فصل: من فوائد الشعراوي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فمنه ما هو بإكراه كحبس الجاني في بيت أو إثقافه في قيد.
ومنه ما يكون بمعنى الانتظار، كما في حديث عتبان بن مالك {فغدا عليّ رسول الله وأبو بكر إلى أن قال وحبسناه على خزير صنعناه}، أي أمسكناه.
وهذا هو المراد في الآية، أي تمسكونهما ولا تتركونهما يغادِرَانِكم حتّى يتحمّلا الوصية.
وليس المرادّ به السجن أو ما يقرب منه، لأنّ الله تعالى قال: {ولا يضارّ كاتب ولا شهيد} [البقرة: 282].
وقوله: {من بعد الصلاة} توقيت لإحضارهما وإمساكهما لأداء هذه الشهادة.
والإتيانُ بـ «من» الابتدائية لتقريب البَعديّة، أي قرب انتهاء الصلاة.
وتحتمل الآية أنّ المراد بالصلاة صلاة من صلوات المسلمين، وبذلك فسّرها جماعة من أهل العلم، فمنهم من قال: هي صلاة العصر.
وروي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أحْلف تميمًا الداري وعَدي بنَ بدّاء في قضية الجام بعد العصر، وهو قول قتادة، وسعيد، وشريح، والشعبي.
ومنهم من قال: الظهر، وهو عن الحسن.
وتحتمل من بعد صلاة دينهما على تأويل من غيركم بمعنى من غير أهل دينكم.
ونقل عن السديّ، وابن عبّاس، أي تُحضرونهما عقب أدائهما صلاتهما لأنّ ذلك قريب من إقبالهما على خشية الله والوقوف لعبادته.
وقوله: {فيقسمان بالله} عطف على {تحبسونهما} فعلم أنّ حبسهما بعد الصلاة لأجل أن يقسما بالله.
وضمير {يقسمان} عائد إلى قوله: {آخران}.
فالحلف يحلفه شاهدا الوصية اللذان هما غير مسلمين لزيادة الثقة بشهادتهما لعدم الاعتداد بعدالة غير المسلم.
وقوله: {إن ارتبتم} تظافرت أقوال المفسّرين على أنّ هذا شرط متّصل بقوله: {تحبسونهما} وما عطف عليه.
واستغني عن جواب الشرط لدلالة ما تقدّم عليه ليتأتّى الإيجاز، لأنّه لو لم يقدّم لقيل: أو آخران من غيركم فإن ارتبتم فيهما تحبسونهما إلى آخره.
فيقتضي هذا التفسير أنّه لو لم تَحصل الريبة في صدقهما لما لزم إحْضارهما من بعد الصلاة وقسمهما، فصار ذلك موكولًا لِخيَرة الولي.
وجملة الشرط معترضة بين فعل القسم وجوابه.
والوجه عندي أن يكون قوله: {إن ارتبتم} من جملة الكلام الذي يقوله الشاهدان، ومعناه أنّ الشاهدين يقولان: إن ارتبتم في شهادتنا فنحن نقسم بالله لا نشتري به ثمنًا ولو كان ذا قربى ولا نكتم الشهادة، أي يقولان ذلك لاطمئنان نفس المُوصي، لأنّ العدالة مظنّة الصدق مع احتمال وجود ما ينافيها ممّا لا يُطّلع عليه فأكّدت مظنّة الصدق بالحلف؛ فيكون شُرع هذا الكلام على كلّ شاهد ليسْتوي فيه جميع الأحوال بحيث لا يكون توجيه اليمين في بعض الأحوال حَرجًا على الشاهدين الذين توجّهت عليهما اليمينُ من أنّ اليمين تعريض بالشكّ في صدقهما، فكان فرض اليمين من قِبَل الشرع دافعًا للتحرّج بينهما وبين الوليّ، لأنّ في كون اليمين شرطًا من عند الله معذرة في المطالبة بها، كما قال جمهور فقهائنا في يمين القضاء التي تتوجّه على من يثبت حقًّا على ميّت أو غائب من أنّها لازمة قبل الحكم مطلقًا ولو أسقطها الوارث الرشيد.
ولم أقف على مَن عرّج على هذا المعنى من المفسّرين إلاّ قول الكواشي في «تلخيص التفسير»: «وبعضُهم يقف على {يقسمان} ويبتدىء {بالله} قسمًا ولا أحبّه»، وإلاّ ما حكاه الصفاقسي في «مُعربَه» عن الجرجاني «أنّ هنا قولًا محذوفًا تقديره: فيقسمان بالله ويَقُولان».
ولم يظهر للصفاقسي ما الذي دعَا الجرجاني لِتقدير هذا القول.
ولا أراه حمله عليه إلاّ جَعْلُ قوله: {إن ارتبتم} من كلام الشاهديْن.
