فصل: من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال سعيد بن جُبَير: أُنزل على المائدة كل شيء إلا الخبز واللحم وقال عطاء: نزل عليها كلّ شيء إلا السمك واللحم وقال كعب: نزلت المائدة منكوسة من السماء تطير بها الملائكة بين السماء والأرض عليها كل طعام إلا اللحم.
قلت: هذه الثلاثة أقوال مخالفة لحديث التِّرمذي وهو أولى منها؛ لأنه إن لم يصح مرفوعًا فصح موقوفًا عن صحابي كبير. والله أعلم.
والمقطوع به أنها نزلت وكان عليها طعام يؤكل والله أعلم بتعيينه.
وذكر أبو نعيم عن كعب أنها نزلت ثانية لبعض عُبَاد بني إسرائيل، قال كعب: اجتمع ثلاثة نفر من عباد بني إسرائيل فاجتمعوا في أرض فَلاَةٍ مع كل رجل منهم اسم من أسماء الله تعالى؛ فقال أحدهم: سَلُوني فأدعوَ الله لكم بما شئتم؛ قالوا: نسألك أن تدعو الله أن يظهر لنا عينًا ساحّة بهذا المكان؛ ورياضًا خُضرًا وعَبْقريًا، قال: فدعا الله فإذا عين ساحّة ورياض خُضر وعَبْقري.
ثم قال أحدهم: سَلُوني فأدعوَ الله لكم بمَا شئتم؛ فقالوا: نسألك أن تدعو الله أن يطعمنا شيئًا من ثمار الجنة فدعا الله فنزلت عليهم بَسْرة فأكلوا منها لا تقلب إلا أكلوا منها لونًا ثم رفعت؛ ثم قال أحدهم: سَلُوني فأدعوَ الله لكم بمَا شئتم؛ فقالوا: نسألك أن تدعو الله أن ينزل علينا المائدة التي أنزلها على عيسى؛ قال: فدعا فنزلت فقضوا منها حاجتهم ثم رفعت؛ وذكر تمام الخبر.
مسألة جاء في حديث سلمان المذكور بيان المائدة وأنها كانت سُفْرة لا مائدة ذات قوائم، والسُّفْرة مائدة النبي صلى الله عليه وسلم وموائد العرب؛ خرّج أبو عبد الله التِّرمذي الحكيم: حدّثنا محمد بن بَشَّار، قال حدّثنا مُعاذ بن هِشام، قال حدّثني أبي، عن يونس، عن قَتَادة، عن أنَس قال: «ما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خُوان قَطُّ ولا في سُكُرُّجَة ولا خُبِز له مُرَقّقٌ.
قال قلت لأنس: فعلامَ كانوا يأكلون؟ قال: على السُّفَرْ»
؛ قال محمد بن بشار: يونس هذا هو أبو الفرات الإسْكَاف.
قلت: هذا حديث صحيح ثابت اتفق على رجاله؛ البخاري ومسلم، وخرجه التِّرمذي قال: حدّثنا محمد بن بشّار قال حدّثنا معاذ بن هِشام فذكره وقال فيه: حسن غريب.
قال التِّرمذي أبو عبد الله: الخُوان هو شيء محدث فعلته الأعاجم، وما كانت العرب لتمتهنها، وكانوا يأكلون على السُّفَر واحدها سُفْرة وهي التي تتخذ من الجلود ولها معاليق تنضم وتنفرج، فبالإنفراج سُميت سُفْرة؛ لأنها إذا حُلّت معاليقها انفرجت فأسفرت عما فيها فقيل لها السُّفْرة وإنما سمي السَّفَر سَفَرا لإسفار الرجل بنفسه عن البيوت.
وقوله: ولا في سُكُرُّجة؛ لأنها أوعية الأَصْباغ، وإنما الأصباغ للألوان ولم تكن من سِماتهم الألوان، وإنما كان طعامهم الثَّريد عليه مقطّعات اللحم.
وكان يقول: «انهسوا الّلحم نَهْسًا فإنه أَشْهى وأَمْرأْ».
