فصل: من فوائد القرطبي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد القرطبي في الآية:

قال رحمه الله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ...} الآية.
فيه سبع وعشرون مسألة:
الأُولى قال مكيّ رحمه الله: هذه الآيات الثلاث عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعرابًا ومعنى وحُكمًا؛ قال ابن عطية: هذا كلام من لم يقع له الثلجُ في تفسيرها؛ وذلك بيّن من كتابه رحمه الله.
قلت: ما ذكره مكيّ رحمه الله ذكره أبو جعفر النحاس قبلَه أيضًا، ولا أعلم خلافًا أن هذه الآيات نزلت بسبب تميم الدارِيّ وعديّ بن بَدّاء.
روى البخاريّ والدارقطنيّ وغيرهما عن ابن عباس قال: كان تميم الدارِيّ وعدِيّ بن بدَّاء يختلفان إلى مكة، فخرج معهما فتًى من بني سهم فتُوفّي بأرض ليس بها مسلم، فأوصى إليهما؛ فدفعا تركته إلى أهله وحبسا جامًا من فضة مخوَّصًا بالذهب، فاستحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما كتمتما ولا اطلعتما» ثم وُجد الجامُ بمكة فقالوا: اشتريناه من عَدِي وتَميم، فجاء رجلان من ورثة السهميّ فحلفا أن هذا الجام للسهميّ، ولَشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا؛ قال: فأخذوا الجام؛ وفيهم نزلت هذه الآية. لفظ الدّارَقُطنيّ.
وروى الترمذيّ عن تميم الدارِيّ في هذه الآية.
{يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} بَرِىء منها الناس غيري وغير عديّ بن بَدّاء وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام، فأتَيَا الشام بتجارتهما، وقدم عليهما مولىً لبني سهم يقال له: بُدَيل ابن أبي مريم بتجارة، ومعه جَامٌ من فضة يريد به الملِك، وهو عُظْم تجارته، فمرض فأوصى إليهما، وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهلَه؛ قال تميم: فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم ثم اقتسمناها أنا وعديّ بن بدّاء، فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا، وفقدوا الجام فسألونا عنه فقلنا: ما ترك غير هذا، وما دفع إلينا غيره؛ قال تميم: فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة تأثّمت من ذلك، فأتيت أهله وأخبرتهم الخبر، وأدّيت إليهم خمسمائة درهم، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها، فأتوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم البينة فلم يجدوا، فأمرهم أن يستحلفوه بما يقطع به على أهل دينه، فحلف فأنزل الله عز وجل: {يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} إلى قوله: {بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفا فنزعت الخمسمائة من يدي عدِيّ بن بدّاء.
قال أبو عيسى: هذا حديث غريب وليس إسناده بصحيح.
وذكر الواقديّ أن الآيات الثلاث نزلت في تميم وأخيه عديّ، وكانا نصرانيين، وكان متجرهما إلى مكة، فلما هاجر النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قدم ابن أبي مريم مولى عمرو بن العاص المدينة وهو يريد الشام تاجرًا، فخرج مع تميم وأخيه عديّ؛ وذكر الحديثَ.
وذكر النقاش قال: نزلت في بُدَيل بن أبي مريم مولى العاص بن وائل السهميّ؛ كان خرج مسافرًا في البحر إلى أرض النجاشيّ، ومعه رجلان نصرانيان أحدهما يسمى تَميمًا وكان من لَخْم وعدِيّ بن بدّاء، فمات بُديل وهم في السفينة فرمى به في البحر، وكان كتب وصيته ثم جعلها في المتاع فقال: أبلِغا هذا المتاع أهلي، فلما مات بديل قبضا المال، فأخذا منه ما أعجبهما فكان فيما أخذا إناء من فضة فيه ثلثمائة مثقال، منقوشًا مموّهًا بالذهب؛ وذكر الحديث.
وذكره سُنيد وقال: فلما قدموا الشام مرض بُدَيل وكان مسلمًا؛ الحديث.
الثانية قوله تعالى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} ورد «شهد» في كتاب الله تعالى بأنواع مختلفة: منها قوله تعالى: {واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ} قيل: معناه أحضروا.
ومنها «شَهِد» بمعنى قضى أي أعلم؛ قاله أبو عبيدة؛ كقوله تعالى: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ} [آل عمران: 18].
ومنها «شَهِد» بمعنى أقرّ؛ كقوله تعالى: {والملائكة يَشْهَدُونَ} [النساء: 166].
ومنها «شَهِد» بمعنى حكم.
قال الله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا} [يوسف: 26].
ومنها «شَهِد» بمعنى حلف؛ كما في اللِّعان.
