فصل: من فوائد الشوكاني في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والجملة شرطية حذف جوابها لدلالة ما سبق من الحبس والإقسام عليه، والشرط مع جوابه المحذوف معترض بين القسم وجوابه أعني قوله تعالى: {لاَ نَشْتَرِى بِهِ ثَمَنًا} وقد سيق من جهته تعالى للتنبيه على اختصاص الحبس والتحليف بحال الارتياب وليس هذا من قبيل ما اجتمع فيه قسم وشرط فاكتفى بذكر جواب سابقهما عن جواب الآخر كما هو الواقع غالبًا لأن ذلك إنما يكون عند سد جواب السابق مسد جواب اللاحق لاتحاد مضمونهما كما في قولك: والله إن أتيتني لأكرمنك، ولا ريب في استحالته هاهنا لأن القسم وجوابه كلام الشاهدين والشرطية كما علمت من جهته سبحانه وتعالى، ولا يتوهم أن إن هنا وصلية لأنها مع أن الواو لازمة لها ليس المعنى عليها كما لا يخفى.
وزعم بعضهم جواز كونها شرطية و{لاَ نَشْتَرِى} دليل الجواب، والمعنى إن ارتبتم فلا ينبغي ذلك أو فقد أخطأتم لأنا لسنا ممن يشتري به ثمنًا قليلًا وهو بعيد جدًا وتخلو الآية عليه ظاهرًا من شرط التحليف، وضمير {بِهِ} عائد إلى الله تعالى، والمعنى لا نأخذ لأنفسنا بدلًا من الله سبحانه أي من حرمته تعالى عرضًا من الدنيا بأن نزيلها بالحلف الكاذب وحاصله لا نحلف بالله تعالى حلفًا كاذبًا لأجل المال، وقيل: إنه عائد إلى القسم على تقدير مضاف أي لا نستبدل بصحة القسم بالله تعالى عرضًا من الدنيا بأن نزيل عنه وصف الصدق ونصفه بالكذب، وقيل: إلى الشهادة باعتبار أنها قول ولابد من تقدير مضاف أيضًا، وتقدير مضاف في {ثَمَنًا} أي ذا ثمن مما لا يدع إليه إلا قلة التأميل.
{وَلَوْ كَانَ} المقسم له المدلول عليه بفحوى الكلام {ذَا قربى} أي قريبًا منا.
وهذا تأكيد لتبريهما من الحلف الكاذب ومبالغة في التنزه عنه كأنهما قالا: لا نأخذ لأنفسنا بدلًا من ذلك مالًا ولو انضم إليه رعاية جانب الأقرباء فكيف إذا لم يكن كذلك، وصيانة أنفسهما وإن كانت أهم من رعاية جانب الأقرباء لكنها كما قال شيخ الإسلام ليست ضميمة المال بل هي راجعة إليه، وقيل: الضمير للمشهود له على معنى لا نحابي أحدًا بشهادتنا ولو كان قريبًا منا، وجواب لو محذوف اعتمادًا على ما سبق عليه أي لا نشتري به ثمنًا، والجملة معطوفة على جملة أخرى محذوفة أي لو لم يكن ذا قربى ولو كان الخ، وجعل السمين الواو للحال، وقد تقدم لك ما ينفعك هنا.
وجوز بعضهم إرجاع الضمير للشاهد وقدر جوابًا للو غير ما قدرناه أي ولو كان الشاهد قريبًا يقسمان، وجعل فائدة ذلك دفع توهم اختصاص الأقسام بالأجنبي، ولا يخفى ما في التركيب حينئذ من الركاكة التي لا ينبغي أن تكون في كلام هذا البعض فضلًا عن كلام رب الكل، ونشهد بالله سبحانه وتعالى أن حمل كلامه عز وجل على مثل ذلك مما لا يليق.
{وَلاَ نَكْتُمُ شهادة الله} أي الشهادة التي أمرنا سبحانه وتعالى بإقامتها وألزمنا أداءها فالإضافة للاختصاص أو لأدنى ملابسة، والجملة معطوفة على {لاَ نَشْتَرِى بِهِ} داخل معه في حيز القسم.
وروي عن الشعبي أنه وقف على {شَهَادَةً} بالهاء ثم ابتدأ آلله بالمد والجر على حذف حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام منه وليس هذا من حذف حرف الجر وإبقاء عمله وهو شاذ كقوله:
أشارت كليب بالأكف الأصابع

لأن ذلك حيث لا تعويض، وفي الجلالة الكريمة تعويض همزة الاستفهام عن المحذوف، وهل البحر به أو بالعوض قولان.
وروي عنه وكذا عن الحسن رضي الله تعالى عنه ويحيى بن عمر وابن جرير وآخرين {الله} بدون مد وفي ذلك احتمالان.
الأول: أن الحذف من غير عوض فيكون على خلاف القياس، والثاني: أن الهمزة المذكورة همزة الاستفهام وهي همزة قطع عوضت عن الحرف ولكنها لم تمد وهذا أولى من دعوى الشذوذ ولذا اختاره في «الدر المصون»، وقرئ بتنوين الشهادة ووصل الهمزة ونصب اسم الله تعالى من غير مد وخرجه أبو البقاء على أنه منصوب بفعل القسم محذوفًا.
{إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الآثمين} أي إذا فعلنا ذلك وكتمنا، والعدول عن آثمون إلى ما ذكر للمبالغة.
وقرئ {لملاثمين} بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وإدغام النون فيها. اهـ.

