فصل: تفسير الآية رقم (110):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الثالث: أنَّ «ما» مجرورةٌ بحرفِ جَرٍّ مقدَّرٍ، لمَّا حُذِفَ بقيتْ في محلِّ نصبٍ، ذكره أبو البقاء وضعَّف الوجه الذي قبله- أي كون ذا موصولةً- فإنه قال: «مَاذَا في موضعِ نصْبٍ بـ {أُجبْتُمْ}، وحرفُ الجرِّ محذوفٌ، و«ما» و«ذَا» هنا بمنزلةِ اسْمٍ واحدٍ، ويَضْعُفُ أنْ تُجْعَلَ «ما» بمعنى «الَّذِي»؛ لأنه لا عائد هنا، وحذفُ العائدِ مع حرفِ الجَرِّ ضعيفٌ».
قال شهاب الدين أمَّا جَعْلُه حذفَ العائدِ المجرورِ ضعيفًا، فصحيحٌ تقدَّم شرحُه والتنبيهُ عليه، وأمَّا حذفُ حرفِ الجر وانتصابُ مجرورِه، فهو ضيعفٌ أيضًا، لا يجوزُ إلاَّ في ضرورةٍ؛ كقوله: [الطويل]
فَبِتُّ كَأنَّ العَائِدَاتِ فَرَشْنَنِي

