فصل: من لطائف القشيري في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولذلك كان لابد أن تُدهش المسألة موسى عليه السلام، لذلك أوجس خيفة.
ولكن موسى عندما عرف سرّ عصاه لم يوجس خيفة بل تحدى السحرة الذين جاء بهم فرعون في يوم الزينة، وعرف موسى أنه ليس بساحر مثلهم ولكن الله أتاه معجزة ستبهر حتى السحرة، فالسحرة يعلمون أن عملهم تخييل وليس تغييرًا للأشياء، أما الحق فهو يغير الأشياء نفسها.
لقد جاء السحرة بناء على امر فرعون إلى يوم الزينة، ويعلمنا القرآن بلمحات جانبية أن نظام السحرة كان موجودًا، ولذلك طالب السحرة بأجرهم إن هم غلبوا موسى: {قالوا إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين} [الأعراف: 113].
وعلى الرغم من اختلاف مواهب هؤلاء السحرة ورقي كل منهم في فرع من فروع السحر، إلا أنهم جميعًا سجدوا للحقيقة عندما ألقى موسى عصاه وقالوا: {قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ العالمين * رَبِّ موسى وَهَارُونَ} [الشعراء: 47- 48].
وهكذا عرفوا أن ما فعله موسى ليس قدرة بشرية ولكنه قدرة فوق قدرة البشر. إنها المعجزة التي يجريها الله على يد الرسل لإثبات صدقهم في إدعائهم أنهم رسل من الله. وكذلك نبغ قوم عيسى عليه السلام في الطب. ولم يجرؤ أحدهم على أن يشفي بكلمة واحدة الأكمه والأبرص أو أن يخرج الميت من موته إلى الحياة. وعلى الرغم من تقدمهم في الطب لم يستطع أحدهم أن يفعل ذلك. والحق سبحانه يسهل المعجزات على رسله، والمثال في الإسلام هو الإسراء برسولنا ونبينا صلى الله عليه وسلم، وحَدَثَ الإسراء في لمح البصر، ونحن في زماننا نرى التقدم الآلي والفني قد اخترع الصواريخ التي يمكن أن تختصر الوقت لمثل الرحلة من مكة إلى القدس ولكنها تمت بوساطة آلة تعمل وبأجهزة أعدت بنظام دقيق بعد تجارب مضنية، ولكن الحق عندما أراد لم يكن الأمر سوى كلمة منه تصير معجزة في التو واللحظة. ولنحفظ ذلك جيدًا. إن المعجزة خرق اقتدار لا سبق ابتكار أي أنها خرق لنواميس الكون حادث من اقتدار المقتدر سبحانه ولم يحدث ذلك من ابتكار واختراع واكتشاف مكتشف.
ويُسلّي سبحانه عيسى عليه السلام بذكر هذه البيانات، لكنَّ الكافرين من قوم عيسى عليه السلام قالوا إنها سحر: {فَقَالَ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ}. ونعلم أن الحق خلق الخلق وجعل الإيمان أمرًا فطريًا فيهم، ثم تأتي الغفلة فتبهت جزئية من جزئيات الإيمان، وتتلوها غفلة أخرى فتبهت جزئية أخرى، وتأتي غفلة ثالثة فتصير إلى الران وهو ما يعطي القلب فلا تنفذ إليه الهداية، وذلك بسبب ما كسبوا وفعلوا من الذنوب: {كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}.
ولنستمع إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي رواه حذيفة: «حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر. حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة، ثم حدثنا عن رفع الأمانة قال: ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل الوَكْت (أي الأثر اليسير من الشيء) ثم ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل المَجْل (أي أكثر العمل في الكف) كَجَمْرٍ دحرجته على رجلك فنَفِط فتراه مُنْتَبِرًا (أي متورّمًا) وليس فيه شيء، ثم أخذ حصاةً فدحرجها على رجله، فيصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال إن في بني فلان رجلًا أمينًا حتى يقال للرجل ما أجلده، ما أظرفه، ما أعقله، وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، ولقد أتى علي زمان وما أبالي أيَّكم بايعت، لئن كان مسلمًا ليردنّه على دينه، ولئن كان نصرانيًا أو يهوديًا ليردنّه على ساعيه، وأمَّا اليوم فما كنت أبايع منكم إلا فلانًا وفلانًا».
