فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأما قول من يقول: بأن هذا الحكم صار منسوخًا فبعيد، لاتفاق أكثر الأمة على أن سورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن، وليس فيها منسوخ، واحتج القائلون بالقول الثاني بقوله: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} والكافر لا يكون عدلًا.
أجاب الأولون عنه: لم لا يجوز أن يكون المراد بالعدل من كان عدلًا في الاحتراز عن الكذب، لا من كان عدلًا في الدين والاعتقاد، والدليل عليه: أنا أجمعنا على قبول شهادة أهل الأهواء والبدع، مع أنهم ليسوا عدولًا في مذاهبهم، ولكنهم لما كانوا عدولًا في الاحتراز عن الكذب قبلنا شهادتهم، فكذا هاهنا سلمنا أن الكافر ليس بعدل، إلا أن قوله: {وأشهدوا ذوى عدل منكم} [الطلاق: 2] عام، وقوله في هذه الآية {إثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض} خاص فإنه أوجب شهادة العدل الذي يكون منا في الحضر، واكتفى بشهادة من لا يكون منا في السفر، فهذه الآية خاصة، والآية التي ذكرتموها عامة، والخاص مقدم على العام، لاسيما إذا كان الخاص متأخرًا في النزول، ولا شك أن سورة المائدة متأخرة، فكان تقديم هذه الآية الخاصة على الآية العامة التي ذكرتموها واجبًا بالاتفاق والله أعلم. اهـ.
وقال الفخر:
قوله: {أو آخران} عطف على قوله: {اثنان} والتقدير: شهادة بينكم أن يشهد اثنان منكم أو آخران من غيركم. اهـ.

.قال الماوردي:

{أَوْ ءَاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} فيه تأويلان:
أحدهما: من غير دينكم من أهل الكتاب، قاله ابن عباس، وأبو موسى، وسعيد بن جبير، وإبراهيم، وشريح.
والثاني: من غير قبيلتكم وعشيرتكم، قاله الحسن، وعكرمة، والزهري، وعبيدة.
وفي {أَوْ} في هذا الموضع قولان:
أحدهما: أنها للتخيير في قبول اثنين منا أو آخرين من غيرنا.
والثاني: أنها لغير التخيير، وإن معنى الكلام، أو آخران من غيركم إن لم تجدوا، منكم، قاله ابن عباس وشريح، وسعيد بن جبير والسدي. اهـ.

.قال الخازن:

{أو آخران من غيركم} يعني من غير أهل دينكم وملتكم وهذا قول ابن عباس وأبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وابن جبير والنخعي والشعبي وابن سيرين وابن شريح وأكثر المفسرين: وقيل: معناه من غير عشيرتكم وقبيلتكم وهم مسلمون.
واختلف العلماء في حكم هذه الآية فقال إبراهيم النخعي وجماعة: هي منسوخة كانت شهادة أهل الذمة مقبولة في الابتداء ثم نسخت بقوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} لأن إجماع الأمة على أن شهادة الفاسق لا تجوز فشهادة الكفار وأهل الذمة لا تجوز بطريق الأولى وذهب قوم إلى أنها ثابتة لم تنسخ وهو قول ابن عباس وأبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وابن جبير وابن سيرين وبه قال أحمد بن حنبل قالوا إذا لم يجد مسلمين يشهدان على وصيته وهو في أرض غربة فليشهد كافرين أو ذميين أو من أي دين كانا لأن هذا موضع ضرورة قال شريح: من كان بأرض غربة لم يجد مسلمًا وصيته فليشهد كافرين على أي دين كانا من أهل الكتاب أو من عبدة الأصنام فشهادتهم جائزة في هذا الموضع ولا تجوز شهادة كافر على مسلم بحال إلا على وصيته في سفر لا يجد فيه مسلمًا.
عن الشعبي أن رجلًا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا هذه ولم يجد أحدًا من المسلمين حضر يشهده على وصيته فأشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة فأتيا أبا موسى فأخبراه وقدما بتركته ووصيته فقال أبو موسى هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحلفهما بعد العصر بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا وأنها لوصيته الرجل وتركته فأمضى شهادتهما أخرجه أبو داود.
وقال قوم في قوله ذوا عدل منكم يعني من عشيرتكم وحيكم أو آخران من غيركم من غير عشيرتكم وحيكم وأن الآية كلها في المسلمين وهذا قول الحسن والزهري وعكرمة وقالوا لا تجوز شهادة كافر في شيء من الأحكام وهذا الشافعي ومالك وأبي حنيفة غير أن أبا حنيفة أجاز شهادة أهل الذمة فيما بينهم بعضهم على بعض واحتج من قال بأن هذه الآية محكمة بأن سورة المائدة من آخر القرآن نزولًا وليس فيها منسوخ واحتج من أجاز شهادة غير المسلم في هذا الموضع بأن الله تعالى قال في أول الآية: {يا أيها الذين آمنوا} فعمَّ بهذا الخطاب جميع المؤمنين ثم قال بعده {ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم} فعلم بذلك أنهما من غير المؤمنين، ولأن الآية دالة على وجوب الحلف على هذين الشاهدين وأجمع المسلمون على أن الشاهد المسلم لا يجب عليه يمين ولأن الميت إذا كان في أرض غربة ولم يجد مسلمًا يشهده على وصيته ضاع ماله وربما كان عليه ديون أو عنده وديعة فيضيع ذلك كله وإذا كان ذلك كذلك احتاج إلى إشهاد من حضر من أهل الذمة وغيرهم من الكفار حتى لا يضيع ماله وتنفذ وصيته فهذا كالمضطر الذي أبيح له أكل الميتة في حال الاضطرار والضرورات قد تبيح شيئًا من المحظورات واحتج من منع ذلك بأن الله تعالى قال: {ممن ترضون من الشهداء} والكفار ليسوا مرضيين ولا عدولًا فشهادتهم غير مقبولة في حال من الأحوال. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {أو آخران من غيركم} الآية: هذه الآية تدل على قبول شهادة الكفار على الوصية في السفر وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك كقوله: {إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون} وقوله: {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون}، أي فالكافرون أحرى برد شهادتهم وقوله: {وأشهدوا ذوي عدل منكم}، وقوله: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فان لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء..} الآية.
والجواب عن هذا على قول من لا يقبل شهادة الكافرين على الإيصاء في السفر أنه يقول إن قوله: {أو آخران من غيركم} منسوخ بآيات اشتراط العدالة والذي يقول بقبول شهادتهما يقول هي محكمة مخصصة لعموم غيرها وهذا الخلاف معروف ووجه الجواب على كلا القولين ظاهر وأما على قول من قال أن معنى قوله: {ذوا عدل منكم} أي من قبيلة الموصي وقوله: {أو آخران من غيركم} أي من غير قبيلة الموصي من سائر المسلمين، فلا إشكال في الآية ولكن جمهور العلماء على أن قوله: {من غيركم} أي من غير المسلمين وأن قوله: {منكم} أي من المسلمين وعليه فالجواب ما تقدم والعلم عند الله تعالى. اهـ.

.قال الفخر:

قوله: {إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت} المقصود منه بيان أن جواز الاستشهاد بآخرين من غيركم مشروط بما إذا كان المستشهد مسافرًا ضاربًا في الأرض وحضرت علامات نزول الموت به. اهـ.

.قال الماوردي:

{إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} يعني سافرتم.
{فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ} وفي الكلام محذوف تقديره: فأصابتكم مصيبة الموت، وقد أسندتم الوصية إليهما. اهـ.

.قال الخازن:

وقوله تعالى: {إن أنتم ضربتم في الأرض} يعني: إن أنتم سافرتم في الأرض {فأصابتكم مصيبة الموت} يعني نزل بكم أسباب الموت فأوصيتم إليهما ودفعتم مالكم إليهما {تحبسونهما} يعني إن اتهمهما بعض الورثة وادعوا عليهما خيانة فالحكم فيه أن يوقفوهما. اهـ.