وقوله: [الطويل]
-........ ** وأُخْفِي الَّذِي لَوْلاَ الأسَى لَقَضَانِي

وقوله: [الوافر]
تَمُرُّونَ الدِّيَارَ وَلَمْ تَعُوجُوا

وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك، واستثناءُ المطَّرِد منه، فقد فرَّ من ضعيفٍ، ووقع في أضْعَفَ منه.
الرابع: قال ابن عطيَّة- رحمه الله-: معناه: ماذا أجابَتْ به الأممُ {فجعل} مَاذَا «كنايةً عن المُجَابِ به، لا المصدرِ، وبعد ذلك، فهذا الكلامُ منه محتملٌ أنْ يكونَ مثل ما تقدَّمَ حكايتُهُ عن الحُوفِيِّ في جعله «ما» مبتدأ استفهاميةً، و«ذَا» خبره؛ على أنها موصولةٌ، وقد تقدَّم التنبيهُ على ضعفه، ويُحْتملُ أن يكون {مَاذَا} كلُّه بمنزلةِ اسمِ استفهامٍ في محلِّ رفع بالابتداء، و{أُجِبْتُمْ} خبرُه، والعائدُ محذوفٌ؛ كما قدَّره هو، وهو أيضًا ضعيفٌ؛ لأنه لا يُحْذَفُ عائدُ المبتدأ، وهو مجرورٌ إلا في مواضعَ ليس هذا منها، لو قلت: «زَيْدٌ مَرَرْتُ» لم يَجُزْ، وإذا تبيَّن ضعفُ هذه الأوجهِ، رُجِّح الأول.
والجمهورُ على {أُجِبْتُمْ} مبنيًّا للمفعول، وفي حذفِ الفاعل هنا ما لا يُبْلَغُ كُنهُهُ من الفصاحة والبلاغة؛ حيث اقتصرَ على خطاب رسله غيرَ مذكورٍ معَهُم غيرُهم؛ رفْعًا من شأنهم وتشريفًا واختصاصًا، وقرأ ابن عبَّاس وأبو حيوة {أجَبْتُمْ} مبنيًّا للفاعل، والمفعول محذوف، أي: ماذا أجَبْتُمْ أمَمَكُمْ حين كَذَّبُوكُمْ وآذَوْكُمْ، وفيه توبيخٌ للأمَمِ، وليستْ في البلاغةِ كالأولى.
وقوله تعالى: {إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب}، كقوله: {إِنَّكَ أَنْتَ العليم الحكيم} في البقرة [32].
والجمهورُ على رفع {عَلاَّمُ الغُيُوبِ}، وقرئ بنصبه، وفيه أوجهٌ ذكرها الزمخشريُّ وهي: الاختصاصُ، والنداءُ، وصفةٌ لاسم «إنَّ»؛ قال: وقُرئ بالنصْب على أنَّ الكلامَ قد تَمَّ عند قوله: {إنَّكَ أنْتَ}، أي: إنَّكَ الموصوفُ بأوصَافِكَ المعرُوفة من العلمِ وغيره، ثم انتصَبَ {علاَّمَ الغُيُوبِ} على الاختصاصِ، أو على النداء، أو هو صفةٌ لاسْمِ «إنَّ»، قال أبو حيان: «وهو على حذفِ الخبر لفهم المعنى، فَتَمَّ الكلامُ بالمقدَّرِ في قوله: {إنَّك أنْتَ}، أي: إنَّك الموصوفُ بأوصافِكَ المعروفةِ من العلمِ وغيره»، ثم قال: «قال الزمخشريُّ: ثم انتصبَ، فذكره إلى آخره» فزعمَ أنَّ الزمخشريَّ قدَّر لـ {إنَّكَ} خبرًا محذوفًا، والزمخشريُّ لا يريد ذلك ألبتة ولا يَرْتضيه، وإنما يريدُ أنَّ هذا الضمير بكونه لله تعالى هو الدالُّ على تلك الصفات المذكورة، لا انفكاكَ لها عنه، وهذا المعنى هو الذي تقتضيه البلاغةُ، والذي غاصَ عليه الزمخشريُّ- رحمه الله- لا ما قدَّره أبو حيان مُوهِمًا أنه أتى به من عنده، ويعني بالاختصاص النَّصْبَ على المدْحِ، لا الاختصاصَ الذي هو شبيه بالنداء؛ فإنَّ شرطه أن يكون حَشْوًا، ولكنَّ أبا حيَّان قد ردَّ على أبي القاسمِ قوله: «إنه يجوزُ أن يكون صفةً لاسم إنَّ» بأنَّ اسمها هنا ضميرُ مخاطبٍ، والضمير لا يوصفُ مطلقًا عند البصريِّين، ولا يوصَف منه عند الكسائيِّ إلا ضميرُ الغائبِ؛ لإبهامه في قولهم «مَرَرْتُ بِهِ المِسْكِينِ»، مع إمكان تأويله بالبدلِ، وهو ردٌّ واضحٌ، على أنه يمكن أن يقال: أراد بالصفةِ البدل، وهي عبارةُ سيبويه، يُطْلِقُ الصفةَ ويريد البدل، فله أسْوَةٌ بإمامه، واللازمُ مشترك، فما كان جوابًا عن سيبويه، كان جوابًا له، لكن يَبْقَى فيه البدلُ بالمشتقِّ، وهو أسهلُ من الأول، ولم أرَهُمْ خرَّجُوها على لغةِ مَنْ ينصِبُ الجزأيْنِ بـ «إنَّ» وأخواتِها؛ كقوله في ذلك: [الرجز]
إنَّ الْعَجُوزَ خَبَّةً جَرُوزَا

وقوله: [الطويل]
-........... ** إنَّ حُرَّاسَنَا أُسْدَا

وقوله: [الكامل]
لَيْتَ الشَّبَابَ هُوَ الرَّجِيعَ عَلَى الْفَتَى

وقول الآخر: [الرجز]
كَأنَّ أُذْنَيْه إذَا تَشَوَّفَا ** قَادمَةً أوْ قَلَمًا مُحَرَّفَا

ولو قيل به لكان صوابًا.
و{علاَّمُ} مثالُ مبالغة، فهو ناصب لما بعده تقديرًا، وبهذا أيضًا يُرَدُّ على الزمخشريِّ على تقدير تسليم صحَّة وصف الضمير من حيث إنه نكرةٌ؛ لأن إضافته غيرُ محضَةٍ وموصوفهُ مَعْرفةٌ.
والجمهورُ على ضمِّ العينِ من {الغُيُوب} وهو الأصلُ، وقرأ حمزة وأبو بكر بكسرها، والخلافُ جارٍ في ألفاظٍ أُخَرَ نحو: «البُيُوت والجُيُوب والعُيُون والشُّيُوخ» وقد تقدَّم تحرير هذا كله في البقرة عند ذكر {البيوت} [البقرة: 189]، وستأتي كلُّ لفظةٍ من هذه الألفاظِ مَعْزُوَّةً لقارئِها في سُورِهَا- إن شاء الله تعالى- وجُمِعَ الغيبُ هنا، وإنْ كان مصدرًا لاختلافِ أنواعه، وإن أريدَ به الشيءُ الغائب، أو قلنا: إنه مخفَّفٌ من فَيْعِل؛ كما تقدم تحقيقه في البقرة [الآية 3]، فواضح. اهـ. باختصار.