وها هوذا الحديث الثاني الذي حدثنا به حذيفة عن رفع الأمانة والفتنة. قال حذيفة: كنا عند عمر فقال: أيكم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الفتن؟ فقال قوم: نحن سمعناه. فقال: لعلكم تعنون فتنة الرجل في أهله وجاره: قالوا أجل. قال: تلك تكفِّرها الصلاة والصيام والصدقة، ولكن أيكم سمع النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الفتن التي تموج موج البحر؟ قال حذيفة: فأسكت القوم، فقلت: أنا. قال: أنت لله أبوك. قال حذيفة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا فأي قلب أشربها نُكِت فيه نكتة سوادء، وأي قلب أنكرها نكت. فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مرْبادًّا كالكور مُجَخِّيًا- أي مقلوبًا- لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه».
قال حذيفة: وحدثت أن بينك وبينها بابًا مغلقًا يوشك أن يكسر.
قال عمر: «أكَسْرًا لا أبا لك، فلو أنه فُتح لعله كان يُعاد».
هكذا كان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رفع الأمانة وضياع المناعة الإيمانية من النفس البشرية. وأراد سبحانه للمناعة الإيمانية أن تبقى في عباده، لذلك تدخل بالرسل حتى تتكون المناعة ويكبح المجتمع جماح كل فرد. تحدثه نفسه بفتنة.
وعندما كان يتم الفساد في الأرض. نجد الحق يرسل الرسول ليعيد البريق إلى النفس اللوامة، ويحيي في المجتمع القدرة على أن يتناسق السلوك فيه على ضوء منهج الله. ولذلك نجد أن المقاومة التي تحدث للرسل إنما تحدث من الذين يستمتعون بالفساد وبآثار الفساد. وحين يأتي منهج الهداية فهو يأخذ بأيدي المظلومين ويغضب منه الظالمون الأقوياء الجبابرة، ولذلك يهاجمون الرسل والمنهج القادم من الله؛ لأن هذا المنهج سيقطع عليهم سبل الفساد الذي يدر عليهم عائدًا هو في نظرهم كبير.
لقد رأينا صناديد قريش وقد تصدوا للدعوة، فمحمد صلى الله عليه وسلم جاء بالمساواة بين كل البشر.
لقد كانوا يعرفون أن مجرد النطق بـ«لا إله إلا الله محمد رسول الله» يعني فقدانهم لسلطان إرهاب الناس والقبائل. ولو كانت المسألة مجرد كلمة تقال، ويبقى الأمر على ما كان عليه لقالوها، ولكنها كانت كلمة تغير من الأمر سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، ولا يبقى من جبروت لأحد، فكل الناس سواسية. لذلك تصدى صناديد قريش لدعوة الإسلام. وهكذا نجد أن كل رسول يأتي يبرز له من يعاديه من أصحاب الفساد والجبابرة في الأرض، مصداقًا لقول الحق سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنس والجن} [الأنعام: 112].
والمثال على ذلك هو إرادة الحق في أن يجعل صيحة الإيمان في الجاهلية تأتي أولًا إلى أذن سادة العرب جميعًا وهم قريش الذين لا يجرؤ أحد على التعرض لهم، لكن النصر لا يأتي لمحمد وهو في مكة حيث كانت مقام السيادة؛ لأن النصر لو حدث في أول الدعوة ومحمد صلى الله عليه وسلم يحيا بين قومه في مكة لقال قائل: لقد حدث النصر من قوم ألفوا السيادة وأرادوا أن يسودوا العالم كله لا الجزيرة العربية وحدها، وأن قريشًا قد ساندت محمدًا لاستبقاء هذه السيادة وبسطها على غيرهم، ولكنه سبحانه جعل مقام النصر ينبع من المدينة المنورة.
إنّ الصرخة أولًا جاءت في أذن السادة ثم التف حولها المستضعفون في الأرض الذين لا يستطيعون حماية أنفسهم، ثم هاجروا وقوّاهم الله من بعد ذلك على الأقوياء.
إننا نجد كل داع إلى الله يأتي إنما يريد استبقاء خير النبوات حتى لا يأتي الران على القلوب، وإن استبقاء هذا الخير يغضب منه الجبابرة والمنحرفون الذين يريدون السيادة على العالم بفكرهم. والداعية إلى الله الذي لا تجد له عدوًا يصيبه بالسوء حظه من ميراث النبوة ضعيف، والداعية الذي له أعداء له من ميراث النبوة الشيء الكثير.
