فصل: تفسير الآية رقم (115):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والعيدُ هنا مشتقٌّ من العود؛ لأنه يعود كلَّ سنة، قاله ثعلبٌ عن ابن الأعرابيِّ، وقال ابن الأنباريِّ: «النحويُّون يقولون: يوم العيدِ؛ لأنَّه يعود بالفَرَحِ والسُّرورِ فهو يَوْمُ سُرُورِ الخَلْقِ كلهم، ألا ترى أنَّ المَسْجُونين في ذلك اليَوْم لا يُطَالَبُونَ ولا يُعَاقَبُون، ولا يُصادُ الوَحْشُ ولا الطُّيُورُ، ولا تَغْدُو الصِّبْيَان إلى المَكَاتِب».
وقيل: هو عِيدٌ؛ لأنَّ كُلَّ إنْسَان يَعُودُ إلى قَدْرِ مَنْزِلَتهِ؛ ألا ترى إلى اختلافِ ملابِسهم وهَيْئَاتِهِم ومآكِلِهم، فمنهم من يُضيف ومنهم من يُضاف، ومنهم من يَرْحَم ومنهم من يُرْحَم.
وقيل: سُمِّي بذلك؛ لأنَّهُ يَوْمٌ شريف، تَشْبيهًا بالعيدِ وهو فحلٌ كريم مشهور عند العربِ ويَنْسِبُون إليه، فيقالُ: إبل عيدية.
قال الشاعر: [البسيط]
-......... ** عِيدٌ بِهَا أزْهَرَتْ فِيهَا الدَّنَانِيرُ

وقال الخليلُ: العيدُ كل يومٍ يَجْمَعُ، كأنَّهُم عَادُوا إلَيْه عند العرب؛ لأنه يعود بالفَرَح والحُزْن، وكلُّ ما عاد إليك في وقت، فهو عيد؛ حتَّى قالوا لِلطَّيْفِ عِيدٌ؛ قال الأعشى: [الطويل]
فَوَاكَبِدِي مِنْ لاعِجِ الحبِّ والهَوَى ** إذَا اعْتَادَ قَلْبِي مِنْ أمَيْمَةَ عِيدُهَا

أيْ: طَيْفُهَا، وقال تأبَّطَ شَرًّا: [البسيط]
يَا عِيدُ مَا لَكَ مِنْ شَوْقٍ وإيرَاقِ

وقال أيضًا: [الخفيف]
عَاد قَلْبِي مِنَ الطَّوِيلَةِ عِيدُ

وقال الراغبُ: والعيدُ حالةٌ تُعاوِدُ الإنسانَ، والعائدَة: كلُّ نفْعٍ يرجع إلى الإنسانِ بشَيْء، ومنه «العَوْدُ» للبعيرِ المُسِنِّ: إمَّا لمعاوَدَتِهِ السَّيْرَ والعمل فهو بمعنى فاعلٍ، وإمَّا لمعاوَدَةِ السنين إياه ومَرِّهَا عليه، فهو بمعنى مفعول، قال امْرُؤُ القَيْسِ: [الطويل]
عَلَى لاحِبٍْ لا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ ** إذا سَافَهُ العَوْدُ النَّبَاطِيُّ جَرْجَرَا

