فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{فَيُقْسِمَانِ بالله} عطف على {يِقُومَانُ} والسببية ظاهرة.
وقوله سبحانه: {لشهادتنا أَحَقُّ مِن شهادتهما} جواب القسم.
والمراد بالشهادة عند الكثير ومنهم ابن عباس رضي الله تعالى عنهما اليمين كما في قوله عز وجل: {فشهادة أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شهادات بالله} [النور: 6] وسميت اليمين شهادة على ما قاله الطبرسي «لأن اليمين كالشهادة على ما يحلف عليه أنه كذلك» أي ليميننا على أنهما كاذبان فيما ادعيا من الاستحقاق مع كونها حقة صادقة في نفسها أولى بالقبول من يمينهما مع كونها كاذبة في نفسها لما أنه قد ظهر للناس استحقاقهما للإثم ويميننا منزهة عن الريب والريبة وصيغة التفضيل إنما هي لإمكان قبول يمينهما في الجملة باعتبار صدقهما في ادعاء تملكهما لما ظهر في أيديهما، وقيل: إن الشهادة على معناها المتبادر عند الإطلاق، وسيأتي إن شاء الله تعالى عن بعض المحققين غير ذلك.
وقوله عز شأنه: {وَمَا اعتدينا} عطف على الجواب أي ما تجاوزنا في شهادتنا الحق وما اعتدينا عليهما بإبطال حقهما.
وقوله تعالى: {إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظالمين} استئناف مقرر لما قبله أي إنا إذا اعتدينا فيما ذكر لمن الظالمين أنفسهم بتعريضها لسخط الله تعالى وعذابه أو لمن الواضعين الحق في غير موضعه، ومعنى الآيتين عند غير واحد من المفسرين أن المحتضر إذا أراد الوصية ينبغي أن يشهد عدلين من ذوي دينه أو نسبه فإن لم يجدهما بأن كان في سفر فآخران من غيرهم، ثم إن وقع ارتياب في صدقهما أقسما على صدق ما يقولان بالتغليظ في الوقت فإن اطلع على كذبهما بأمارة حلف آخران من أهل الميت.
وادعى أن الحكم منسوخ إذا كان الإثنان شاهدين فإنه لا يحلف الشاهد ولا يعارض يمينه بيمين الوارث، وقيل: إن التحليف لم ينسخ لكنه مشروط بالريبة.
وقد روي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه كان يحلف الشاهد والراوي إذا اتهمهما، وفي بعض كتب الحنفية أن الشاهد إن لم يجد من يزكيه يجوز تحليفه احتياطًا وهذا خلاف المفتى به كما بسط في محله.
وكذا ادعى البعض النسخ أيضًا على تقدير أن يكون المراد بالشاهدين في السفر غير مسلمين لأن شهادة الكافر على المسلم لا تقبل مطلقًا، وروى حديث النسخ ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقال بعضهم: لا نسخ وأجاز شهادة الذمي على المسلم في هذه الصورة.
وروي عن أبي موسى الأشعري أنه حكم لما كان واليًا على الكوفة بمحضر من الصحابة بشهادة ذميين بعد تحليفهما في وصية مسلم في السفر وإلى ذلك ذهب الإمام أحمد بن حنبل، وقال آخرون: الإثنان وصيان وحكم تحليفهما إذا ارتاب الورثة غير منسوخ، وما أفادته الآية من رد اليمين على الورثة ليس من حيث إنهم مدعون وقد ظهرت خيانة الوصيين فردت اليمين عليهما خلافًا للشافعي بل من حيث إنهم صاروا مدعى عليهم لانقلاب الدعوى فإن الوصي المدعى عليه أولًا صار مدعيًا للملك والورثة ينكرون ذلك، ويدل عليه ما أخرجه البخاري في «التاريخ» والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر وخلق آخرون عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء، وقيل: نداء بالنون فمات السهمي بأرض ليس فيها مسلم فلما قدما بتركته فقدموا جاما من فضة مخوصًا بالذهب فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بالله تعالى ما كتمتما ولا اطلعتما ثم وجد الجام بمكة فقيل اشتريناه من تميم وعدي فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله سبحانه لشهادتهما أحق من شهادتهما وأن الجام لصاحبهم وأخذ الجام وفيهم نزلت {ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ} الخ، هذا وادعى بعض المحققين أن الشهادة هاهنا لا يمكن أن تكون بمعناها المتبادر بوجه ولا تتصور لأن شهادتهما إما على الميت ولا وجه لها بعد موته وانتقال الحق إلى الورثة وحضورهم أو على الوارث المخاصم وكيف يشهد الخصم على خصمه فلابد من التأويل، وذكر أن الظاهر أن تحمل في قوله سبحانه: {شهادة بَيْنِكُمْ} على الحضور أو الإحضار أي إذا حضر الموت المسافر فليحضر من يوصي إليه بإيصال ماله لوارثه مسلمًا فإن لم يجد فكافرًا، والاحتياط أن يكونا اثنين فإذا جاءا بما عندهما وحصل ريبة في كتم بعضه فليحلفا لأنهما مودعان مصدقان بيمينهما فإن وجد ما خانا فيه وادعيا أنهما تملكاه منه بشراء ونحوه ولا بينة لهما على ذلك يحلف المدعى عليه على عدم العلم بما ادعياه من التملك وأنه ملك لمورثهما لا نعلم انتقاله عن ملكه، والشهادة الثانية: بمعنى العلم المشاهد أو ما هو بمنزلته لأن الشهادة المعاينة فالتجوز بها عن العلم صحيح قريب، والشهادة الثالثة: إما بهذا المعنى أو بمعنى اليمين، وعلى هذا وهو مما أفاضه الله تعالى عليَّ ببركة كلامه سبحانه فلا نسخ في الآية ولا إشكال، وما ذكروه كله تكلف لم يصف من الكدر لذوق ذائق، وسبب النزول وفعل الرسول صلى الله عليه وسلم مبين لما ذكر انتهى.