«وشَهِد» بمعنى وَصَّى؛ كقوله تعالى: {يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ}.
وقيل: معناها هنا الحضور للوصية؛ يقال: شَهِدت وصية فلان أي حضرتها.
وذهب الطبريّ إلى أن الشهادة بمعنى اليمين؛ فيكون المعنى يمين ما بينكم أن يحلف اثنان؛ واستدل على أن ذلك غير الشهادة التي تؤدّى للمشهود له بأنه لا يُعلم لله حكم يجب فيه على الشاهد يمينٌ.
واختار هذا القول القَفَّال.
وسميت اليمين شهادة؛ لأنه يثبت بها الحكم كما يثبت بالشهادة.
واختار ابن عطية أن الشهادة هنا هي الشهادة التي تُحفظ فتؤدّى، وضعّف كونها بمعنى الحضور واليمين.
الثالثة قوله تعالى: {بَيْنِكُمْ} قيل: معناه ما بينكم فحذفت «ما» وأُضيفت الشهادة إلى الظرف، واستعمل اسما على الحقيقة، وهو المسمى عند النحويين بالمفعول على السعة؛ كما قال:
ويومًا شهدناه سُلَيما وعامرا

أراد شهدنا فيه.
وقال تعالى: {بَلْ مَكْرُ الليل والنهار} [سبأ: 33] أي مكركم فيهما.
وأنشد:
تُصافح من لاقيتَ لي ذا عداوة ** صِفَاحا وعنِّي بين عَيْنَيْكَ مُنْزَوِي

أراد ما بين عينيك فحذف؛ ومنه قوله تعالى: {هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78] أي ما بيني وبينك.
الرابعة قوله تعالى: {إِذَا حَضَرَ} معناه إذا قارب الحضور، وإلا فإذا حضر الموت لم يشهد ميت.
وهذا كقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن فاستعذ بالله} [النحل: 98].
وكقوله: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء فَطَلِّقُوهُنَّ} [الطلاق: 1] ومثله كثير.
والعامل في {إذَا} المصدر الذي هو {شَهَادَةُ}.
الخامسة قوله تعالى: {حِينَ الوصية اثنان} {حين} ظرف زمان والعامل فيه {حَضَرَ}.
وقوله: {اثنان} يقتضي بمطلقه شخصين، ويحتمل رجلين، إلا أنه لما قال بعد ذلك: {ذَوَا عَدْلٍ} بيّن أنه أراد رجلين؛ لأنه لفظ لا يصلح إلا للمذكر، كما أن {ذَوَاتَا} [الرحمن: 48] لا يصلح إلا للمؤنث.
وارتفع {اثنان} على أنه خبر المبتدأ الذي هو {شَهَادَةُ}؛ قال أبو عليّ: {شَهَادَةُ} رفع بالابتداء والخبر في قوله: {اثنان}؛ التقدير شهادة بينكم في وصاياكم شهادة اثنين؛ فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه؛ كما قال تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] أي مثل أُمهاتهم.
ويجوز أن يرتفع {اثنان} بـ{شهادة}؛ التقدير وفيما أنزل عليكم أو ليكن منكم أن يشهد اثنان، أو ليقم الشهادة اثنان.
السادسة قوله تعالى: {ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ} {ذَوَا عَدْلٍ} صفة لقوله: {اثْنَانِ} و{منكم} صفة بعد صفة.
وقوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} أي أو شهادة آخرين من غيركم؛ فمن غيركم صفة لآخرين.
وهذا الفصل هو المشكل في هذه الآية، والتحقيق فيه أن يقال: اختلف العلماء فيه على ثلاثة أقوال:
الأوّل أن الكاف والميم في قوله: {مِنْكُمْ} ضمير للمسلمين {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} للكافرين؛ فعلى هذا تكون شهادة أهل الكتاب على المسلمين جائزة في السفر إذا كانت وصية، وهو الأشبه بسياق الآية، مع ما تقرّر من الأحاديث.
وهو قول ثلاثة من الصحابة الذين شاهدوا التنزيل؛ أبو موسى الأشعريّ، وعبد الله بن قيس، وعبد الله بن عباس؛ فمعنى الآية من أوّلها إلى آخرها على هذا القول؛ أن الله تعالى أخبر أن حكمه في الشهادة على الموصي إذا حضر الموت أن تكون شهادة عدلين؛ فإن كان في سفر وهو الضّرب في الأرض، ولم يكن معه أحد من المؤمنين، فليُشهد شاهدين ممن حضره من أهل الكفر، فإذا قدما وأدّيا الشهادة على وصيته حلفا بعد الصلاة أنهما ما كذبا وما بَدّلا، وأن ما شهِدا به حق، ما كتما فيه شهادة وحُكِم بشهادتهما؛ فإن عُثِرَ بعد ذلك على أنهما كذبا أو خانا، ونحو هذا مما هو إثم حلف رجلان من أولياء الموصِي في السفر، وغرم الشاهدان ما ظهر عليهما.
