فصل: قال الشوكاني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله: {شهادة بينكم} الآية بيان لكيفية الشهادة، وهو يتضمّن الأمر بها، ولكن عدل عن ذكر الأمر لأنّ الناس معتادون باستحفاظ وصاياهم عند محلّ ثقتهم.
وأهمّ الأحكام التي تؤخذ من الآية ثلاثة: أحدها: استشهاد غير المسلمين في حقوق المسلمين، على رأي من جعله المراد من قوله: {أو آخران من غيركم}.
وثانيها: تحليف الشاهد على أنّه صادق في شهادته.
وثالثها: تغليظ اليمين بالزمان.
فأمّا الحكم الأول: فقد دلّ عليه قوله تعالى: {أو آخران من غيركم}.
وقد بيّنا أنّ الأظهر أنّ الغيرية غيرية في الدين.
وقد اختلف في قبول شهادة غير المسلمين في القضايا الجارية بين المسلمين؛ فذهب الجمهور إلى أنّ حكم هذه الآية منسوخ بقوله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق: 2] وقوله: {ممّن ترْضَوْن من الشهداء} [البقرة: 282] وهذا قول مالك، وأبي حنيفة، والشافعي.
وذهب جماعة إلى أنّ الآية محكمة، فمنهم من جعلها خاصّة بالشهادة على الوصية في السفر إذا لم يكن مع الموصي مسلمون.
وهو قول أبي موسى الأشعري، وابن عباس، وقضى بذلك أبو موسى الأشعري في وصية مثل هذه، أيام قضائه بالكوفة، وقال: هذا أمر لم يكن بعدَ الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قول سعيد بن المسيّب، وابن جبير، وشريح، وابن سيرين، ومجاهد، وقتادة، والسدّي، وسفيان الثوري، وجماعة، وهم يقولون: لا منسوخ في سورة المائدة، تبعًا لابن عباس.
ومنهم من تأوّل قوله: {من غيركم} على أنّه من غير قبيلتكم، وهو قول الزهري، والحسن، وعكرمة.
وقال أحمد بن حنبل بقياس بقية العقود المشهود فيها في السفر على شهادة الوصية، فقال بأنّ شهادة أهل الذمّة على المسلمين في السفر ماضية، وزاد فجعلها بدون يمين.
والأظهر عندي أنّ حكم الآية غير منسوخ، وأنّ قبول شهادة غير المسلمين خاصّ بالوصية في السفر حيث لا يوجد مسلمون للضرورة، وأنّ وجه اختصاص الوصية بهذا الحكم أنّها تعرض في حالة لا يستعدّ لها المرء من قبلُ فكان معذورًا في إشهاد غير المسلمين في تلك الحالة خشية الفوات، بخلاف غيرها من العقود فيمكن الاستعداد لها من قبل والتوثّق لها بغير ذلك؛ فكان هذا الحكم رخصة.
والحكمة التي من أجلها لم تقبل في شريعة الإسلام شهادة غير المسلمين إلاّ في الضرورة، عند من رأى إعمالها في الضرورة، أنّ قبول الشهادة تزكية وتعديل للشاهد وترفيع لمقداره إذ جعل خبره مَقطَعًا للحقوق.
فقد كان بعض القضاة من السلف يقول للشهود: اتّقوا الله فينا فأنتم القضاة ونحن المنفّذون.
ولمّا كان رسولنا صلى الله عليه وسلم قد دعا الناس إلى اتّباع دينه فأعرض عنه أهل الكتاب لم يكونوا أهلًا لأن تزكّيهم أمّته وتسمهم بالصدق وهم كذّبوا رسولنا، ولأنّ من لم يكن دينه ديننا لا نكون عالمين بحدود ما يزعه عن الكذب في خبره، ولا لمجال التضييق والتوسّع في أعماله الناشئة عن معتقداته، إذ لعلّ في دينه ما يبيح له الكذب، وبخاصّة إذا كانت شهادته في حقّ لمن يخالفه في الدين، فإنّنا عهدنا منهم أنّهم لا يتوخّون الاحتياط في حقوق من لم يكن من أهل دينهم.
قال تعالى حكاية عنهم: {ذلك بأنّهم قالوا ليس علينا في الأمّيين} أي المسلمين {سبيل} فمن أجل ذلك لم يكن مظنّة للعدالة ولا كان مقدارها فيه مضبوطًا.
وهذا حال الغالب منهم، وفيهم من قال الله في شأنه {من إن تأمنه بقنطار يؤدّه إليك} [آل عمران: 75] ولكن الحكم للغالب.
وأمّا حكم تحليف الشاهد على صدقه في شهادته: فلم يرد في المأثور إلاّ في هذا الموضع؛ فأمّا الذين قالوا بنسخ قبول شهادة الكافر فتحليف شاهدي الوصية الكافرين منسوخ تبعًا، وهو قول الجمهور.
وأمّا الذين جعلوه محكَمًا فقد اختلفوا، فمنهم من خصّ اليمين بشاهدي الوصية من غير المسلمين، ومنهم من اعتبر بعلّة مشروعية تحليف الشاهدين من غير المسلمين، فقاس عليه تحليف الشاهدين إذا تطرّقت إليهما الريبة ولو كانا مسلمين.
وهذا لا وجه له إذ قد شرط الله فيهما العدالة وهي تنافي الريبة، نعم قد يقال: هذا إذا تعذّرت العدالة أو ضعفت في بعض الأوقات ووقع الاضطرار إلى استشهاد غير العدول كما هي حالة معظم بلاد الإسلام اليومَ، فلا يبعد أن يكون لتحيلف الشاهد المستور الحال وجهٌ في القضاء.
والمسألة مبسوطة في كتب الفقه.
وأمّا حكم تغليظ اليمين: فقد أخذ من الآية أنّ اليمين تقع بعد الصلاة، فكان ذلك أصلًا في تغليظ اليمين في نظر بعض أهل العلم، ويجيء في تغليظ اليمين أن يكون بالزمان والمكان واللفظ.
وفي جميعها اختلاف بين العلماء.
وليس في الآية ما يتمسّك به بواحد من هذه الثلاثة إلاّ قوله: {من بعد الصلاة} وقد بيّنتُ أنّ الأظهر أنّه خاصّ بالوصية، وأمّا التغليظ بالمكان وباللفظ فتفصيله في كتب الخلاف. اهـ.

.قال الشوكاني:

وحاصل ما تضمنه هذا المقام من الكتاب العزيز، أن من حضرته علامات الموت أشهد على وصيته عدلين من عدول المسلمين، فإن لم يجد شهودًا مسلمين، وكان في سفر، ووجد كفارًا جاز له أن يشهد رجلين منهم على وصيته، فإن ارتاب بهما ورثة الموصي حلفًا بالله على أنهما شهدا بالحق، وما كتما من الشهادة شيئًا ولا خانا مما تركه الميت شيئًا، فإن تبين بعد ذلك خلاف ما أقسما عليه من خلل في الشهادة أو ظهور شيء من تركة الميت زعما أنه قد صار في ملكهما بوجه من الوجوه حلف رجلان من الورثة وعمل بذلك. اهـ.

.قال في روح البيان:

اعلم أن الشهادة في الشرع الإخبار عن أمر حضره الشهود وشاهدوه إما معاينة كالأفعال نحو القتل والزنى أو سماعًا كالعقود والإقرارات فلا يجوز له أن يشهد إلا بما حضره وعلمه وسمعه ولهذا لا يجوز له أداء الشهادة حتى تذكر الحادثة وفي الحديث: «إذا علمت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع» وفي الشهادة إحياء حقوق الناس وصون العقود عن التجاحد وحفظ الأموال على أربابها وفي الحديث: «أكرموا شهودكم فإن الله يستخرج بهم الحقوق» ومن تعين للتحمل لا يسعه أن يمتنع إذا طلب لما فيه من تضييع الحقوق إلا أن يقوم الحق بغيره بأن يكون في الصك سواه ممن يقوم الحق به فيجوز له الامتناع لأن الحق لا يضيع بامتناعه وهو مخير في الحدود بين الشهادة والستر لأن إقامة الحدود حسبة والستر على المسلم حسبة والستر أفضل وفي الحديث «من ستر على مسلم ستره الله عليه في الدنيا والآخرة».
ثم اعلم أن اليمين الفاجرة تبقى الديار بلاقع فينبغي لطالب الآخرة أن يجتنب عن الكذب لطمع الدنيا وأن يختار الصدق في كل قول وفعل والأمانة من الأوصاف الجميلة والله تعالى يأمر بأداء الأمانات وإن قل أصحابه في هذا الزمان وعاقبة الخيانة الافتضاح فلابد من التقوى وسماع الأحكام الأزلية والله لا يهدي إلى حضرته القوم الفاسقين يعني الذين كانوا خارجين عند رشاش النور وإصابته كما قال عليه السلام: «فمن أصابه ذلك النور فقد اهتدى ومن أخطأه فقد ضل» عصمنا الله وإياكم من مخالفة أمره ولا يجعلنا ممن ضاع أنفاس عمره إنه هو الموفق والمرشد والوهاب. اهـ.

