فصل: قال في الميزان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال في الميزان:

قال رحمه الله:
{يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون}.
بيان:
الآية تأمر المؤمنين أن يلزموا أنفسهم، ويلازموا سبيل هدايتهم ولا يوحشهم ضلال من ضل من الناس فإن الله سبحانه هو المرجع الحاكم على الجميع حسب أعمالهم، والكلام مع ذلك لا يخلو عن غور عميق.
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} لفظة {عليكم} اسم فعل بمعنى ألزموا، و{أنفسكم} مفعوله.
ومن المعلوم أن الضلال والاهتداء- وهما معنيان متقابلان- إنما يتحققان في سلوك الطريق لا غير، فالملازم لمتن الطريق ينتهى إلى ما ينتهى إليه الطريق، وهو الغاية المطلوبة التي يقصدها الإنسان السالك في سلوكه، أما إذا استهان بذلك وخرج عن مستوى الطريق فهو الضلال الذي تفوت به الغاية المقصودة فالآية تقدر للإنسان طريقا يسلكه ومقصدا يقصده غير أنه ربما لزم الطريق فاهتدى إليه أو فسق عنه فضل وليس هناك مقصد يقصده القاصد إلا الحياة السعيدة، والعاقبة الحسنى بلا ريب لكنها مع ذلك تنطق بأن الله سبحانه هو المرجع الذي يرجع إليه الجميع: المهتدى والضال.
فالثواب الذي يريده الإنسان في مسيره بالفطرة إنما هو عند الله سبحانه يناله المهتدون، ويحرم عنه الضلال، ولازم ذلك أن يكون جميع الطرق المسلوكة لأهل الهداية والطرق المسلوكة لأهل الضلال تنتهى إلى الله سبحانه، وعنده سبحانه الغاية المقصودة وإن كانت تلك الطرق مختلفة في إيصال الإنسان إلى البغية والفوز والفلاح أو ضربه بالخيبة والخسران، وكذلك في القرب والبعد كما قال تعالى: {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه} (الانشقاق: 6) وقال تعالى: {ألا إن حزب الله هم المفلحون} (المجادلة: 22) وقال تعالى: {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار} (إبراهيم: 28) وقال تعالى: {فإنى قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لى وليؤمنوا بى لعلهم يرشدون} (البقرة: 186) وقال تعالى: {والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى اولئك ينادون من مكان بعيد} (حم السجدة: 44).
بين تعالى في هذه الآيات أن الجميع سائرون إليه سبحانه سيرا لا مناص لهم عنه، غير أن طريق بعضهم قصير وفيه الرشد والفلاح، وطريق آخرين طويل لا ينتهى إلى سعادة، ولا يعود إلى سالكه إلا الهلاك والبوار.
وبالجملة فالآية تقدر للمؤمنين وغيرهم طريقين اثنين ينتهيان إلى الله سبحانه، وتأمر المؤمنين بأن يشتغلوا بأنفسهم وينصرفوا عن غيرهم وهم أهل الضلال من الناس ولا يقعوا فيهم ولا يخافوا ضلالهم فإنما حسابهم على ربهم لا على المؤمنين وليسوا بمسؤلين عنهم حتى يهمهم أمرهم، فالاية قريبة المضمون من قوله تعالى: {قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزى قوما بما كانوا يكسبون} (الجاثية: 14) ونظيرها قوله تعالى: {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون} (البقرة: 134).
فعلى المؤمن أن يشتغل بما يهم نفسه من سلوك سبيل الهدى، ولا يهزهزه ما يشاهده من ضلال الناس وشيوع المعاصي بينهم ولا يشغله ذلك ولا يشتغل بهم فالحق حق وإن ترك والباطل باطل وإن أخذ به كما قال تعالى: {قل لا يستوى الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا اولى الألباب لعلكم تفلحون} (المائدة: 100) وقال تعالى: {ولا تستوى الحسنة ولا السيئة} (حم السجدة: 34).
فقوله تعالى: {لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} بناء على ما مر مسوق سوق الكناية أريد به نهى المؤمنين عن التأثر من ضلال من ضل من الناس فيحملهم ذلك على ترك طريق الهداية كأن يقولوا: إن الدنيا الحاضرة لا تساعد الدين ولا تبيح التنحل بالمعنويات فإنما ذلك من السنن الساذجة وقد مضى زمنه وانقرض أهله، قال تعالى: {وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا} (القصص: 57).
أو يخافوا ضلالهم على هدى أنفسهم فيشتغلوا بهم وينسوا أنفسهم فيصيروا مثلهم فإنما الواجب على المؤمن هو الدعوة إلى ربه والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وبالجملة الاخذ بالاسباب العادية ثم إيكال أمر المسببات إلى الله سبحانه فإليه الأمر كله، فأما أن يهلك نفسه في سبيل إنقاذ الغير من الهلكة فلم يؤمر به، ولا يؤاخذ بعمل غيره، وما هو عليه بوكيل، وعلى هذا فتصير الآية في معنى قوله تعالى: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا} (الكهف: 8)، وقوله تعالى: {ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا} (الرعد: 31) ونحو ذلك.
وقد تبين بهذا البيان أن الآية لا تنافى آيات الدعوة وآيات الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فإن الآية إنما تنهى المؤمنين عن الاشتغال بضلال الناس عن اهتداء أنفسهم وإهلاك أنفسهم في سبيل إنقاذ غيرهم وإنجائه.
على أن الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من شؤون اشتغال المؤمن بنفسه وسلوكه سبيل ربه، وكيف يمكن أن تنافى الآية آيات الدعوة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر أو تنسخها؟ وقد عدهما الله سبحانه من مشخصات هذا الدين وأسسه التي بنى عليها كما قال تعالى: {قل هذه سبيلى أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى} (يوسف: 108) وقال تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} (آل عمران: 110).
فعلى المؤمن أن يدعو إلى الله على بصيرة وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر على سبيل أداء الفريضة الإلهية وليس عليه أن يجيش ويهلك نفسه حزنا أو يبالغ في الجد في تأثير ذلك في نفوس أهل الضلال فذلك موضوع عنه.
وإذا كانت الآية قدرت للمؤمنين طريقا فيه اهتداؤهم ولغيرهم طريقا من شأنه ضلال سالكيه، ثم أمر المؤمنين في قوله: {عليكم أنفسكم} بلزوم أنفسهم كان فيه دلالة على أن نفس المؤمن هو الطريق الذي يؤمر بسلوكه ولزومه فإن الحث على الطريق إنما يلائم الحث على لزومه والتحذير من تركه لا على لزوم سالك الطريق كما نشاهده في مثل قوله تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} (الأنعام: 153).
فأمره تعالى المؤمنين بلزوم أنفسهم في مقام الحث على التحفظ على طريق هدايتهم يفيد أن الطريق الذي يجب عليهم سلوكه ولزومه هو أنفسهم، فنفس المؤمن هو طريقه الذي يسلكه إلى ربه وهو طريق هداه، وهو المنتهى به إلى سعادته.
فالآية تجلى الغرض الذي تؤمه إجمالا آيات أخرى كقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون لا يستوى أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون} (الحشر: 20).
فالآيات تأمر بأن تنظر النفس وتراقب صالح عملها الذي هو زادها غدا وخير الزاد التقوى فللنفس يوم وغد وهى في سير وحركة على مسافة، والغاية هو الله سبحانه وعنده حسن الثواب وهو الجنة فعليها أن تدوم على ذكر ربها ولا تنساه فإنه سبحانه هو الغاية، ونسيان الغاية يستعقب نسيان الطريق فمن نسى ربه نسى نفسه، ولم يعد لغده ومستقبل مسيره زادا يتزود به ويعيش باستعماله وهو الهلاك، وهذا معنى ما رواه الفريقان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من عرف نفسه فقد عرف ربه.
وهذا المعنى هو الذي يؤيده التدبر التام والاعتبار الصحيح فإن الإنسان في مسير حياته إلى أي غاية امتدت لا هم له في الحقيقة إلا خير نفسه وسعادة حياته وإن اشتغل في ظاهر الأمر ببعض ما يعود نفعه إلى غيره، قال تعالى: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها}.
وليس هناك إلا هذا الإنسان الذي يتطور طورا بعد طور، ويركب طبقا عن طبق من جنين وصبى وشاب وكهل وشيخ ثم الذي يديم الحياة في البرزخ ثم يوم القيامة ثم ما بعده من جنة أو نار، فهذه هي المسافة التي يقطعها الإنسان من موقفه في أول تكونه إلى أن ينتهى إلى ربه، قال تعالى: {وأن إلى ربك المنتهى} (النجم: 42).
وهو الإنسان لا يطأ موطأ في مسيره ولا يسير ولا يسرى إلا بأعمال قلبية هي الاعتقادات ونحوها وأعمال جوارحية صالحة أو طالحة، وما أنتجه عمله يوما كان هو زاده غدا فالنفس هو طريق الإنسان إلى ربه، والله سبحانه هو غايته في مسيره.
وهذا طريق اضطرارى لا مناص للإنسان عن سلوكه كما يدل عليه قوله تعالى: {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه} (الانشقاق: 6)، فهذا طريق ضروري السلوك يشترك فيه المؤمن والكافر والملتفت المتنبه والغافل العامه، والآية لا تريد الحث على لزومه بمعنى البعث على سلوكه ممن لا يسلك.
وإنما تريد الآية تنبيه المؤمنين على هذه الحقيقة بعد غفلتهم عنها، فإن هذه الحقيقة كسائر الحقائق التكوينية وإن كانت ثابتة غير متغيرة بالعلم والجهل لكن التفات الإنسان إليها يؤثر في عمله تأثيرا بارزا، والاعمال التي تربى النفس الإنسانية تربية مناسبة لسنخها وإذا كان العمل ملائما لواقع الأمر مناسبا لغاية الصنع والايجاد كانت النفس المستكملة بها سعيدة في جدها، غير خائبة في سعيها ولا خاسرة في صفقتها، وقد مر بيان ذلك في مواضع كثيرة من هذا الكتاب بما لا يبقى معه ريب.
وتوضيح ذلك بما يناسب هذا المقام أن الإنسان كغيره من خلق الله سبحانه واقع تحت التربية الإلهية من دون أن يفوته تعالى شيء من أمره، وقد قال تعالى: {ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربى على صراط مستقيم} (هود: 56) وهذه تربية تكوينية على حد ما يربى الله سبحانه غيره من الامور، في مسيرها جميعا إليه تعالى، وقد قال: {ألا إلى الله تصير الامور} (الشورى: 53) ولا يتفاوت الأمر ولا يختلف الحال في هذه التربية بين شيء وشئ فإن الصراط مستقيم، والأمر متشابه مطرد، وقد قال تعالى أيضا: {ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت} (الملك: 3).
وقد جعل سبحانه غاية الإنسان وما ينتهى إليه أمره ويستقر عليه عاقبته من حيث السعادة والشقاوة والفلاح والخيبة مبنية على أحوال وأخلاق نفسانية مبنية على أعمال من الإنسان تنقسم تلك الأعمال إلى صالحة وطالحة وتقوى وفجور كما قال تعالى: {ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها} (الشمس: 10) فالآيات- كما ترى- تضع النفس المسواة في جانب وهو مبدء الحال، والفلاح والخيبة في جانب وهو الغاية ومنتهى المسير، ثم تبنى الغايتين أعنى الفلاح والخيبة على تزكية النفس وتدسيتها وذلك مرحلة الاخلاق، ثم تبنى الفضيلة والرذيلة على التقوى والفجور أعنى الأعمال الصالحة والطالحة التي تنطق الآيات بأن الإنسان ملهم بها من جانب الله تعالى.
والآيات في بيانها لا تتعدى طور النفس بمعنى أنها تعتبر النفس هي المخلوقة المسواة وهى التي أضيف إليها الفجور والتقوى، وهى التي تزكى وتدسى، وهى التي يفلح فيها الإنسان ويخيب، وهذا كما عرفت جرى على مقتضى التكوين.