فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فقالوا لعيسى: كن أنت يا روح الله الذي تبدأ بالأكل منها، ثم نحن بعد فقال عيسى: معاذ الله من ذلك! يبدأ بالأكل من طلبها. فلما رأى الحواريون وأصحابهم امتناع نبيهم منها، خافوا أن يكون نزولها سَخْطة وفي أكلها مَثُلةً، فتحاموها. فلما رأى ذلك عيسى دعا لها الفقراء والزَّمْنى، وقال: كلوا من رزق ربكم، ودعوة نبيكم، واحمدوا الله الذي أنزلها لكم، فيكون مَهْنَؤُها لكم، وعقوبتها على غيركم، وافتتحوا أكلكم باسم الله، واختموه بحمد الله، ففعلوا، فأكل منها ألف وثلاثمائة إنسان بين رجل وامرأة، يصدرون عنها كل واحد منهم شبعان يتجشأ، ونظر عيسى والحواريون فإذا ما عليها كهيئته إذ أنزلت من السماء، لم ينتقص منها شيء، ثم إنها رفعت إلى السماء وهم ينظرون، فاستغنى كل فقير أكل منها، وبرئ كل زَمِنٍ أكل منها، فلم يزالوا أغنياء صِحَاحًا حتى خرجوا من الدنيا.
وندم الحواريون وأصحابهم الذين أبوا أن يأكلوا منها ندامة، سالت منها أشفارهم، وبقيت حسرتها في قلوبهم إلى يوم الممات، قال: فكانت المائدة إذا نزلت بعد ذلك أقبلت بنو إسرائيل إليها من كل مكان يسعون يزاحم بعضهم بعضًا: الأغنياء والفقراء، والصغار والكبار، والأصحاء والمرضى، يركب بعضهم بعضًا. فلما رأى ذلك جعلها نوائب، تنزل يومًا ولا تنزل يومًا. فلبثوا في ذلك أربعين يومًا، تنزل عليهم غِبًّا عند ارتفاع الضُحَى فلا تزال موضوعة يؤكل منها، حتى إذا قاموا ارتفعت عنهم. بإذن الله إلى جو السماء، وهم ينظرون إلى ظلها في الأرض حتى توارى عنهم.
قال: فأوحى الله إلى نبيه عيسى، عليه السلام، أن اجعل رزقي المائدة لليتامى والفقراء والزَّمنَى دون الأغنياء من الناس، فلما فعل ذلك ارتاب بها الأغنياء من الناس، وغَمطُوا ذلك، حتى شَكُّوا فيها في أنفسهم وشككوا فيها الناس، وأذاعوا في أمرها القبيح والمنكر، وأدرك الشيطان منهم حاجته، وقذف وسواسه في قلوب المرتابين حتى قالوا لعيسى: أخبرنا عن المائدة، ونزولها من السماء أحق، فإنه قد ارتاب بها بشر منا كثير؟ فقال عيسى، عليه السلام: هلكتم وإله المسيح! طلبتم المائدة إلى نبيكم أن يطلبها لكم إلى ربكم، فلما أن فعل وأنزلها عليكم رحمة ورزقًا، وأراكم فيها الآيات والعبَر كذَّبْتم بها، وشككتم فيها، فأبشروا بالعذاب، فإنه نازل بكم إلا أن يرحمكم الله.
وأوحى الله إلى عيسى: إني آخذ المكذبين بشرطي، فإني معذب منهم من كفر بالمائدة بعد نزولها عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين. قال فلما أمسى المرتابون بها وأخذوا مضاجعهم في أحسن صورة مع نسائهم آمنين، فلما كان في آخر الليل مسخهم الله خنازير، فأصبحوا يتبعون الأقذار في الكناسات.
هذا أثر غريب جدًا. قَطَّعَه ابن أبي حاتم في مواضع من هذه القصة، وقد جمعته أنا له ليكون سياقه أتم وأكمل، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وكل هذه الآثار دالة على أن المائدة نزلت على بني إسرائيل، أيام عيسى ابن مريم، إجابة من الله لدعوته، وكما دل على ذلك ظاهر هذا السياق من القرآن العظيم: {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنزلُهَا عَلَيْكُمْ} الآية.
وقد قال قائلون: إنها لم تنزل. فروى لَيْث بن أبي سليم، عن مجاهد في قوله: {أَنزلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} قال: هو مثل ضُرب، ولم ينزل شيء.
رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير. ثم قال ابن جرير: حدثني الحارث، حدثنا القاسم- هو ابن سلام- حدثنا حجاج، عن ابن جُرَيْج، عن مجاهد قال: مائدة عليها طعام، أبوها حين عرض عليهم العذاب إن كفروا، فأبوا أن تَنزل عليهم.
وقال أيضًا: حدثنا ابن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن منصور بن زاذان، عن الحسن؛ أنه قال في المائدة: لم تنزل.
وحدثنا بِشْر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كان الحسن يقول: لما قيل لهم: {فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} قالوا: لا حاجة لنا فيها، فلم تنزل.