ولعل تخصيص الاثنين اللذين يحلفان بأحقية شهادتهما على ما قيل لخصوص الواقعة وإلا فإن كان الوارث واحدًا حلف وإن تعدد حلف المتعدد كما بين في الكتب الفقهية، وما ذكر من أن سبب النزول الخ مبين لما قرره فيه بعض خفاء إذ ليس في الخبر أن الوارثين حلفا على عدم العلم، وفي غيره ما هو نص في الحلف على الثبات، فقد روي في خبر أطول مما تقدم أن عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة السهميين قاما فحلفا بالله سبحانه بعد العصر أنهما أي تميمًا وعديا كذبا وخانا، نعم قال الترمذي في «الجامع» بعد روايته لذلك الخبر: إنه حديث غريب وليس إسناده بصحيح، وأيضًا في حمل الشهادة على شيء مما ذكره في قوله سبحانه: {وَلاَ نَكْتُمُ شهادة الله} خفاء، وادعى هو نفسه أن حمل الشهادة على اليمين بعيد لأنها إذا أطلقت فهي المتعارفة فتأمل، فقد قال الزجاج: إن هذه الآية من أشكل ما في القرآن، وقال الواحدي: روي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من الأحكام، وقال الإمام: اتفق المفسرون على أن هذه الآية في غاية الصعوبة إعرابًا ونظمًا وحكمًا، وقال المحقق التفتازاني: اتفقوا على أن هذه الآية أصعب ما في القرءان حكمًا وإعرابًا ونظمًا.
وقال الشهاب: اعلم أنهم قالوا: ليس في القرآن أعظم إشكالًا وحكمًا وإعرابًا وتفسيرًا من هذه الآية والتي بعدها يعني {ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ} الخ وقوله تعالى: {فَإِنْ عُثِرَ} الخ حتى صنفوا فيها تصانيف مفردة قالوا: ومع ذلك لم يخرج أحد من عهدتها.
وذكر الطبرسي أن الآيتين من أعوص القرآن حكمًا ومعنى وإعرابًا وافتخر بما أتى فيهما ولم يأت بشيء إلى غير ذلك من أقوالهم وسبحان الخبير بحقائق كلامه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {فيقسمان بالله} تفريع على قوله: {يقومان مقامهما}.
ومعنى {لشهادتنا أحقّ من شهادتهما} أنّهما أولى بأن تقبل شهادتهما من اللذيْن عثِر على أنّهما استحقّا إثمًا.
ومعنى {أحقّ} أنّها الحقّ، فصيغة التفضيل مسلوبة المفاضلة.
وقوله: {وما اعتدينا} توكيد للأحقّيّة، لأنّ الأحقّيّة راجعة إلى نفعهما بإثبات ما كتمه الشاهدان الأجنبيان، فلو لم تكن كذلك في الواقع لكانت باطلًا واعتداء منهما على مال مبلّغي الوصية.
والمعنى: وما اعتدينا على الشاهدين في اتّهامهما بإخفاء بعض التركة.
وقوله: {إنّا إذن لمنَ الظالمين} أي لو اعتدينا لكنّا ظالمَين.
والمقصود منه الإشعار بأنّهما متذكّران ما يترتّب على الاعتداء والظلم، وفي ذلك زيادة وازع.
