاهتداء للترغيب فيه ولا يخفى ما فيه. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم}.
قد يتوهم الجاهل من ظاهر هذه الآية الكريمة عدم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن نفس الآية فيها الإشارة إلى أن ذلك فيما إذا بلغ جهده فلم يقبل منه المأمور، وذلك في قوله: {إِذَا اهتديتم}، لأن من ترك الأمر بالمعروف لم يهتد، وممن قال بهذا حذيفة، وسعيد بن المسيب، كما نقله عنهما الألوسي في تفسيره، وابن جرير، ونقله القرطبي عن سعيد بن المسيب، وأبي عبيد القاسم بن سلام، ونقل نحوه ابن جرير عن جماعة من الصحابة منهم ابن عمر وابن مسعود.