وجوابُ الشرط محذوف يدلّ عليه جواب القسم، فإنّ القسم أولى بالجواب لأنّه مقدّم على الشرط.
وقوله: {لا نشتري به ثمنًا} الخ، ذلك هو المقسم عليه.
ومعنى {لا نشتري به ثمنًا} لا نعتاض بالأمر الذي أقسمنا عليه ثمنًا، أي عوضًا، فضمير به، عائد إلى القسم المفهوم من {يقسمان}.
وقد أفاد تنكير {ثمنًا} في سياق النفي عمومَ كلّ ثمن.
والمراد بالثمن العوَض، أي لا نبدّل ما أقسمنا عليه بعوض كائنًا ما كان العوضُ، ويجوز أن يكون ضمير {به} عائدًا إلى المقسم عليه وهو ما استشهدا عليه من صيغة الوصي بجميع ما فيها.
وقوله: {ولو كان ذا قُربى} حال من قوله: {ثمنًا} الذي هو بمعنى العوض، أي ولو كان العوض ذا قربى، أي ذا قربى منّا، و{لو} شرط يفيد المبالغة فإذا كان ذا القربى لا يَرْضيانه عوّضًا عن تبديل شهادتهما فأوْلى ما هو دون ذلك.
وذلك أنّ أعظم ما يدفع المرء إلى الحيف في عرف القبائل هو الحميّة والنصرة للقريب، فذلك تصغر دونه الرّشى ومنافع الذات.
والضمير المسْتتر في {كان} عائد إلى قوله: {ثَمنًا}.
ومعنى كون الثمن، أي العوض، ذَا قربى أنّه إرضاء ذي القربى ونفعه فالكلام على تقدير مضاف، وهو من دلالة الاقتضاء لأنّه لا معنى لجعل العوض ذات ذي القربى، فتعيّن أنّ المراد شيء من علائقه يعيّنه المقام.
ونظيره {حُرِّمت عليكم أمّهاتكم} [النساء: 23].
وقد تقدّم وجه دلالة مثل هذا الشرط بـ «لو» وتسميتها وصلية عند قوله تعالى: {ولو افتدى به} من سورة آل عمران (91).
وقوله: {ولا نكتم} عطف على {لا نشتري}، لأنّ المقصود من إحلافهما أن يؤدّيا الشهادة كما تلقّياها فلا يغيّرا شيئًا منها ولا يكتماها أصلًا.
وإضافة الشهادة إلى اسم الجلالة تعظيم لخطرها عند الشهادة وغيره لأنّ الله لمّا أمر بأدائها كما هي وحَضّ عليها أضافها إلى اسمه حفظًا لها من التغيير، فالتصريح باسمه تعالى تذكير للشاهد به حينَ القسم.
وفي قوله: {ولا نكتم} دليل على أنّ المراد بالشهادة هنا معناها المتعارف، وهو الإخبار عن أمر خاصّ يعرِض في مثله الترافعُ.
وليس المراد بها اليمين كما توهّمه بعض المفسّرين فلا نطيل بردّه فقد ردّه اللفظ.
وجملة {إنَّا إذًا لمن الآثمين} مستأنفة استئنافًا بيانيًا لأنّها جواب سؤال مقدّر بدليل وجود {إذنْ}، فإنّه حرفُ جواب: استشعر الشاهدان سؤالًا من الذي حَلفا له بقولهما: لا نشتري به ثمنًا ولا نكتم شهادة الله، يقول في نفسه: لعلّكما لا تَبِرّان بما أقسمتما عليه، فأجابا: إنّا إذَنْ لَمِن الآثمين، أي إنّا نَعلم تبعة عدم البرّ بما أقسمنا عليه أن نكون من الآثمين، أي ولا نرضى بذلك.
والآثمُ: مرتكب الإثم.
وقد علم أنّ الإثم هو الحنث بوقوع الجملة استئنافًا مع «إذن» الدالّة على جواب كلام يختلج في نفس أولياء الميّت. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ...} الآية (106).
الحق سبحانه كما ساس ودبر حياة المؤمن الدنيوية، دبر وتولى- جل شأنه- حياته الأخروية ليلفته إلى أنه يجب عليه ألا ينظر إلى حياته العاجلة فقط ولكن عليه أن يدبر أمر نفسه فيما يستقبله من أمر الحياة الآخرة، ففي لحظة مواجهة الموت عليه ألا ينسى الوصية إن كان مدينًا لأحد أو كان له دين عند أحد. وكذلك إن سافر الإنسان ضربًا في الأرض فعليه أن يوصي حتى لا يضيِّع على ورثته حقًا لهم. أو يسدد ما عليه من دين ليبرئ ذمته، وأن يُشْهِد على وصيته اثنين من المسلمين، أما إذا كان الإنسان يصاحب في السفر أناسًا غير مسلمين فعليه أيضًا أن يُشهدهم على الوصية، ولم يترك الحق لنا في هذا الأمر أي عذر، بل لابد من شهادة اثنين. والشهادة هي الأمر المشهود في الحاضر، ومثال قوله الحق: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185].
أي أن الإنسان إذا حضر الشهر وأدركه فليصم، والشهادة تأتي بمعنى الرؤية مثال ذلك قوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ المؤمنين} [النور: 2].
أي أن يحضر مشهد الجلد جماعة من المؤمنين. وتأتي الشهادة أيضًا بمعنى الحكم: {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ} [يوسف: 26-27].
إذن فالشهادة تأتي بمعانٍ متعددة. والأصل فيها المشهد، أي الشيء الذي تشاهده. والوصية- كما نعلم- هي إيصاء بأمر يهم الموصي بالنسبة للموصى إليه. والمؤمن يوصي بالخير. ويسمعه من لا يرث، أي الذي ليس له شرعًا نصيب في التركة، لكن قد يكون لغير الوارث سبب من أسباب المنفعة مع المورِّث. وعلى الرغم من ذلك فالسامع للوصية يبرئ ذمته فيبلغ ما سمع إلى الورثة؛ لأن الوصية هي مسألة في نفس الموصي، وقد لا يكون لها حيثية عند من يسمعها أو يتلقاها ولكنها ذات حيثية في نفس الذي يقولها؛ لذلك جعل الله الوصية قبل الدين في قوله الحق: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12].
إن ذلك يحدث على الرغم من أن الدَّيْن مقدم على الوصية؛ لأن الدين حق والوصية تبرع. ويريد الحق ذلك؛ لأن الدين له مُطالب سيطالب به، ولكن الموصي إليه قد لا يكون صاحب حق ولكنه يتلقى تبرعًا بالوصية، أو يكون حقه لدى الموصي غير موثق بصك أو شهادة؛ لذلك يقدمه الحق سبحانه وتعالى ليجعلنا نهتم بأمر الوصية. أو يكون الذي وصى بشيء قد عاش في الحياة ويعلم مَنْ مِنَ الناس أثر في حياته علميًا أو أدبيًا أو خلقيًا أو اجتماعيًا؛ لذلك يريد الله سبحانه وتعالى ألا يبارح الإنسان الحياة إلا بعد أن يؤدي المؤمن هذا الحق الأريحي لمن كان له عليه دين في دنياه.
وهذه مسألة قد لا تشغل الورثة، بل قد يكرهونها. لكن صاحب الوصية هو الذي يعلم حيثياتها.
ولذلك أراد الحق سبحانه وتعالى أن يؤكد أمر الوصية حتى في الوقت الذي يعز فيه التأكيد، فأمر الإنسان أن يوصي بها إن كان بين أهله وقومه، ويؤكد الحق أهمية الوصية أيضًا إن كان الإنسان مسافرًا، فإن أحس باقتراب الموت فله أن ينادي اثنين من أهل دينه ويوصيهما. وإن لم يجد أحدًا من أهل دينه فليُسْمِع وصيته اثنين من غير أهل دينه، ولذلك مناسبة:
فقد حدث أن رجلًا مسلمًا اسمه بديل بن أبي مريم مولى العاص بن وائل السهمي، كان على سفر مع غير مسلمين وحضرت له مقدمات الموت فكتب ورقة ووضعها مع كل ما معه من متاع- احتياطيًا- ونادى على اثنين من غير المسلمين وهما تميم الداري وعدّي بن بدّاء، وأوصاهما أن يسلما متاعه لأهله، ومات الرجل. لكنَّ الاثنين فتحا المتاع ووجدا فيه إناءً مفضضًا ومُذَهَّبا وله قيمة، فأخذاه وباعاه بألف درهم واقتسما المبلغ، وسلما المتاع لأهل الميت الذين عثروا على الورقة المكتوب فيها كل التفاصيل بما فيها خبر الإناء الثمين. وسأل أهل الميت الشخصين اللذين سلما المتاع عن الإناء فأنكرا أي معرفة به. وأنكرا أيضًا أنها رأيا صاحب الإناء يبيعه. وبعد فترة عثر أهل الميت على الإناء معروضًا للبيع. وعرفوا أن البيع الأول كان من الشخصين اللذين حضرا موت صاحب الإناء. فذهب أهل الميت إلى رسول الله يعرضون عليه مسألة خيانة الأمانة في أمر الوصية، فنزل قوله الحق: {يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت حِينَ الوصية اثنان ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرض فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الموت تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصلاة فَيُقْسِمَانِ بالله إِنِ ارتبتم لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قربى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ الله إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الآثمين} [المائدة: 106].