.تفسير الآية رقم (110):

قوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان سؤاله سبحانه للرسل عن الإجابة متضمنًا لتبكيت المبطلين وتوبيخهم، وكان أشد الأمم افتقارًا إلى التوبيخ أهل الكتاب، لأن تمردهم تعدى إلى رتبة الجلال بما وصفوه سبحانه به من اتخاذ الصاحبة والولد، ومن ادعاء الإلهية لعيسى عليه السلام لما أظهر من الخوارق التي دعا بها إلى الله مع اقترانها بما يدل على عبوديته ورسالته لئلا يهتضم حقه أو يُغلى فيه، مع مشاركتهم لغيرهم في أذى الرسل عليهم السلام بالتكذيب وغيره، وكان في الآية السالفة ذكر الآباء وما آثروا للأبناء، ذكر أمر عيسى عليه السلام بقوله مبدلًا من قوله: {يوم يجمع الله} معبرًا بالماضي تذكيرًا بما لذلك اليوم من تحتم الوقوع، وتصويرًا لعظيم تحققه، وتنبيهًا على أنه لقوة قربه كأنه قد وقع ومضى: {إذ قال الله} أي المستجمع لصفات الكمال {يا عيسى} ثم بينه بما هو الحق من نسبه فقال: {ابن مريم}.
ولما كان ذلك يوم الجمع الأكبر والإحاطة بجميع الخلائق وأحوالهم في حركاتهم وسكناتهم، وكان الحمد هو الإحاطة بأوصاف الكمال، أمره بذكر حمده سبحانه على نعمته عنده فقال: {اذكر نعمتي عليك} أي في خاصة نفسك، وذكر ما يدل للعاقل على أنه عبد مربوب فقال: {وعلى والدتك} إلى آخره مشيرًا إلى أنه أوجده من غير أب فأراحه مما يجب للآباء من الحقوق وما يورثون أبناءهم من اقتداء أو اهتداء وإقامة بحقوق أمه، فأقدره- وهو في المهد- على الشهادة لها بالبراءة والحصانة والعفاف، وكل نعمة أنعمها سبحانه عليه صلى الله عليه وسلم فهي نعمة أمه دينًا ودنيا.
ولما ذكر سبحانه هذه الأمة المدعوة من العرب وأهل الكتاب وغيرهم بنعمه عليهم في أول السورة بقوله: {اذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه} [المائدة: 7]، {واذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم} [المائدة: 11]، وكانت هذه الآيات من عند {لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} [المائدة: 87] كلها في النعم، أخبرهم أنه يذكّر عيسى عليه السلام بنعمه في يوم الجمع إشارة إلى أنهم إن لم يذكروا نعمه في هذه الدار دار العمل بالشكر، ذكروها حين يذكّرهم بها في ذلك اليوم قسرًا بالكفر، ويا لها فضيحةً في ذلك الجمع الأكبر والموقف الأهول! وليتبصّر أهل الكتاب فيرجعوا عن كفرهم بعيسى عليه السلام: اليهودُ بالتقصير في أمره، والنصارى بالغلو في شأنه وقدره.
ولما كان أعظم الأمور التنزيه، بدأ به كما فعل بنفسه الشريفة في كلمة الدخول إلى الإسلام، ولما كان أعظم ذلك تنزيهه أمه عليها السلام وتصحيح ما خرق لها من العادة في ولادته، وكان أحكم ما يكون ذلك بتقوية روحه حتى يكون كلامه طفلًا ككلامه كهلًا، قدمه فقال معلقًا قارنًا بكل نعمة ما يدل على عبوديته ورسالته، ليخزي من غلا في أمره أو قصّر في وصفه وقدره: {إذ أيدتك} أي قويتك تقوية عظيمة {بروح القدس} أي الطهر الذي يحيي القلوب ويطهرها من أوضار الآثام، ومنه جبرئيل عليه السلام، فكان له منه في الصغر حظ لم يكن لغيره؛ قال الحرالي: وهو يد بسط لروح الله في القلوب بما يحييها الله به من روح أمره إرجاعًا إليه في هذه الدار قبل إرجاع روح الحياة بيد القبض من عزرائيل عليه السلام ثم استأنف تفسير هذا التأييد فقال: {تكلم الناس} أي من أردت من عاليهم وسافلهم {في المهد} أي بما برأ الله من أمك وأظهر به كرامتك وفضلك.