.من فوائد الزمخشري في الآيات:

قال رحمه الله:

.[سورة المائدة: الآيات97- 98]

{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِيامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ}.
الْبَيْتَ الْحَرامَ عطف بيان على جهة المدح، لا على جهة التوضيح، كما تجيء الصفة كذلك قِيامًا لِلنَّاسِ انتعاشًا لهم في أمر دينهم ودنياهم، ونهوضًا إلى أغراضهم ومقاصدهم في معاشهم ومعادهم، لما يتم لهم من أمر حجهم وعمرتهم وتجارتهم، وأنواع منافعهم. وعن عطاء ابن أبى رباح: لو تركوه عامًا واحدًا لم ينظروا ولم يؤخروا وَالشَّهْرَ الْحَرامَ الشهر الذي يؤدى فيه الحج، وهو ذو الحجة، لأنّ لاختصاصه من بين الأشهر بإقامة موسم الحج فيه شأنًا قد عرّفه اللَّه تعالى. وقيل عنى به جنس الأشهر الحرم وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ والمقلد منه خصوصًا وهو البدن، لأن الثواب فيه أكثر، وبهاء الحج معه أظهر ذلِكَ إشارة إلى جعل الكعبة قيامًا للناس، أو إلى ما ذكر من حفظ حرمة الإحرام بترك الصيد وغيره لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ كل شيء وهو عالم بما يصلحكم وما ينعشكم مما أمركم به وكلفكم شَدِيدُ الْعِقابِ لمن انتهك محارمه غَفُورٌ رَحِيمٌ لمن حافظ عليها.

.[سورة المائدة: آية 99]

{ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (99)}.
ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ تشديد في إيجاب القيام بما أمر به، وأن الرسول قد فرغ مما وجب عليه من التبليغ، وقامت عليكم الحجة، ولزمتكم الطاعة، فلا عذر لكم في التفريط.

.[سورة المائدة: آية 100]

{قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)}.
البون بين الخبيث والطيب بعيد عند اللَّه تعالى وإن كان قريبا عندكم، فلا تعجبوا بكثرة الخبيث حتى تؤثروه لكثرته على القليل الطيب، فإنّ ما تتوهمونه في الكثرة من الفضل، لا يوازى النقصان في الخبيث، وفوات الطيب، وهو عام في حلال المال وحرامه، وصالح العمل وطالحه، وصحيح المذاهب وفاسدها، وجيد الناس ورديهم فَاتَّقُوا اللَّهَ وآثروا الطيب، وإن قل، على الخبيث وإن كثر. ومن حق هذه الآية أن تكفح بها وجوه المجبرة إذا افتخروا بالكثرة كما قيل:
وَكَاثِرْ بِسَعْدٍ إنَّ سَعْدًا كَثِيرَةٌ ** ولَا تَرْجُ مِنْ سَعْدٍ وَفَاء وَلَا نَصْرَا

وكما قيل:
لَا يَدْهَمَنَّكَ مِنْ دَهْمَائِهِمْ عَدَدٌ ** فَإنَّ جُلَّهُمُ بَلْ كُلَّهُمْ بَقَرُ

وقيل: نزلت في حجاج اليمامة، حين أراد المسلمون أن يوقعوا بهم، فنهوا عن الإيقاع بهم وإن كانوا مشركين.

.[سورة المائدة: الآيات 101- 102]

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (102)}.
الجملة الشرطية والمعطوفة عليها أعنى قوله إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ، وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ صفة للأشياء. والمعنى: لا تكثروا مسألة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم حتى تسألوه عن تكاليف شاقة عليكم، إن أفتاكم بها وكلفكم إياها تغمكم وتشق عليكم وتندموا على السؤال عنها. وذلك نحو ما روى أن سراقة بن مالك أو عكاشة بن محصن قال:
يا رسول اللَّه، الحج علينا كل عام؟ فأعرض عنه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حتى أعاد مسألته ثلاث مرّات، فقال صلى اللَّه عليه وسلم: «ويحك! ما يؤمنك أن أقول نعم؟ واللَّه لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، ولو تركتم لكفرتم، فاتركوني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمر فخذوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» {وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ} وإن تسألوا عن هذه التكاليف الصعبة في زمان الوحى وهو ما دام الرسول بين أظهركم يوحى إليه، تبد لكم.
تلك التكاليف الصعبة التي تسؤكم، وتؤمروا بتحملها، فتعرّضون أنفسكم لغضب اللَّه بالتفريط فيها عَفَا اللَّهُ عَنْها. عفا اللَّه عما سلف. من مسألتكم، فلا تعودوا إلى مثلها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ لا يعاجلكم فيما يفرط منكم بعقوبته. فإن قلت: كيف قال: {لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ} ثم قال: قَدْ سَأَلَها ولم يقل. قد سأل عنها؟ قلت: الضمير في: {سَأَلَها} ليس براجع إلى أشياء حتى تجب تعديته بعن، وإنما هو راجع إلى المسألة التي دل عليها {لا تَسْئَلُوا} يعنى قد سأل قوم هذه المسألة من الأولين {ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها} أى بمرجوعها أو بسببها كافِرِينَ وذلك أنّ بنى إسرائيل كانوا يستفتون أنبياءهم عن أشياء، فإذا أمروا بها تركوها فهلكوا.