وهذه أسانيد صحيحة إلى مجاهد والحسن، وقد يتقوى ذلك بأن خبر المائدة لا تعرفه النصارى وليس هو في كتابهم، ولو كانت قد نزلت لكان ذلك مما يتوفر الدواعي على نقله، وكان يكون موجودًا في كتابهم متواترًا، ولا أقل من الآحاد، والله أعلم. ولكن الذي عليه الجمهور أنها نزلت، وهو الذي اختاره ابن جرير، قال: لأنه تعالى أخبر بنزولها بقوله تعالى: {إِنِّي مُنزلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} قال: ووعد الله ووعيده حق وصدق.
وهذا القول هو- والله أعلم- الصواب، كما دلت عليه الأخبار والآثار عن السلف وغيرهم. وقد ذكر أهل التاريخ أن موسى بن نصير نائب بني أمية في فتوح بلاد المغرب، وجد المائدة هنالك مرصعة باللآلئ وأنواع الجواهر، فبعث بها إلى أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك، باني جامع دمشق، فمات وهي في الطريق، فحملت إلى أخيه سليمان بن عبد الملك الخليفة بعده، فرآها الناس وتعجبوا منها كثيرًا لما فيها من اليواقيت النفيسة والجواهر اليتيمة. ويقال إن هذه المائدة كانت لسليمان بن داود، عليهما السلام، فالله أعلم.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن سلمة بن كُهَيْل، عن عمران بن الحكم، عن ابن عباس قال: قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبًا ونؤمن بك قال: «وتفعلون؟» قالوا: نعم. قال: فدعا، فأتاه جبريل فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام، ويقول لك: إن شئت أصبح لهم الصفا ذهبًا، فمن كفر منهم بعد ذلك عذبته عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين، وإن شئت فتحت لهم باب التوبة والرحمة. قال: «بل باب التوبة والرحمة».
ثم رواه أحمد، وابن مردويه، والحاكم في مستدركه، من حديث سفيان الثوري، به. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)}.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: {تكون لنا عيدًا لأوّلنا وآخرنا} يقول: نتخذ اليوم الذي نزلت فيه عيدًا نعظمه نحن ومن بعدنا.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: {تكون لنا عيدًا لأوّلنا وآخرنا} قال: أرادوا أن تكون لعقبهم من بعدهم.
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة وأبو بكر الشافعي في فوائده المعروفة بالغيلانيات عن سلمان الفارسي قال: لما سأل الحواريون عيسى ابن مريم المائدة كره ذلك جدًا، وقال: اقنعوا بما رزقكم الله في الأرض، ولا تسألوا المائدة من السماء فإنها إن نزلت عليكم كانت آية من ربكم، وإنما هلكت ثمود حين سألوا نبيهم آية، فابتلوا بها حتى كان بوارهم فيها، فأبوا إلا أن يأتيهم بها، فلذلك {قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين}.
فلما رأى عيسى أن قد أبوا إلا أن يدعو لهم بها قام فألقى عنه الصوف، ولبس الشعر الأسود، وجبة من شعر، وعباءة من شعر، ثم توضأ واغتسل ودخل مصلاه، فصلى ما شاء الله، فلما قضى صلاته قام قائمًا مستقبل القبلة، وصف قدميه حتى استويا فألصق الكعب بالكعب، وحاذي الأصابع بالأصابع، ووضع يده اليمنى على اليسرى فوق صدره، وغض بصره، وطأطأ رأسه خشوعًا، ثم أرسل عينيه بالبكاء، فما زالت دموعه تسيل على خديه وتقطر من أطراف لحيته حتى ابتلت الأرض حيال وجهه من خشوعه، فلما رأى ذلك دعا الله فقال: {اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدًا لأوّلنا وآخرنا} تكون عظة منك لنا {وآية منك} أي علامة منك تكون بيننا وبينك، وارزقنا عليها طعامًا نأكله {وأنت خير الرازقين}.
فأنزل الله عليهم سفرة حمراء بين غمامتين، غمامة فوقها وغمامة تحتها، وهم ينظرون إليها في الهواء منقضة من فلك السماء تهوي إليهم، وعيسى يبكي خوفًا للشروط التي اتخذ الله فيها عليهم، إنه يعذب من يكفر بها منهم بعد نزولها عذابًا لم يعذبه أحدًا من العالمين، وهو يدعو الله في مكانه ويقول: إلهي اجعلها رحمة، إلهي لا تجعلها عذابًا، إلهي كم من عجيبة سألتك فأعطيتني، إلهي اجعلنا لك شاكرين، إلهي أعوذ بك أن تكون أنزلتها غضبًا ورجزًا، إلهي اجعلها سلامة وعافية ولا تجعلها فتنة ومثلة، فما زال يدعو حتى استقرت السفرة بين يدي عيسى، والحواريون وأصحابه حوله يجدون رائحة طيبة لم يجدوا فيما مضى رائحة مثلها قط، وخر عيسى والحواريون لله سجدًا شكرًا له بما رزقهم من حيث لم يحتسبوا، وأراهم فيه آية عظيمة ذات عجب وعبرة.