ولما ذكر هذا الفضل العظيم، أتبعه خارقًا آخر، وهو إحياؤه نفسه وحفظُه جسدَه أكثر من ألف سنة لم يدركه الهرم؛ فإنه رفع شابًا وينزل على ما رفع عليه ويبقى حتى يصير كهلًا، وتسويةُ كلامه في المهد بكلامه في حال بلوغ الأشدّ وكمال العقل خرقًا لما جرت به العوائد فقال: {وكهلًا} ولما ذكر هذه الخارقة، أتبعها روح العلم الرباني فقال: {وإذ علمتك الكتاب} أي الخط الذي هو مبدأ العلم وتلقيح لروح الفهم {والحكمة} أي الفهم لحقائق الأشياء والعمل بما يدعو إليه العلم {والتوراة} أي المنزلة على موسى عليه السلام {والإنجيل} أي المنزل عليك.
ولما ذكر تأييده بروح الروح، أتبعه تأييده بإفاضة الروح على جسد لا أصل له فيها فقال: {وإذ تخلق من الطين} أي هذا الجنس {كهيئة الطير بإذني} ثم سبب عن ذلك قوله: {فتنفخ فيها} أي في الصورة المهيأة {فتكون} أي تلك الصورة التي هيأتها {طيرًا بإذني} ثم بإفاضة روح ما على بعض جسد، إما ابتداء في الأكمة كما في الذي قبله، وإما إعادة كما في الحادث العمى والبرص بقوله: {وتبرئ الأكمة والأبرص}.
ولما كان من أعظم ما يراد بالسياق توبيخ من كفر به كرر قوله: {بإذني} ثم برد روح كامل إلى جسدها بقوله: {وإذ تخرج الموتى} أي من القبور فعلًا أو قوة حتى يكونوا كما كانوا من سكان البيوت {بإذني} ثم بعصمة روحه ممن أراد قتله بقوله: {وإذ كففت بني إسرائيل عنك} أي اليهود لما هموا بقتلك؛ ولما كان ذلك ربما أوهم نقصًا استحلوا قصده به، بين أنه قصد ذلك كعادة الناس مع الرسل والأكابر من أتباعهم تسلية لهذا النبي الكريم والتابعين له بإحسان فقال: {إذ جئتهم بالبينات} أي كلها، بعضها بالفعل والباقي بالقوة لدلالة ما وجد عليه من الآيات الدالة على رسالتك الموجبة لتعظيمك {فقال الذين كفروا} أي غطوا تلك البينات عنادًا {منهم إن} أي ما {هذا إلا سحر مبين} ثم بتأييده بالأنصار الذين أحيى أرواحهم بالإيمان وأجسادهم باختراع المأكل الذي من شأنه في العادة حفظ الروح، وذلك في قصة المائدة وغيرها فقال: {وإذ أوحيت إلى الحواريين}. اهـ.

.اللغة:

{كففت} منعت وصرفت ومنه الكفيف لأنه منع الرؤية.
{أيدتك} قويتك مأخوذة من الأيد وهو القوة.
{أوحيت} الوحي: إلقاء المعنى الى النفس خفية وهو على أقسام: وحى بمعنى الإلهام، ووحى بمعنى الإعلام في اليقظة والمنام، ووحى بمعنى إرسال جبريل الى الرسل عليهم السلام.
{مائدة} المائدة: الخوان الذي عليه الطعام أي السفرة، فإن لم يكن عليه طعام فليس بمائدة.
{الرقيب} المراقب الشاهد على الأفعال.
{أبدا} أى بلا انقطاع. اهـ.