وصَغَّروه على «عُيَيْدٍ» وكسَّروه على «أعْيَاد»، وكان القياسُ عُوَيْد وأعْوَاد؛ لزوالِ مُوجِبِ قَلْبِ الواوِ ياء؛ لأنها إنما قُلبتْ لسكونها بعد كَسْرةٍ، كـ «مِيزَانٍ»، وإنما فعلوا ذلك؛ قالوا: فرقًا بينه وبَيْن عُودِ الخَشَبِ.
قوله: {لأوَّلِنَا وَآخِرِنَا} فيه وجهان:
أحدهما: أنه متعلِّقٌ بمحذوف؛ لأنه وقع صفةً لـ {عِيدًا}.
الثاني: أنه بدلٌ من «نَا» في «لَنَا»، قال الزمخشريُّ: {لأوَّلِنَا وآخِرِنَا} بدلٌ من {لَنَا} بتكرير العالمِ، ثم قال: «وقرأ زيدُ بنُ ثابتٍ، وابن مُحَيْصِنٍ والجَحْدَرِيُّ: {لأولاَنَا وَأخْرَانَا} بدل {لَنَا}، والتأنيثُ على معنى الأمَّة»، وخَصّص أبو البقاء كلَّ وجْه بشيء؛ وذلك أنه قال: «فأمَّا {لأوَّلنَا وآخِرِنَا}، فإذا جعلت {لَنَا} خبرًا أو حالًا من فاعل {تَكُونُ} فهو صفةٌ لـ {عِيدًا}، وإن جعلت {لَنَا} صفة لـ {عِيد}، كان {لأوَّلِنَا} بدلًا من الضمير المجرور بإعادة الجَارِّ».
قال شهاب الدين: إنما فعل ذلك؛ لأنه إذا جعل {لَنَا} خبرًا، كان {عِيدًا} حالًا، وإن جعله حالًا، كان {عِيدًا} خبرًا؛ وعلى التقديرين لا يمكنُه جَعْلُ {لأوَّلِنَا} بدلًا من {لَنَا}؛ لئلا يلزم الفصلُ بين البدلِ والمبدلِ منه: إمَّا بالحال، وإما بالخبر، وهو «عِيد»، بخلافِ ما إذا جُعِل {لَنَا} صفةً لـ «عِيد»، ولكن يُقالُ: قوله: فإن جعلت {لَنَا} صفةً لـ {عيدًا} كان {لأوَّلِنَا} بدلًا مُشْكِلٌ أيضًا؛ لأنَّ الفصل فيه موجود، لاسيما أنَّ قوله لا يُحْمل على ظاهره؛ لأنَّ {لَنَا} ليس صفةً بل هو حالٌ مقدمة، ولكنه نَظَرَ إلى الأصل، وأنَّ التقدير: عيدًا لَنَا لأوَّلِنَا؛ فكأنه لا فَصْلَ، والظاهرُ جوازُ البدل، والفصلُ بالخبر والحال لا يَضُرُّ؛ لأنه من تمامه، فليس بأجنبيٍّ.
واعلم: أن البدل من ضمير الحاضر، سواءٌ كان متكلِّمًا أم مخاطبًا، لا يجوز عند جمهور البصريِّين في بدلِ الكلِّ من الكُلِّ، لو قلت: «قُمْتُ زَيْدٌ» تعْني نَفْسَكَ، و«ضَرَبْتُكَ عَمْرًا»، لم يَجُزْ، قالوا: لأنَّ البدل إنما يؤتى به للبيانِ غالبًا، والحاضِرُ متميِّزٌ بنفسه؛ فلا فائدةَ في البدلِ منه، وهذا يَقْرُبُ من تعليلهم في مَنْعِ وصفه، وأجازَ الأخفشُ ذلك مُطْلَقًا مستدِلًا بظاهر هذه الآية الكريمة؛ لقول القائل: [الوافر]
أنَا سَيْفُ العَشِيرَةِ فَاعْرِفُونِي ** حُمَيْدًا قَدْ تَذَرَّيْتُ السَّنَامَا

ف «حُمَيْدًا» بدل من ياء «اعْرِفُوني»، وقولِ الآخر: [الطويل]
وَشَوْهَاءَ تَغْدُو بي إلى صَارِخ الوَغَى ** بِمُسْتَلْئِمٍ مِثْلِ الفَنِيقِ المُدَجَّلِ

وقول الآخر: [البسيط]
بِكُمْ قُرَيْشٍ كُفِينَا كُلَّ مُعْضِلَةٍ ** وأمَّ نَهْجَ الهُدَى مَنْ كَانَ ضِلِّيلا

وفي الحديث: «أتَيْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَفَرٌ مِنَ الأشْعَرِيين» والبصريون يُؤوِّلونَ جميعَ ذلك، أمَّا الآية الكريمة فعلى ما تقدَّم في الوجه الأول، وأمَّا «حُمَيْدًا»، فمنصوبٌ على الاختصاص، وأمَّا «بِمُسْتَلئم»، فمن باب التجريدِ، وهو شيءٌ يعرفه أهلُ البيانِ، يعني أنه جَرَّد من نفسه ذاتًا متصفةً بكذا، وأمَّا «قُرَيْشٍ» فالروايةُ بالرفع على أنه منادى نُوِّنَ ضرورةً؛ كقوله: [الوافر]
سَلاَمُ اللَّهِ يَا مَطَرٌ عَلَيْهَ ** وَلَيْسَ عَلَيْكَ يَا مَطَرُ السَّلامُ