وأقبلت اليهود ينظرون فرأوا أمرًا عجبًا أورثهم كمدًا وغمًا، ثم انصرفوا بغيظ شديد، وأقبل عيسى والحواريون وأصحابه حتى جلسوا حول السفرة، فإذا عليه منديل مغطى قال عيسى: من أجرؤنا على كشف المنديل عن هذه السفرة وأوثقنا بنفسه وأحسننا بلاء عند ربه فليكشف عن هذه الآية حتى نراها، ونحمد ربنا، ونذكر باسمه، ونأكل من رزقه الذي رزقنا، فقال الحواريون: يا روح الله وكلمته، أنت أولانا بذلك وأحقنا بالكشف عنها.
فقام عيسى: فاستأنف وضوءًا جديدًا، ثم دخل مصلاه فصلى بذلك ركعات، ثم بكى طويلًا ودعا الله أن يأذن له في الكشف عنها، ويجعل له ولقومه فيها بركة ورزقًا، ثم انصرف وجلس إلى السفرة، وتناول المنديل وقال: بسم الله خير الرازقين، وكشف عن السفرة، وإذا هو عليها سمكة ضخمة مشوية ليس عليها بواسير، وليس في جوفها سوك، يسيل منها السمن سيلًا، قد نضد حولها بقول من كل صنف غير الكراث، وعند رأسها خل، وعند ذنبها ملح، وحول البقول خمسة أرغفة على واحد منها زيتون، وعلى الآخر تمرات، وعلى الآخر خمس رمانات، فقال شمعون رأس الحواريين لعيسى: يا روح الله وكلمته أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الجنة؟ فقال: أما آن لكم أن تعتبروا بما ترون من الآيات وتنتهوا عن تنقير المسائل، ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا في سبب هذه الآية.
فقال شمعون: لا وإله إسرائيل ما أردت بها سوءًا يا ابن الصديقة. فقال عيسى: ليس شيء مما ترون عليها من طعام الجنة ولا من طعام الدنيا، إنما هو شيء ابتدعه الله في الهواء بالقدرة الغالبة القاهرة، فقال له كن فكان أسرع من طرفة عين، فكلوا مما سألتم بسم الله، واحمدوا عليه ربكم يمدكم منه ويزدكم، فإنه بديع قادر شاكر.
فقال يا روح الله وكلمته إنا نحب أن ترينا آية في هذه الآية. فقال عيسى: سبحان الله..! أما اكتفيتم بما رأيتم من هذه الآية حتى تسألوا فيها آية أخرى! ثم أقبل عيسى على السمكة فقال: يا سمكة عودي بإذن الله حية كما كنت، فأحياها الله بقدرته فاضطربت وعادت بإذن الله حية طرية تلمظ كما يتلمظ الأسد، تدور عيناها لها بصيص، وعادت عليها بواسيرها، ففزع القوم منها وانحاسوا، فلما رأى عيسى ذلك منهم قال: ما لكم تسألون الآية فإذا أراكموها ربكم كرهتموها، ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا بما تصنعون! يا سمكة عودي بإذن الله كما كنت، فعادت بإذن الله مشوية كما كانت في خلقها الأول.
فقالوا لعيسى: كن أنت يا روح الله الذي تبدأ بالأكل منها ثم نحن بعد. فقال: معاذ الله من ذلك، يبدأ بالأكل كل من طلبها. فلما رأى الحواريون وأصحابهم امتناع نبيهم منها خافوا أن يكون نزولها سخطة وفي أكلها مثلة فتحاموها، فلما رأى ذلك عيسى دعا لها الفقراء والزمنى وقال: كلوا من رزق ربكم ودعوة نبيكم، واحمدوا الله الذي أنزلها لكم، يكون مهناها لكم وعقوبتها على غيركم، وافتتحوا أكلكم بسم الله واختتموه بحمد الله ففعلوا، فأكل منها ألف وثلثمائة إنسان بين رجل وامرأة، يصدرون عنها كل واحد منهم شبعان يتجشأ.
ونظر عيسى والحواريون فإذا ما عليها كهيئة إذ نزلت من السماء لم ينتقص منه شيء، ثم إنها رفعت إلى السماء وهم ينظرون فاستغنى كل فقير أكل منها، وبريء كل زمن منهم أكل منها، فلم يزالوا أغنياء صحاحًا حتى خرجوا من الدنيا، وندم الحواريون وأصحابهم الذين أبوا أن يأكلوا منها ندامة سألت منها أشفارهم، وبقيت حسرتها في قلوبهم إلى يوم الممات. قال: فكانت المائدة إذا نزلت بعد ذلك أقبلت بنو إسرائيل إليها من كل مكان يسعون يزاحم بعضهم بعضًا، الأغنياء والفقراء والنساء والصغار والكبار والأصحاء والمرضى يركب بعضهم بعضًا، فلما رأى عيسى ذلك جعلها نوبًا بينهم، فكانت تنزل يومًا ولا تنزل يومًا، فلبثوا في ذلك أربعين يومًا تنزل عليهم غبًا عند ارتفاع الضحى، فلا تزال موضوعة يؤكل منها، حتى إذا قالوا ارتفعت عنهم بإذن الله إلى جو السماء وهم ينظرون إلى ظلها في الأرض حتى توارى عنهم.