وقد تضمّن القسم على صدق خبرهما يمينًا على إثبات حقّهما فهي من اليمين التي يثبت بها الحقّ مع الشاهد العرفي، وهو شاهد التهمة التي عثر عليها في الشاهدين اللذين يبلّغان الوصية.
والكلام في «إذن» هنا مثل الكلام في قوله: {إنّا إذن لمن الآثمين}.
والمعنى أنّه إن اختلّت شهادة شاهدي الوصية انتقل إلى يمين الموصى له سواء كان الموصى له واحدًا أم متعدّدًا.
وإنّما جاءت الآية بصيغة الاثنين مراعاة للقضية التي نزلت فيها، وهي قضية تميم الداري وعدي بن بدّاء، فإنّ ورثة صاحب التركة كانا اثنين هما: عمرو بن العاصي والمطلب بن أبي وداعة، وكلاهما من بني سهم، وهما مَوْليا بُديل بن أبي مريم السهمي صاحب الجام.
فبعض المفسّرين يذكر أنهما مَوْليا بُديل.
وبعضهم يقول: إنّ مولاه هو عمرو بن العاصي.
والظاهر من تحليف المطلب ابن أبي وداعة أنّ له ولاء من بديل، إذ لا يعرف في الإسلام أن يحلف من لا ينتفع باليمين.
فإن كان صاحب الحقّ واحدًا حلف وحده وإن كان أصحاب الحقّ جماعة حلفوا جميعًا واستحقّوا.
ولم يقل أحد أنّه إن كان صاحب الحقّ واحدًا يحلف معه من ليس بمستحقّ، ولا إن كان صاحب الحقّ ثلاثة فأكثر أن يحلف اثنان منهم ويستحقّون كلّهم.
فالاقتصار على اثنين في أيمان الأوليين ناظر إلى قصّة سبب النزول، فتكون الآية على هذا خاصّة بتلك القضية.
ويجري ما يخالف تلك القضية على ما هو المعروف في الشريعة في الاستحقاق والتهم.
وهذا القول يقتضي أنّ الآية نزلت قبل حكم الرسول صلى الله عليه وسلم في وصية بُديل بن أبي مريم.
وذلك ظاهر بعض روايات الخبر، وفي بعض الروايات ما يقتضي أنّ الآية نزلت بعد أن حكم الرسول عليه الصلاة والسلام وحينئذٍ يتعيّن أن تكون تشريعًا لأمثال تلك القضية ممّا يحدث في المستقبل، فيتعيّن المصير إلى الوجه الأول في اشتراط كون الأوليين اثنين إن أمكن.
وبقيت صورة لم تشملها الآية مثل أن لا يجد المحتضَر إلاّ واحدًا من المسلمين، أو واحدًا من غير المسلمين، أو يجد اثنين أحدهما مسلم والآخر غير مسلم.
وكلّ ذلك يجري على أحكامه المعروفة في الأحكام كلّها من يمين من قام له شاهد أو يمين المنكر. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من فوائد القرطبي في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {فَإِنْ عُثِرَ على أَنَّهُمَا استحقا إِثْمًا} قال عمر: هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من الأحكام.
وقال الزجاج: أصعب ما في القرآن من الإعراب قوله: {مِنَ الذين استحق عَلَيْهِمُ الأوليان}.
عثر على كذا أي اطلع عليه؛ يُقال: عثرت منه على خيانة أي اطلعت، وأعثرت غيري عليه، ومنه قوله تعالى: {وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} [الكهف: 21].
لأنهم كانوا يطلبونهم وقد خفِي عليهم موضعهم؛ وأصل العثور الوقوع والسقوط على الشيء؛ ومنه قولهم: عثر الرجل يعثر عثورًا إذا وقعت إصبعه بشيء صدمته، وعثرت إصبع فلان بكذا إذا صدمته فأصابته ووقعت عليه.
وعثر الفرس عِثارًا؛ قال الأعشى:
بذاتِ لَوْث عَفَرْنَاةٍ إذا عَثَرَتْ ** فالتَّعْسُ أدْنَى لها مِنْ أَنْ أقول لَعَا

والعِثْيَر الغبار الساطع؛ لأنه يقع على الوجه، والعَثْيَر الأثر الخفيّ لأنه يوقع عليه من خَفَاء.
والضمير في {أَنَّهُمَا} يعود على الوصيَّيْن اللَّذَيْن ذُكِرا في قوله عزّ وجلّ: {اثنان} عن سعيد بن جبير.
وقيل: على الشاهدين؛ عن ابن عباس.
و{استحقا} أي استوجبا {إثْمًا} يعني بالخيانة، وأخذهما ما ليس لهما، أو باليمين الكاذبة أو بالشهادة الباطلة.