.من فوائد الشوكاني في الآية:

قال رحمه الله:
قال مكيّ: هذه الآيات الثلاث عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعرابًا ومعنى وحكمًا.
قال ابن عطية: هذا كلام من لم يقع له النتاج في تفسيرها، وذلك بين من كتابه رحمه الله، يعني من كتاب مكي.
قال القرطبي: ما ذكره مكي ذكره أبو جعفر النحاس قبله أيضًا.
قال السعد في حاشيته على الكشاف: واتفقوا على أنها أصعب ما في القرآن إعرابًا ونظمًا وحكمًا.
قوله: {شهادة بَيْنِكُمْ} أضاف الشهادة إلى البين توسعًا لأنها جارية بينهم؛ وقيل أصله شهادة ما بينكم فحذفت «ما»، وأضيفت إلى الظرف كقوله تعالى: {بَلْ مَكْرُ اليل والنهار} [سبأ: 33] ومنه قول الشاعر:
تصافح من لاقيت لي ذا عداوة ** صفايا وعني بين عينيك منزوي

أراد ما بين عينيك، ومثله قول الآخر:
ويومًا شهدناه سليمًا وعامرًا

أي: شهدنا فيه، ومنه قوله تعالى: {هذا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78] قيل: والشهادة هنا بمعنى الوصية؛ وقيل بمعنى الحضور للوصية.
وقال ابن جرير الطبري: هي هنا بمعنى اليمين، فيكون المعنى: يمين ما بينكم أن يحلف اثنان، واستدل على ما قاله بأنه لا يعلم لله حكمًا يجب فيه على الشاهد يمين.
واختار هذا القول القفال، وضعف ذلك ابن عطية، واختار أن الشهادة هنا هي الشهادة التي تؤدى من الشهود.
قوله: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت} ظرف للشهادة، والمراد إذا حضرت علاماته، لأن من مات لا يمكنه الإشهاد، وتقديم المفعول للاهتمام ولكمال تمكن الفاعل عند النفس.
وقوله: {حِينَ الوصية} ظرف لحضر أو للموت، أو بدل من الظرف الأوّل.
وقوله: {اثنان} خبر شهادة على تقدير محذوف، أي شهادة اثنين أو فاعل للشهادة على أن خبرها محذوف، أي فيما فرض عليكم شهادة بينكم اثنان على تقدير أن يشهد اثنان، ذكر الوجهين أبو عليّ الفارسي.
قوله: {ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ} صفة للاثنان وكذا منكم أي كائنان منكم، أي من أقاربكم {أَوْ آخَرَان} معطوف على {اثنان}، و{مِنْ غَيْرِكُمْ} صفة له، أي كائنان من الأجانب؛ وقيل: إن الضمير في {مّنكُمْ} للمسلمين، وفي {غَيْرِكُمْ} للكفار وهو الأنسب لسياق الآية، وبه قال أبو موسى الأشعري، وعبد الله بن عباس وغيرهما، فيكون في الآية دليل على جواز شهادة أهل الذمة على المسلمين في السفر، في خصوص الوصايا كما يفيده النظم القرآني، ويشهد له السبب للنزول وسيأتي، فإذا لم يكن مع الموصي من يشهد على وصيته من المسلمين فليشهد رجلان من أهل الكفر، فإذا قدما وأدّيا بالشهادة على وصيته حلفا بعد الصلاة أنهما ما كذبا ولا بدّلا، وأن ما شهدا به حق، فيحكم حينئذ بشهادتهما {فَإِنْ عُثِرَ} بعد ذلك {على أَنَّهُمَا} كذبا أو خانا حلف رجلان من أولياء الموصي وغرم الشاهدان الكافران ما ظهر عليهما من خيانة أو نحوها، هذا معنى الآية عند من تقدم ذكره، وبه قال سعيد بن المسيب ويحيى بن يعمر، وسعيد بن جبير، وأبو مجلز، والنخعي وشريح، وعبيدة السلماني، وابن سيرين، ومجاهد، وقتادة، والسديّ، والثوري، وأبو عبيد، وأحمد بن حنبل.
وذهب إلى الأول: أعني تفسير ضمير {مّنكُمْ} بالقرابة أو العشيرة، وتفسير {مِنْ غَيْرِكُمْ} بالأجانب الزهري والحسن وعكرمة.
وذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم من الفقهاء أن الآية منسوخة، واحتجوا بقوله: {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهداء} [البقرة: 282] وقوله: {وَأَشْهِدُواْ ذَوِى عَدْلٍ مّنْكُمْ} [الطلاق: 2] والكفار ليسوا بمرضيين ولا عدول، وخالفهم الجمهور فقالوا: الآية محكمة، وهو الحق لعدم وجود دليل صحيح يدل على النسخ.