فإن قيل: فقد جاء ذكر المائدة في الأحاديث؛ من ذلك حديث ابن عباس قال: لو كان الضَّب حرامًا ما أُكل على مائدة النبي صلى الله عليه وسلم؛ خرّجه مسلم وغيره.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تُصلّي الملائكة على الرجل ما دامت مائدته موضوعة» خرجه الثّقات؛ وقيل: إن المائدة كل شيء يُمدُّ ويُبسَط مثل المِنْديل والثّوب، وكان من حقه أن تكون مادة الدال مضعَّفة، فجعلوا إحدى الدالين ياء فقيل: مائدة؛ والفعل واقع به فكان ينبغي أن تكون ممدودة؛ ولكن خرجت في اللغة مخرج فاعل كما قالوا: سِرُّ كاتم وهو مكتوم، وعيشة راضية وهي مرضية، وكذلك خرج في اللغة ما هو فاعل على مخرج مفعول فقالوا: رجل مشئوم، وإنما هو شائم، وحجاب مستور وإنما هو ساتر، فالخوان هو المرتفع عن الأرض بقوائمه، والمائدة ما مُدّ وبُسط، والسُّفْرة ما أسفر عما في جوفه، وذلك لأنها مضمومة بمعاليقها.
وعن الحسن قال: الأكل على الخُوان فعل الملوك، وعلى المْنديل فعل العجم، وعلى السُّفْرة فعل العرب وهو السنة والله أعلم. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ}.
أَيْ وَاذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ حِينَ أَلْهَمْتُ الْحَوَارِيِّينَ أَنْ يُؤْمِنُوا بِكَ وَقَدْ كَذَّبَكَ جُمْهُورُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَجَعَلْتُهُمْ أَنْصَارًا لَكَ يُؤَيِّدُونَ حُجَّتَكَ وَيَنْشُرُونَ دَعْوَتَكَ. وَالْوَحْيُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الْإِشَارَةُ السَّرِيعَةُ الْخَفِيَّةُ، أَوِ الْإِعْلَامُ بِالشَّيْءِ بِسُرْعَةٍ وَخَفَاءٍ كَمَا بَيَّنَاهُ مِنْ قَبْلُ، وَلَوْ وُجِدَ هَذَا التِّلِغْرَافُ فِي عَهْدِ الْعَرَبِ الْخُلَّصِ لَسَمَّوْا خَبَرَهُ وَحْيًا، وَالْمِصْرِيُّونَ يُسَمُّونَهُ حَتَّى فِي الرَّسْمِيَّاتِ إِشَارَةً، وَأُطْلِقَ الْوَحْيُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى مَا يُلْقِيهِ اللهُ تَعَالَى فِي نُفُوسِ الْأَحْيَاءِ مِنَ الْإِلْهَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} (16: 68) وَقَوْلِهِ: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} (28: 7) وَهَكَذَا أَلْقَى اللهُ تَعَالَى فِي قُلُوبِ الْحَوَارِيِّينَ الْإِيمَانَ بِهِ وَبِرَسُولِهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقِيلَ: الْوَحْيُ إِلَيْهِمْ هُوَ مَا أَنْزَلَ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ.