وأمَّا «نفرٌ»، فخبر مبتدأ مضمرٍ، أي: نَحْنُ، ومنع ذلك بعضهم، إلا أنْ يُفيدَ البدلُ توكيدًا، وإحاطة شمولٍ، واستدلَّ بهذه الآيةِ، وبقول الآخر: [الطويل]
فَمَا بَرِحَتْ أقْدَامُنَا فِي مُقَامِنَا ** ثَلاَثَتِنَا حَتَّى أزيرُوا المَنَائِيَا

بجر «ثَلاَثِينَا» بدلًا من «نَا»، ولا حُجَّة فيه؛ لأنَّ «ثَلاَثَتِنَا» توكيدٌ جارٍ مَجْرى «كُلّ».
قال القُرْطُبِي: وقرأ زَيْدُ بن ثابتٍ: {لأولَيْنَا وأُخْرَيْنَا} على الجَمْعِ قال ابنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: يَأكُلُ منهما آخرُ النَّاس كما يَأكُل أوَّلهُم.
قوله: {وآيةً}: عطف على {عيدًا}، و{منك}. اهـ.

.تفسير الآية رقم (115):

قوله تعالى: {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان ظاهر سؤالهم من الاستفهام عن الاستطاعة للاضطراب وإن كان للإلهاب، أكد الجواب فقال: {إني منزلها عليكم} أي الآن بقدرتي الخاصة بي {فمن يكفر بعد} أي بعد إنزالها {منكم} وهذا السياق معشر بأنه يحصل منهم كفر، وقد وجد ذلك حتى في الحواريين على ما يقال في يهودا الإسخريوطي أحدهم الذي دل على عيسى عليه السلام، فألقى شبهه عليه، ولهذا خصه بهذا العذاب فقال: {فإني أعذبه} أي على سبيل البتّ والقطع {عذابًا لا أعذبه} أي مثله أبدًا فيما يأتي من الزمان {أحدًا من العالمين} وفي هذا أتم زاجر لهذه الأمة عن اقتراح الآيات، وفي ذكر قصة المائدة في هذه السورة التي افتتحت بإحلال المآكل واختتمت بها أعظم تناسب، وفي ذلك كله إشارة إلى تذكير هذه الأمة بما أنعم عليها بما أعطى نبيها من المعجزات ومنَّ عليها به من حسن الاتباع، وتحذير من كفران هذه النعم المعددة عليهم، وقد اختلف المفسرون في حقيقة هذه المائدة وفي أحوالها؛ قال أبو حيان: وأحسن ما يقال فيه ما خرجه الترمذي في أبواب التفسير عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنزلت المائدة من السماء خبزًا ولحمًا، وأمروا أن لا يدخروا لغد ولا يخونوا، فخانوا وادخروا ورفعوا لغد، فمسخوا قردة وخنازير» انتهى.
قلت: ثم صحح الترمذي وقفه على عمار وقال: لا نعلم للحديث المرفوع أصلًا، غير أن ذلك لا يضره لكونه لا يقال من قِبَل الرأي، ولا أعلم أحدًا ذكر عمارًا فيمن أخذ عن أهل الكتاب، فهو مرفوع حكمًا، وهذا الخبر يؤكد أن الخبر في الآية على بابه، فيدفع قول من قال: إنها لم تنزل، لأنهم لما سمعوا الشرط قالوا: لا حاجة لنا بها، لأن خبره تعالى لا يخلف ولا يبدل القول لديه، وهذا الرزق الذي من السماء قد وقع مثله لآحاد الأمة؛ روى البيهقي في أواخر الدلائل عن أبي هريرة قال: كانت امرأة من دوس يقال لها أم شريك أسلمت في رمضان، فأقبلت تطلب من يصحبها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقيت رجلًا من اليهود فقال: ما لك يا أم شريك؟ قالت: أطلب رجلًا يصحبني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فتعالي فأنا أصحبك، قالت: فانتظرني حتى أملأ سقائي ماءً، قال: معي ماء ما لا تريدين ماءً، فانطلقت معهم فساروا يومهم حتى أمسوا، فنزل اليهودي ووضع سفرته فتعشى وقال: يا أم شريك! تعالي إلى العشاء! فقالت: اسقني من الماء فإني عطشى، ولا أستطيع أن آكل حتى أشرب، فقال لها: لا أسقيك حتى تهودي! فقالت: لا جزاك الله خيرًا! غربتني ومنعتني أن أحمل ماء، فقال: لا والله لا أسقيك منه قطرة حتى تهودي، فقالت: لا والله لا أتهود أبدًا بعد إذ هداني الله للإسلام؛ فأقبلت إلى بعيرها فعقلته ووضعت رأسها على ركبته فنامت، قالت: فما أيقظني إلا برد دلو قد وقع على جبيني، فرفعت رأسي فنظرت إلى ماء أشد بياضًا من اللبن وأحلى من العسل، فشربت حتى رويت، ثم نضحت على سقائي حتى ابتل ثم ملأته، ثم رفع بين يديّ وأنا أنظر حتى توارى عني في السماء، فلما أصبحت جاء اليهودي فقال: يا أم شريك! قلت: والله قد سقاني الله، قال: من أين أنزل عليك؟ من السماء؟ قلت: نعم، والله لقد أنزل الله عليّ من السماء ثم رفع بين يدي حتى توارى عني في السماء؛ ثم أقبلت حتى دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصت عليه القصة، فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها نفسها فقالت: يا رسول الله! لست أرضي نفسي لك ولكن بضعي لك فزوجني من شئت، فزوجها زيدًا وأمر لها بثلاثين صاعًا وقال: كلوا ولا تكيلوا، وكان معها عكة سمن هدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت لجارية لها: بلغي هذه العكة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قولي: أم شريك تقرئك السلام، وقولي: هذه عكة سمن أهديناها لك، فانطلقت بها الجارية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذوها ففرغوها، وقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: علقوها ولا توكوها، فعلقوها في مكانها، فدخلت أم شريك فنظرت إليها مملوءة سمنًا، فقالت: يا فلانة! أليس أمرتك أن تنطلقي بهذه العكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقالت: قد والله انطلقت بها كما قلت، ثم أقبلت بها أضربها ما يقطر منها شيء ولكنه قال: علقوها ولا توكوها، فعلقتها في مكانها، وقد أوكتها أم شريك حين رأتها مملوءة فأكلوا منها حتى فنيت، ثم كالوا الشعير فوجدوه ثلاثين صاعًا لم ينقص منه شيء، قال: وروي ذلك من وجه آخر، ولحديثه شاهد صحيح عن جابر رضي الله عنه.
وروي بإسناده عن أبي عمران الجوني أن أم أيمن هاجرت من مكة إلى المدينة وليس معها زاد، فلما كانت عند الروحاء وذلك عند غيبوبة الشمس عطشت عطشًا شديدًا، قالت: فسمعت هفيفًا شديدًا فوق رأسي، فرفعت رأسي فإذا دلو مدلى من السماء برشاء أبيض، فتناولته بيدي حتى استمسكت به، قالت: فشربت منه حتى رويت، قالت: فلقد أصوم بعد تلك الشربة في اليوم الحار الشديد الحر ثم أطوف في الشمس كي أظمأ فما ظمئت بعد تلك الشربة.
قال: وفي الجهاد عن البخاري عن أبي هريرة قال: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة رهط سرية عينًا، وأمَّر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري جد عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم- فذكر الحديث حتى قال: فابتاع خبيبًا- يعني ابن عدي الأنصاري- بنو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، وكان خبيب قد قتل الحارث بن عامر يوم بدر، فلبث خبيب عندهم أسيرًا، فأخبرني عبيد الله بن عياض أن ابنة الحارث قالت: والله ما رأيت أسيرًا قط خيرًا من خبيب، والله لقد وجدته يومًا يأكل من قطف عنب في يده وإنه لموثق في الحديد وما بمكة من ثمر، وكانت تقول: إنه لرزق من الله رزق خبيبًا» الحديث. اهـ.