وأما قوله تعالى: {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهداء} [البقرة: 282] وقوله: {وَأَشْهِدُواْ ذَوِى عَدْلٍ مّنْكُمْ} [الطلاق: 2] فهما عامان في الأشخاص والأزمان والأحوال، وهذه الآية خاصة بحالة الضرب في الأرض وبالوصية وبحالة عدم الشهود المسلمين، ولا تعارض بين عامّ وخاص.
قوله: {إِنْ أَنتُمْ} هو فاعل فعل محذوف يفسره ضربتم، أو مبتدأ وما بعده خبر، والأوّل: مذهب الجمهور من النحاة، والثاني: مذهب الأخفش والكوفيين، والضرب في الأرض هو السفر.
وقوله: {فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الموت} معطوف على ما قبله وجوابه محذوف؛ أي إن ضربتم في الأرض فنزل بكم الموت، وأردتم الوصية، ولم تجدوا شهودًا عليها مسلمين، ثم ذهبا إلى ورثتكم بوصيتكم وبما تركتم فارتابوا في أمرهما وادّعوا عليها خيانة، فالحكم أن تحبسوهما، ويجوز أن يكون استئنافًا لجواب سؤال مقدّر، كأنهم قالوا: فكيف نصنع إن ارتبنا في الشهادة؟ فقال: تحبسونهما من بعد الصلاة إن ارتبتم في شهادتهما.
وخص بعد الصلاة، أي صلاة العصر، قاله الأكثر لكونه الوقت الذي يغضب الله على من حلف فيه فاجرًا كما في الحديث الصحيح.
وقيل لكونه وقت اجتماع الناس وقعود الحكام للحكومة وقيل صلاة الظهر.
وقيل: أيّ صلاة كانت.
قال أبو عليّ الفارسي: {تَحْبِسُونَهُمَا} صفة لآخران، واعترض بين الصفة والموصوف بقوله: {إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ في الأرض}، والمراد بالحبس: توقيف الشاهدين في ذلك الوقت لتحليفهما، وفيه دليل على جواز الحبس بالمعنى العام، وعلى جواز التغليظ على الحالف بالزمان والمكان ونحوهما.
قوله: {فَيُقْسِمَانِ بالله} معطوف على {تَحْبِسُونَهُمَا} أي: يقسم بالله الشاهدان على الوصية أو الوصيان.
وقد استدلّ بذلك ابن أبي ليلى على تحليف الشاهدين مطلقًا إذا حصلت الريبة في شهادتهما، وفيه نظر؛ لأن تحليف الشاهدين هنا إنما هو لوقوع الدعوى عليهما بالخيانة أو نحوها.
قوله: {إِنِ ارتبتم} جواب هذا الشرط محذوف دلّ عليه ما تقدّم كما سبق.
قوله: {لاَ نَشْتَرِى بِهِ ثَمَنًا} جواب القسم، والضمير في {بِهِ} راجع إلى الله تعالى.
والمعنى: لا نبيع حظنا من الله تعالى بهذا العرض النزر، فنحلف به كاذبين لأجل المال الذي ادّعيتموه علينا.
وقيل يعود إلى القسم: أي لا نستبدل بصحة القسم بالله عرضًا من أعراض الدنيا.
وقيل يعود إلى الشهادة، وإنما ذكر الضمير لأنها بمعنى القول، أي لا نستبدل بشهادتنا ثمنًا.
قال الكوفيون: المعنى ذا ثمن، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وهذا مبنيّ على أن العروض لا تسمى ثمنًا، وعند الأكثر أنها تسمى ثمنًا، كما تسمى مبيعًا.
قوله: {وَلَوْ كَانَ ذَا قربى} أي ولو كان المقسم له، أو المشهود له قريبًا فإنا نؤثر الحق والصدق، ولا نؤثر العرض الدنيوي، ولا القرابة، وجواب «لو» محذوف لدلالة ما قبله عليه، أي ولو كان ذا قربى، لا نشتري به ثمنًا.
قوله: {وَلاَ نَكْتُمُ شهادة الله} معطوف على {لاَ نَشْتَرِى} داخل معه في حكم القسم، وأضاف الشهادة إلى الله سبحانه لكونه الآمر بإقامتها والناهي عن كتمها. اهـ.

.من فوائد ابن عاشور في الآية:

قال رحمه الله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ}.
استؤنفت هذه الآي استئنافًا ابتدائيًا لشرع أحكام التوثّق للوصية لأنّها من جملة التشريعات التي تضمّنتها هذه السورة، تحقيقًا لإكمال الدين، واستقصاء لما قد يحتاج إلى علمه المسلمون وموقعها هنا سنذكره.