وَالْحَوَارِيُّونَ جَمْعُ حَوَارِيٍّ وَهُوَ مَنْ خَلُصَ لَكَ، وَأَخْلَصَ سِرًّا وَجَهْرًا فِي مَوَدَّتِكَ وَمَعْنَاهُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الْأَبْيَضُ النَّقِيُّ اللَّوْنِ، وَالْحَوَارِيَّاتُ مِنَ النِّسَاءِ النَّقِيَّاتُ الْأَلْوَانِ وَالْجُلُودِ لِبَيَاضِهِنَّ قَالَ فِي اللِّسَانِ: وَالْأَعْرَابُ تُسَمِّي الْأَمْصَارَ حَوَارِيَّاتٍ لِبَيَاضِهِنَّ وَتَبَاعُدِهِنَّ مِنْ قَشَفِ الْأَعْرَابِ بِنَظَافَتِهِنَّ قَالَ:
فَقُلْتُ إِنَّ الْحَوَارِيَّاتِ مَعْطَبَةٌ ** إِذا تَفَتَّلْنَ مِنْ تَحْتِ الْجَلَابِيبِ

وَأَمَّا الْحُورُ الْعَيْنُ فَهُمَا جَمْعُ حَوْرَاءَ وَعَيْنَاءَ مِنَ الْحَوَرِ (بِالتَّحْرِيكِ) وَهُوَ شِدَّةُ بَيَاضِ الْعَيْنِ مَعَ شِدَّةِ سَوَادِهَا، فَالْحَوْرَاءُ مُؤَنَّثُ الْأَحْوَرِ، وَالْحَوَارِيَّةُ مُؤَنَّثُ الْحَوَارِيِّ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ الْحِوَارِيُّ بِمَعْنَى النَّفْيِ الْخَالِصِ فِي غَيْرِ اللَّوْنِ، قَالَ فِي اللِّسَانِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْحَوَارِيُّونَ صَفْوَةُ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ خَلَصُوا لَهُمْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْحَوَارِيُّونَ خُلْصَانُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَصَفْوَتُهُمْ قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الزُّبَيْرُ ابْنُ عَمَّتِي، وَحَوَارِيِّي مِنْ أُمَّتِي» أَيْ خَاصَّتِي مِنْ أَصْحَابِي وَنَاصِرِي قَالَ: وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَوَارِيُّونَ، وَتَأْوِيلُ الْحَوَارِيِّينَ فِي اللُّغَةِ الَّذِينَ أَخْلَصُوا وَنَقَوْا مَنْ كُلِّ عَيْبٍ اهـ. وَاللُّغَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى النَّقَاءِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ بِهَذَا التَّحْدِيدِ، وَإِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى النَّقَاءِ وَالْخُلُوصِ مُطْلَقًا، فَيَكْفِي فِي صِحَّةِ الْإِطْلَاقِ أَنْ يَكُونُوا قَدْ خَلَصُوا لِنَصْرِهِ أَوْ خَلَصُوا وَنَقَوْا مِنَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، وَقَدْ حَكَى الله عَنْهُمْ هُنَا أَنَّهُمْ قَالُوا: آمَنَّا، أَيْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَشْهَدُوا اللهَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ أَيْ مُخْلِصُونَ فِي إِيمَانِهِمْ، مُذْعِنُونَ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَحَكَى عَنْهُمْ فِي سُورَتَيْ (آلِ عِمْرَانَ 52) و(الصَّفِّ 14) أَنَّهُمْ حِينَ قَالَ الْمَسِيحُ: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ} (ه) قَالُوا: {نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ}.
{إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} قَالَ أَبُو السُّعُودِ الْعِمَادِيُّ فِي تَفْسِيرِ: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ} مَا نَصُّهُ: كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ مَسُوقٌ لِبَيَانِ بَعْضِ مَا جَرَى بَيْنَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ مُنْقَطِعٌ عَمَّا قَبْلَهُ كَمَا يُنْبِئُ عَنْهُ الْإِظْهَارُ فِي مَوْقِعِ الْإِضْمَارِ، و{إِذْ} مَنْصُوبٌ بِمُضْمَرٍ خُوطِبَ بِهِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، بِطَرِيقِ تَلْوِينِ الْخِطَابِ وَالِالْتِفَاتِ، لَكِنَّ لَا لِأَنَّ الْخِطَابَ السَّابِقَ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِخِطَابٍ وَإِنَّمَا هُوَ حِكَايَةُ خِطَابٍ، بَلْ لِأَنَّ الْخِطَابَ لِمَنْ خُوطِبَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {اتَّقُوا اللهَ} الْآيَةَ فَتَأَمَّلْ كَأَنَّهُ قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقِيبِ حِكَايَةِ مَا صَدَرَ عَنِ الْحَوَارِيِّينَ مِنَ الْمَقَالَةِ الْمَعْدُودَةِ مِنْ نِعَمِ اللهِ تَعَالَى الْفَائِضَةِ عَلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. اذْكُرِ النَّاسَ وَقْتَ قَوْلِهِمْ إِلَخْ. وَقِيلَ:
هُوَ ظَرْفٌ لِقَالُوا، أُرِيدَ بِهِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ ادِّعَاءَهُمُ الْإِيمَانَ وَالْإِخْلَاصَ لَمْ يَكُنْ عَنْ تَحْقِيقٍ وَإِيقَانٍ وَلَا يُسَاعِدُهُ النَّظْمُ الْكَرِيمُ. اهـ.