هذا معنى الآية على مذهب أبي موسى الأشعريّ، وسعيد بن المسيب، ويحيى بن يعمر؛ وسعيد بن جبير وأبي مجْلَز وإبراهيم وشريح وعبيدة السلمانيّ؛ وابن سِيرين ومجاهد وقتادة والسديّ وابن عباس وغيرهم.
وقال به من الفقهاء سفيان الثوريّ؛ ومال إليه أبو عبيد القاسم بن سلام لكثرة من قال به.
واختاره أحمد بن حنبل وقال: شهادة أهل الذمة جائزة على المسلمين في السفر عند عدم المسلمين؛ كلهم يقولون {مِنكم} من المؤمنين ومعنى {مِنْ غَيْرِكُمْ} يعني الكفار.
قال بعضهم: وذلك أن الآية نزلت ولا مؤمن إلا بالمدينة؛ وكانوا يسافرون بالتجارة صحبة أهل الكتاب وعبدة الأوثان وأنواع الكفرة.
والآية محكمة على مذهب أبي موسى وشُرَيْح وغيرهما.
القول الثاني أن قوله سبحانه: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} منسوخ؛ هذا قول زيد بن أسلم والنخعيّ ومالك؛ والشافعيّ وأبي حنيفة وغيرهم من الفقهاء؛ إلا أن أبا حنيفة خالفهم فقال: تجوز شهادة الكفار بعضهم على بعض؛ ولا تجوز على المسلمين؛ واحتجوا بقوله تعالى: {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهداء} [البقرة: 282] وقوله: {وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ} [الطلاق: 2]؛ فهؤلاء زعموا أن آية الدّيْن من آخر ما نزل؛ وأن فيها {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهداء} فهو ناسخ لذلك؛ ولم يكن الإسلام يومئذ إلا بالمدينة؛ فجازت شهادة أهل الكتاب؛ وهو اليوم طبق الأرض فسقطت شهادة الكفار؛ وقد أجمع المسلمون على أن شهادة الفُسّاق لا تجوز؛ والكفار فساق فلا تجوز شهادتهم.
قلت: ما ذكرتموه صحيح إلا أنا نقول بموجبه؛ وأن ذلك جائز في شهادة أهل الذمة على المسلمين في الوصية في السفر خاصة للضرورة بحيث لا يوجد مسلم؛ وأما مع وجود مسلم فلا؛ ولم يأت ما ادعيتموه من النسخ عن أحد ممن شهد التنزيل؛ وقد قال بالأوّل ثلاثة من الصحابة وليس ذلك في غيره؛ ومخالفة الصحابة إلى غيرهم ينفر عنه أهل العلم.
ويقوّي هذا أن سورة «المائدة» من آخر القرآن نزولًا حتى قال ابن عباس والحسن وغيرهما: إنه لا منسوخ فيها.
وما ادعوه من النّسخ لا يصح؛ فإن النّسخ لابد فيه من إثبات الناسخ على وجه يتنافى الجمع بينهما مع تراخي الناسخ؛ فما ذكروه لا يصح أن يكون ناسخًا؛ فإنه في قصة غير قصة الوصية لمكان الحاجة والضرورة؛ ولا يمتنع اختلاف الحكم عند الضرورات؛ ولأنه ربما كان الكافر ثقة عند المسلم ويرتضيه عند الضرورة؛ فليس فيما قالوه ناسخ.
القول الثالث أن الآية لا نسخ فيها؛ قاله الزهريّ والحسن وعِكرِمة؛ ويكون معنى قوله: {مِنْكُمْ} أي من عشيرتكم وقرابتكم؛ لأنهم أحفظ وأضبط وأبعد عن النسيان.
ومعنى قوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} أي من غير القرابة والعشيرة؛ قال النحاس: وهذا ينبني على معنى غامض في العربية؛ وذلك أن معنى «آخَر» في العربية من جنس الأوّل؛ تقول: مررت بكريم وكريم آخر؛ فقوله: «آخر» يدل على أنه من جنس الأوّل؛ ولا يجوز عند أهل العربية مررت بكريم وخسيس آخر؛ ولا مررت برجل وحمار آخر؛ فوجب من هذا أن يكون معنى قوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} أي عدلان؛ والكفار لا يكونون عدولًا فيصح على هذا قول من قال: {مِنْ غَيْرِكُمْ} من غير عشيرتكم من المسلمين.