.قال الفخر:

قوله تعالى: {تحبسونهما من بعد الصلاة}
تحبسونهما، أي توقفونهما كما يقول الرجل: مرَّ بي فلان على فرس فحبس على دابته أي أوقفها وحبست الرجل في الطريق أكلمه أي أوقفته.
فإن قيل: ما موقع تحبسونهما.
قلنا: هو استئناف كأنه قيل كيف نعمل إن حصلت الريبة فيهما فقيل تحبسونهما. اهـ.
قال الفخر:
قوله: {من بعد الصلاة} فيه أقوال:
الأول: قال ابن عباس من بعد صلاة أهل دينهما، والثاني: قال عامة المفسرين من بعد صلاة العصر.
فإن قيل: كيف عرف أن المراد هو صلاة العصر، مع أن المذكور هو الصلاة المطلقة.
قلنا: إنما عرف هذا التعيين بوجوه: أحدها: أن هذا الوقت كان معروفًا عندهم بالتحليف بعدها فالتقييد بالمعروف المشهور أغنى عن التقييد باللفظ، وثانيها: ما روي أنه لما نزلت هذه الآية صلّى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العصر، ودعا بعدي وتميم، فاستحلفهما عند المنبر، فصار فعل الرسول دليلًا على التقييد، وثالثها: أن جميع أهل الأديان يعظمون هذا الوقت ويذكرون الله فيه ويحترزون عن الحلف الكاذب، وأهل الكتاب يصلون لطلوع الشمس وغروبها.
والقول الثالث: قال الحسن المراد بعد الظهر أو بعد العصر، لأن أهل الحجاز كانوا يقعدون للحكومة بعدهما.
والقول الرابع: أن المراد بعد أداء الصلاة أي صلاة كانت والغرض من التحليف بعد إقامة الصلاة هو أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فكان احتراز الحالف عن الكذب في ذلك الوقت أتم وأكمل، والله أعلم. اهـ.

.قال الماوردي:

{تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاَةِ} يعني تستوقفونهما للأيمان وهذا خطاب للورثة، وفي هذه الصلاة ثلاثة أقوال:
أحدها: بعد صلاة العصر، قاله شريح، والشعبي، وسعيد بن جبير وقتادة.
والثاني: من بعد صلاة الظهر، والعصر، قاله الحسن.
والثالث: من بعد صلاة أهل دينهما ومِلَّتِهِمَا من أهل الذمة، قاله ابن عباس، والسدي. اهـ.

.قال الخازن:

{من بعد الصلاة} يعني من بعد صلاة العصر لأن جميع أهل الأديان يعظمون ذلك الوقت ويجتنبون فيه الحلف الكاذب وقيل من بعد صلاة أهل دينهم لأنهما إذا كانا كافرين لا يحترمان صلاة العصر. اهـ.

.قال الفخر:

قال الشافعي رحمه الله: الأيمان تغلظ في الدماء والطلاق والعتاق، والمال إذا بلغ مائتي درهم في الزمان والمكان، فيحلف بعد العصر بمكة بين الركن والمقام، وبالمدينة عند المنبر، وفي بيت المقدس عند الصخرة، وفي سائر البلدان في أشرف المساجد، وقال أبو حنيفة رحمه الله: يحلف من غير أن يختص الحلف بزمان أو مكان، وهذا على خلاف الآية، ولأن المقصود منه التهويل والتعظيم، ولا شك أن الذي ذكره الشافعي رضي الله عنه أقوى. اهـ.
وقال الفخر:
الفاء في قوله: {فيقسمان بالله} للجزاء يعني: تحبسونهما فيقدمان لأجل ذلك الحبس على القسم.
قوله: {إن ارتبتم} اعتراض بين القسم والمقسم عليه.
والمعنى: ان ارتبتم في شأنهما واتهمتموهما فحلفوهما، وبهذا يحتج من يقول الآية نازلة في إشهاد الكفار، لأن تحليف الشاهد المسلم غير مشروع، ومن قال الآية نازلة في حق المسلم قال إنها منسوخة، وعن علي عليه السلام أنه كان يحلف الشاهد والرواي عند التهمة. اهـ. بتصرف يسير.