أَقُولُ: فِي مُتَعَلَّقِ الظَّرْفِ قَوْلَانِ لِلْمُفَسِّرِينَ، رَجَّحَ أَبُو السُّعُودِ الْمَشْهُورَ مِنْهُمَا وَهُوَ الْأَوَّلُ وَرَدَّ الثَّانِي الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ، وَهُوَ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا آمَنَّا} أَيِ ادَّعَوُا الْإِيمَانَ وَأَشْهَدُوا اللهَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ مُخْلِصُونَ فِي إِيمَانِهِمْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي قَالُوا فِيهِ مَا يُنَافِي ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} وَيَقُولُ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى مَا وَصَفَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَإِنَّمَا حَكَى قَوْلَهُمْ حِكَايَةً وَوَصَلَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى كَذِبِهِمْ فِيهِ وَهُوَ سُؤَالُهُمْ هَذَا وَجَوَابُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُمْ إِذْ أَمَرَهُمْ بِتَقْوَى اللهِ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ حَقًّا، وَإِصْرَارُهُمْ عَلَى السُّؤَالِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَوَجْهُ رَدِّ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ هُوَ الْمُرَادَ لَقِيلَ: {إِذْ قَالُوا يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} وَلَمْ يَقُلْ: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ} وَلَمَا صَحَّ أَنْ تَكُونَ دَعْوَى الْإِيمَانِ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ نِعْمَةً مِنَ اللهِ عَلَى عِيسَى وَهِيَ كَاذِبَةٌ وَلَا أَنْ تَكُونَ عَلَى وَحْيٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّ هَذَا الْأَخِيرَ لَا يَرُدُّ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ؛ لِأَنَّهُ فَسَّرَ الْوَحْيِ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ بِالْإِيمَانِ بِأَنَّهُ أَمْرُ اللهِ إِيَّاهُمْ بِذَلِكَ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ، أَيْ أَمْرِهِ إِيَّاهُمْ مَعَ غَيْرِهِمْ؛ إِذْ كَلَّفَ النَّاسَ كَافَّةً أَنْ يُؤْمِنُوا بِمَا تَجِيئُهُمْ بِهِ الرُّسُلُ، وَلَكِنْ يَرُدُّ قَوْلَهُ أَيْضًا تَسْمِيَتُهُمْ بِالْحِوَارِيَّيْنِ وَمَا فِي سُورَتَيْ آلِ عِمْرَانَ وَالصَّفِّ مِنْ إِجَابَتِهِمْ عِيسَى إِلَى نَصْرِهِ، وَلَعَلَّهُ يَرَى أَنَّ هَذَا شَأْنُهُمْ فِي أَوَّلِ الدَّعْوَةِ ثُمَّ آمَنُوا بَعْدَ ذَلِكَ وَصَارُوا أَنْصَارَ اللهِ وَرَسُولِهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَقَدْ حَكَى أَبُو السُّعُودِ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ: الْخِلَافُ فِي إِيمَانِهِمْ. وَمَنْشَأُ هَذَا الْخِلَافِ كَلِمَةُ {يَسْتَطِيعُ} وَقَدْ قَرَأَ الْكِسَائِيُّ {هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ} قَالُوا: أَيْ سُؤَالَ رَبِّكَ وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مَرْوِيَّةٌ عَنْ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاذٍ مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَقَدْ صَحَّحَ الْحَاكِمُ عَنْ مُعَاذٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَأَهُ {تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ} وَمِثْلُهُ فِي ذَلِكَ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ تَلْقِينَ الْقُرْآنِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَصْرِيحِ الصَّحَابِيِّ بِرَفْعِهِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ {يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} وَهَذَا الَّذِي اسْتُشْكِلَ بِأَنَّهُ لَا يَصْدُرُ عَنْ مُؤْمِنٍ صَحِيحٍ الْإِيمَانِ، وَأَجَابَ عَنْهُ الْقَائِلُونَ بِصِحَّةِ إِيمَانِهِمْ مِنْ وُجُوهٍ:
(1) أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ لِأَجْلِ اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ بِإِيمَانِ الْعَيَانِ لَا لِلشَّكِّ فِي قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ، فَهُوَ عَلَى حَدِّ سُؤَالِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ رُؤْيَةَ كَيْفِيَّةِ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى لِيَطْمَئِنَّ قَلْبُهُ بِإِيمَانِ الشَّهَادَةِ وَالْمُعَايَنَةِ مَعَ إِقْرَارِهِ بِإِيمَانِهِ بِذَلِكَ بِالْغَيْبِ.
(2) إِنَّهُ سُؤَالٌ عَنِ الْفِعْلِ دُونَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِلَازِمِهِ.
(3) إِنَّ السُّؤَالَ عَنِ الِاسْتِطَاعَةِ بِحَسَبِ الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ لَا بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ، أَيْ هَلْ يُنَافِي حِكْمَةَ رَبِّكِ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ أَمْ لَا؟ فَإِنَّ مَا يُنَافِي الْحِكْمَةَ لَا يَقَعُ وَإِنْ كَانَ مِمَّا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْقُدْرَةُ، كَعِقَابِ الْمُحْسِنِ عَلَى إِحْسَانِهِ وَإِثَابَةِ الظَّالِمِ الْمُسِيءِ عَلَى ظُلْمِهِ.
(4) إِنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا تَقْدِيرُهُ: هَلْ تَسْتَطِيعُ سُؤَالَ رَبِّكَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ: هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ؟ وَالْمَعْنَى هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَسْأَلَهُ مِنْ غَيْرِ صَارِفٍ يَصْرِفُكَ عَنْ ذَلِكَ؟
(5) إِنَّ الِاسْتِطَاعَةَ هُنَا بِمَعْنَى الْإِطَاعَةِ وَالْمَعْنَى هَلْ يُطِيعُكَ وَيُجِيبُ دُعَاءَكَ رَبُّكَ إِذَا سَأَلْتَهُ ذَلِكَ؟
وَأَقُولُ: رُبَّمَا يَظُنُّ الْأَكْثَرُونَ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ الْأَخِيرَ تَكَلُّفٌ بَعِيدٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَالِاسْتِطَاعَةُ اسْتِفْعَالٌ مِنَ الطَّوْعِ وَهُوَ ضِدُّ الْكُرْهِ. قَالَ تَعَالَى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} (41: 11) وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ: الطَّوْعُ نَقِيضُ الْكُرْهِ. طَاعَهُ يَطُوعُهُ وَطَاوَعَهُ، وَالِاسْمُ الطَّوَاعَةُ وَالطَّوَاعِيَةُ (ثُمَّ قَالَ) وَيُقَالُ: طِعْتُ لَهُ وَأَنَا أُطِيعُ طَاعَةً، وَلِتَفْعَلَنَّهُ طَوْعًا أَوْ كُرْهًا وَطَائِعًا أَوْ كَارِهًا، وَجَاءَ فُلَانٌ طَائِعًا غَيْرَ مُكْرَهٍ. قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: وَطَاعَ يَطَاعُ وَأَطَاعَ لَانَ وَانْقَادَ، وَأَطَاعَهُ إِطَاعَةً وَانْطَاعَ لَهُ كَذَلِكَ. وَفِي التَّهْذِيبِ: وَقَدْ طَاعَ لَهُ يَطُوعُ إِذِ انْقَادَ لَهُ بِغَيْرِ أَلِفٍ فَإِذَا مَضَى لِأَمْرِهِ فَقَدْ أَطَاعَهُ. فَإِذَا وَافَقَهُ فَقَدْ طَاوَعَهُ. اهـ. فَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ إِطَاعَةَ الْأَمْرِ فِعْلُهُ عَنِ اخْتِيَارٍ وَرِضًا؛ وَلِذَلِكَ عَبَّرَ بِهِ عَنِ امْتِثَالِ أَوَامِرِ الدِّينِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ دِينًا إِلَّا إِذَا كَانَتْ عَنْ إِذْعَانٍ وَوَازِعٍ نَفْسِيٍّ، وَالَّذِي أَفْهَمَهُ أَنَّ الِاسْتِفْعَالَ فِي هَذِهِ الْمَادَّةِ كَالِاسْتِفْعَالِ فِي مَادَّةِ الْإِجَابَةِ، فَإِذَا كَانَ {اسْتَجَابَ لَهُ} بِمَعْنَى أَجَابَ دُعَاءَهُ أَوْ سُؤَالَهُ فَمَعْنَى اسْتَطَاعَهُ أَطَاعَهُ أَيِ انْقَادَ لَهُ وَصَارَ فِي طَوْعِهِ أَوْ طَوْعًا لَهُ. وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِي الْمَادَّتَيْنِ عَلَى أَشْهَرِ مَعَانِيهِمَا وَهُوَ الطَّلَبُ، وَلَكِنَّهُ طَلَبٌ دَخَلَ عَلَى فِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَذْكُورُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى الْمَحْذُوفِ، فَأَصْلُ اسْتَطَاعَ الشَّيْءَ طَلَبَ وَحَاوَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّيْءُ طَوْعًا لَهُ فَأَطَاعَهُ وَانْقَادَ لَهُ، وَمَعْنَى اسْتَجَابَ: سُئِلَ شَيْئًا وَطُلِبَ مِنْهُ أَنْ يُجِيبَ إِلَيْهِ فَأَجَابَ؛ فَبِهَذَا الشَّرْحِ الدَّقِيقِ تَفْهَمُ صِحَّةَ قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ {يَسْتَطِيعُ} هُنَا بِمَعْنَى يُطِيعُ، وَأَنَّ مَعْنَى يُطِيعُ يَفْعَلُ مُخْتَارًا رَاضِيًا غَيْرَ كَارِهٍ فَصَارَ حَاصِلَ مَعْنَى الْجُمْلَةِ «هَلْ يَرْضَى رَبُّكَ وَيَخْتَارُ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ إِذَا نَحْنُ سَأَلْنَاهُ أَوْ سَأَلْتَهُ لَنَا ذَلِكَ؟» وَالْمَائِدَةُ فِي اللُّغَةِ الْخِوَانُ الَّذِي عَلَيْهِ الطَّعَامُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ طَعَامٌ لَا يُسَمَّى مَائِدَةً، وَقَدْ يُطْلَقُ لَفْظُ الْمَائِدَةِ عَلَى الطَّعَامِ نَفْسِهِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِ، وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ مَنْ مَادَ بِمَعْنَى مَالَ وَتَحَرَّكَ أَوْ مِنْ مَادَ أَهْلَهُ بِمَعْنَى نَعَشَهُمْ وَقَوْلُهُ: وَكُنْتُ لِلْمُنْتَجِعِينَ مَائِدًا كَمَا فِي الْأَسَاسِ أَيْ أَعَاشَهُمْ وَسَدَّ فَقْرَهُمْ كَأَنَّهَا هِيَ تَمِيدُ مَنْ يَجْلِسُ إِلَيْهَا وَيَأْكُلُ مِنْهَا بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ عَلَى حَدِّ: عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ.