فصل: من فوائد ابن عاشور في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال ابن الأنباري: إنه على حقيقته لكنه ليس لنفي العلم بماذا أجيبوا عند التبليغ ومدة حياتهم عليهم الصلاة والسلام بل بما كان في عاقبة الأمر وءاخره الذي به الاعتبار.
واعترض بأنهم يرون آثار سوء الخاتمة عليهم فلا يصح أيضًا نفي العلم بحالهم وبما كان منهم بعد مفارقتهم لهم.
وأجيب بأن ذلك إنما يدل على سوء الخاتمة وظهور الشقاوة في العاقبة على حقيقة الجواب بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فلعلهم أجابوا إجابة قبول ثم غلبت عليهم الشقوة.
وتعقب بأنه من المعلوم أن ليس المراد بماذا أجبتم نفس الجواب الذي يقولونه أو الإجابة التي تحدث منهم بل ما كانوا عليه في أمر الشريعة من الامتثال والانقياد أو عكس ذلك.
وفي رواية عن الحسن أن المراد لا علم لنا كعلمك لأنك تعلم باطنهم ولسنا نعلم ذلك وعليه مدار فلك الجزاء، وقيل: المراد من ذلك النفي تحقيق فضيحة أممهم أي أنت أعلم بحالهم منا ولا يحتاج إلى شهادتنا.
وأخرج الخطيب في «تاريخه» عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد نفي العلم نظرًا إلى خصوص الزمان وهو أول الأمر حين تزفر جهنم فتجثوا الخلائق على الركب وتنهمل الدموع وتبلغ القلوب الحناجر وتطيش الأحلام وتذهل العقول ثم إنهم يجيبون في ثاني الحال وبعد سكون الروع واجتماع الحواس وذلك وقت شهادتهم على الأمم، وبهذا أجاب رضي الله تعالى عنه نافع بن الأرزق حين سأله عن المنافاة بين هذه الآية وما أثبت الله تعالى لهم من الشهادة على أممهم في ءاية أخرى.
وروي أيضًا عن السدي والكلبي ومجاهد وهو اختيار الفراء وأنكره الجبائي، وقال: كيف يجوز القول بذهولهم من هول يوم القيامة مع قوله سبحانه: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر} [الأنبياء: 103] وقوله عز وجل: {لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] وقد نقل ذلك عنه الطبرسي ثم قال: ويمكن أن يجاب عنه بأن الفزع الأكبر دخول النار.
وقوله سبحانه: {لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} إنما هو كالبشارة بالنجارة من أهوال ذلك اليوم مثل ما يقال للمريض لا بأس عليك ولا خوف.
وقيل: إن ذلك الذهول لم يكن لخوف ولا حزن وإنما هو من باب العوم في بحار الإجلال لظهور ءاثار تجلي الجلال.
واعترض شيخ الإسلام على ما تقدم بأن قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّكَ أَنتَ علام الغيوب} في موضع التعليل ولا يلائم ما ذكره.
و{عِلْمَ} صيغة مبالغة والمراد الكامل في العلم.
والغيوب جمع غيب وجمع وإن كان مصدرًا على ما قال السمين لاختلاف أنواعه وإن أريد به الشيء الغائب أو قلنا إنه مخفف غيب فالأمر واضح.
وقرئ {عِلْمَ} بالنصب على أن الكلام قد تم عند {إِنَّكَ أَنتَ} ونصب الوصف على المدح أو النداء أو على أنه بدل من اسم إن، ومعنى {إِنَّكَ أَنتَ} إنك الموصوف بصفاتك المعروفة، والكلام على طريقة.
أنا أبو النجم وشعري شعري

وقرأ أبو بكر وحمزة {الغيوب} بكسر الغين حيث وقع وقد سمع في كل جمع على وزن فعول كبيوت كسر أوله لئلا يتوالى ضمتان وواو. اهـ.

.من فوائد ابن عاشور في الآية:

قال رحمه الله:
جملة {يوم يجمع الله الرّسُلَ} استئناف ابتدائي متّصل بقوله: {فأثابهم الله بما قالوا} إلى قوله: {وذلك جزاء المحسنين} [المائدة: 85].
وما بينهما جمل معترضة نشأ بعضها عن بعض، فعاد الكلام الآن إلى أحوال الذين اتّبعوا عيسى عليه السلام، فبدّل كثير منهم تبديلًا بلغ بهم إلى الكفر ومضاهاة المشركين، للتذكير بهول عظيم من أهوال يوم القيامة تكون فيه شهادة الرسل على الأمم وبراءتهم ممّا أحدثه أممهم بعدهم في الدين ممّا لم يأذن به الله، والتخلّص من ذلك إلى شهادة عيسى على النصارى بأنّه لم يأمرهم بتأليهه وعبادته.
وهذا متّصل في الغرض بما تقدّم من قوله تعالى: {ولتجدنّ أقربهم مودّة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى} [المائدة: 82].