والكافرون بعيسى عليه السلام عندما رأوا قوة الآيات التي جاء بها عيسى عليه السلام. قالوا: {إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} وهذا يعني أن معجزات عيسى عليه السلام قد أحفظتهم وأغضبتهم وأحنقتهم وملأت مشاعرهم بالخيبة. إنه قول من قوم يكرهون منهج الحق، وعلى ذلك يكون كفر الكافر نعمةَ يدعم بها الحق الداعي إليه؛ لأن ذلك يحفزه ويدفعه إلى الدفاع عن دين الله، فمقاومة الإيمان تظهر قوة المؤمن بالعقيدة التي يؤمن بها. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا}.
التذكيرُ بوجوه النعم يستخرج خلاصة الحُب والهيمان في المذكور وكلُّ وقتٍ للأحباب يمضي يصير لهم حديثًا يتلى من بعدهم: إما عليهم وإمَّا عنهم. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا...} الآية.
أخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر وابن مردويه عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا كان يوم القيامة دعى بالأنبياء وأممها، ثم يدعى بعيسى فيذكره الله نعمته عليه فيقربها، يقول: {يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك...} الآية. ثم يقول: {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} [المائدة: 116] فينكر أن يكون قال ذلك، فيؤتي بالنصارى فيسألون؟ فيقولون: نعم، هو أمرنا بذلك. فيطول شعر عيسى حتى يأخذ كل ملك من الملائكة بشعرة من شعر رأسه وجسده، فيجاثيهم بين يدي الله مقدار ألف عام، حتى يوقع عليهم الحجة، ويرفع لهم الصليب، وينطلق بهم إلى النار».
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق أبي بكر بن عياش عن ابن وهب عن أبيه قال: قدم رجل من أهل الكتاب اليمن فقال أبي: ائته واسمع منه. فقلت: تحيلني على رجل نصراني؟ قال: نعم. ائته واسمع منه. فأتيته فقال: لما رفع الله عيسى عليه السلام أقامه بين يدي جبريل وميكائيل فقال له {اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك} فعلت بك وفعلت بك، ثم أخرجتك من بطن أمك، ففعلت بك وفعلت بك، ستكون أمة بعدك ينتجلونك وينتجلون ربوبيتك، ويشهدون أنك قدمت وكيف يكون رب يموت؟ فبعزتي حلفت لأناصبنهم الحساب يوم القيامة، ولأقيمنهم مقام الخصم من الخصم حتى ينفذوا ما قالوا ولن ينفذوه أبدًا، ثم أسلم وجاء من الأحاديث بشيء لم أسمع مثلها.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات} أي الآيات التي وضع على يديه من احياء الموتى، وخلقه من الطين كهيئة الطير. ثم ينفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله، وإبراء الأسقام، والخبر بكثير من الغيوب مما يدخرون في بيوتهم، وما رد عليهم من التوراة مع الإنجيل الذي أحدث الله إليه، ثم ذكر كفرهم بذلك كله. اهـ.

.سؤال وجوابه:

فإن قيل: إنه تعالى شرع هاهنا في تعديد نعمه على عيسى عليه السلام وقول الكفار في حقه {إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} ليس من النعم، فكيف ذكره ههنا؟
والجواب: أن من الأمثال المشهورة أن كل ذي نعمة محسود وطعن الكفار في عيسى عليه السلام بهذا الكلام، يدل على أن نعم الله في حقه كانت عظيمة فَحُسن ذكره عند تعديد النعم للوجه الذي ذكرناه. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله تعالى: {إِذْ قَالَ الله} فيها أوجه:
أحدها: أنه بدل من {يَوْمَ يَجْمَعُ}.
قال الزمخشريُّ: «والمعنى: أنه يوبِّخ الكافرين يومئذ بسؤال الرسُلِ عن إجابَتِهِمْ، وبتعديدِ ما أظْهَرَ على أيديهم من الآياتِ العظامِ، فكذَّبهم بعضُهم وسمَّوْهُم سحَرةً، وتجاوزَ بعضُهُمُ الحَدَّ، فجعله وأمَّهُ إلَهَيْنِ»، ولمَّا ذكَر أبو البقاء هذا الوجه، تأوَّلَ فيه «قَالَ» بـ «يَقُولُ»، وأنَّ «إذْ»، وإنْ كانت للماضي، فإنما وقعتْ هنا على حكاية الحال.