فإنّ في تلك الآيات ترغيبًا وترهيبًا، وإبعادًا وتقريبًا، وقع الانتقال منها إلى أحكام تشريعية ناسبت ما ابتدعه اليهود والنصارى، وذلك من قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ الله لكم} [المائدة: 87] وتفنّن الانتقال إلى هذا المبلغ، فهذا عود إلى بيان تمام نهوض الحجّة على النصارى في مشهد يوم القيامة.
ولقد جاء هذا مناسبًا للتذكير العامّ بقوله تعالى: {واتّقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين} [المائدة: 108].
ولمناسبة هذا المقام التزم وصف عيسى بابن مريم كلّما تكرّر ذكره في هذه الآيات أربع مرات تعريضًا بإبطال دعوى أنّه ابن لله تعالى.
ولأنّه لمّا تمّ الكلام على الاستشهاد على وصايا المخلوقين ناسب الانتقال إلى شهادة الرسل على وصايا الخالق تعالى، فإنّ الأديان وصايا الله إلى خلقه.
قال تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحًا والذي أوحينا إليك وما وصّينا به إبراهيم وموسى وعيسى} [الشورى: 13].
وقد سمّاهم الله تعالى شهداء في قوله: {فكيف إذا جئنا من كلّ أمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا} [النساء: 41].
فقوله: {يوم يجمع} ظرف، والأظهر أنه معمول لعاملٍ محذوف يقدّر بنحو: اذكر يوم يجمع الله الرسل، أو يقدّر له عامل يكون بمنزلة الجواب للظرف، لأنّ الظرف إذا تقدّم يعامل معاملة الشرط في إعطائه جوابًا.
وقد حذف هذا العامل لتذهب نفس السامع كلّ مذهب ممكن من التهويل، تقديره يوم يجمع الله الرسل يكون هول عظيم لا يبلغه طُولُ التعبير فينبغي طيّه.
ويجوز أن يكون متعلّقًا بفعل {قالوا لا علم لنا...} الخ، أي أنّ ذلك الفعل هو المقصود من الجملة المستأنفة.
وأصل نظم الكلام: يجمع الله الرسل يوم القيامة فيقول إلخ.
فغيّر نظم الكلام إلى الأسلوب الذي وقع في الآية للاهتمام بالخبر، فيفتتح بهذا الظرف المهول وليوردَ الاستشهاد في صورة المقاولة بين الله والرسل.
والمقصود من الكلام هو ما يأتي بقوله: {وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس}[المائدة: 116] وما بينهما اعتراض.
ومن البعيد أن يكون الظرف متعلّقًا بقوله: {لا يهدي القوم الفاسقين} [المائدة: 108] لأنّه لا جدوى في نفي الهداية في يوم القيامة، ولأنّ جزالة الكلام تناسب استئنافه، ولأنّ تعلّقه به غير واسع المعنى.
ومثله قول الزجّاج: إنّه متعلّق بقوله: {واتّقوا الله} [المائدة: 108] على أنّ {يوم} مفعول لأجله، وقيل: بدل اشتمال من اسم الجلالة في قوله: {واتّقوا الله} [المائدة: 108] لأنّ جمع الرسل ممّا يشمل عليه شأن الله، فالاستفهام في قوله: {ماذا أجبتم} مستعمل في الاستشهاد.
ينتقل منه إلى لازمه، وهو توبيخ الذين كذّبوا الرسل في حياتهم أو بدّلوا وارتدّوا بعد مماتهم.
وظاهر حقيقة الإجابة أنّ المعنى: ماذا أجابكم الأقوام الذين أرسلتم إليهم، أي ماذا تلقّوا به دعواتكم، حملًا على ما هو بمعناه في نحو قوله تعالى: {فما كان جواب قومه} [النمل: 56].
ويحمل قول الرسل: {لا علم لنا} على معنى لا علم لنا بما يضمرون حين أجابوا فأنت أعلم به منّا.
أو هو تأدّب مع الله تعالى لأنّ ما عدا ذلك ممّا أجابت به الأمم يعلمه رسلهم؛ فلابد من تأويل نفي الرسل العلم عن أنفسهم وتفويضهم إلى علم الله تعالى بهذا المعنى.
فأجمع الرسل في الجواب على تفويض العلم إلى الله، أي أنّ علمك سبحانك أعلى من كلّ علم وشهادتك أعدل من كلّ شهادة، فكان جواب الرسل متضمّنًا أمورًا: أحدها: الشهادة على الكافرين من أممهم بأنّ ما عاملهم الله به هو الحقّ.
الثاني: تسفيه أولئك الكافرين في إنكارهم الذي لا يجديهم.
الثالث: تذكير أممهم بما عاملوا به رسلهم لأنّ في قولهم: {إنّك أنت علاّم الغيوب}، تعميمًا للتذكير بكلّ ما صدر من أممهم من تكذيب وأذى وعناد.
ويقال لمن يَسأل عن شيء لا أزيدك علمًا بذلك، أو أنت تعرف ما جرى.
وإيراد الضمير المنفصل بعد الضمير المتّصل لزيادة تقرير الخبر وتأكيده.
وعن ابن الأنباري تأويل قول الرسل {لا علم لنا} بأنّهم نفوا أن يكونوا يعلمون ما كان من آخر أمر الأمم بعد موت رسلهم من دوام على إقامة الشرائع أو التفريط فيها وتبديلها فيكون قول الرسل {لا علم لنا} محمولًا على حقيقته ويكون محمل {ماذا} على قوله: {ماذا أجبتم} هو ما أجيبوا به من تصديق وتكذيب ومن دوام المصدّقين على تصديقهم أو نقض ذلك، ويعضّد هذا التأويل ما جاء بعد هذا الكلام من قوله تعالى: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتّخذوني وأمّي إلهين من دون الله}، وقولُ عيسى عليه السلام {وكنت عليهم شهيدًا ما دمت فيهم} الآية فإنّ المحاورة مع عيسى بعض من المحاورة مع بقية الرسل.
وهو تأويل حسن.
وعبّر في جواب الرسل بـ {قالوا} المفيد للمضي مع أنّ الجواب لم يقع، للدلالة على تحقيق أنّه سيقع حتى صار المستقبل من قوة التحقّق بمنزلة الماضي في التحقّق.
على أنّ القول الذي تحكى به المحاورات لا يلتزم فيه مراعاة صيغته لزمان وقوعه لأنّ زمان الوقوع يكون قد تعيّن بقرينة سياق المحاورة.
وقرأ الجمهور {الغيُوب} بضم الغين.
وقرأ حمزة، وأبو بكر عن عاصم بكسر الغين وهي لغة لدفع ثقل الانتقال من الضمّة إلى الباء، كما تقدّم في بيوت في قوله تعالى: {فأمسكوهنّ في البيوت} من سورة النساء (15).
وفصل قالوا جريًا على طريقة حكاية المحاورات، كما تقدّم في قوله: {وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة} في سورة البقرة (30). اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)}.
وينبهنا الحق سبحانه هنا إلى ضرورة أن نستعد لليوم الذي يجمع الله فيه الرسل يوم الحساب، أي أننا علينا أن نراعي الالتزام في تكاليف المكلف الأعلى في كل عمل من أعمال الحياة؛ لأنه سبحانه سوف يسأل الرسل في ذلك اليوم: {مَاذَا أُجِبْتُمْ}؟ أي كيف استجاب الناس إلى المنهج الذي دعوتم إليه؟ وفي هذا تقريع لمن خالف الرسل. ونعلم أن الحق سبحانه وتعالى قد قال: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيدًا} [النساء: 41].
ونعلم- كذلك- أن يوم المشهد الأعظم سيأتي رسولنا صلى الله عليه وسلم شهيدًا على أمته وعلى كل الرسل السابقين عليه، ومثال ذلك في حياتنا- ولله المثل الأعلى- نجد الأهل ينتظرون الابن على باب لجنة الامتحان ويسألونه: كيف أجبت.
إن الأهل يطلبون من الابن أن يعطيهم تقدير الموقف إجماليًا. أما إن سألوه بماذا أجبت؟ فمعنى هذا أنهم يطلبون منه أن يحكي لهم ماذا أجاب تفصيليًا عن كل سؤال. وسؤال الحق لرسله: {مَاذَا أُجِبْتُمْ} في الظاهر هذا سؤال للرسل، وفي الحق إنه للمخالفين، وكأن هذا تقريع لمن لم يؤمنوا برسالات الرسل، ذلك أن مهمة الرسل هي البلاغ عن الله.
وبماذا يجيب الرسل يؤمئذ عن الله؟ هم يجيبون الإجابة الدقيقة المتضمنة لكل أدب الإيمان: {لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب} ونجد من يتساءل: كيف- إذن- يقولون: {لاَ عِلْمَ لَنَا} على الرغم من أن هناك من استجاب لدعوتهم ومن لم يستجب لها؟ ونقول: لأن الآخرة فيها حساب على نوايا القلوب والسرائر، لقد علم الرسل بالأمور العلنية من أقوال وسلوك، ولكن الحق يحاسب على حسب النية والسلوك، وهو سبحانه الأعلم بالسرائر وما تخفي الضمائر، وأيضًا فالأنبياء قد علموا الذين آمنوا بالمنهج وكانوا معاصرين لهم، ولكن ليس لهم علم بمن كفر أو آمن بعد أزمنتهم، وإجابة الرسل هي قمة الأدب مع الله، ذلك لأن كلا منهم قد علم أن معرفة الله شاملة وعلمه قد وسع كل شيء، ولذلك جاء قولهم: {إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب}. اهـ.