فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثالثها- أنه أثبت أنه مستحيل قوله لأنه ليس بحق. {إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب}.
هذه الجملة تأكيد لنفى ما سئل عنه، وهو أنه قال: {اتخذوني وأمي إلهين من دون الله}.
إذ إنه لو كان قد حصل لعلمه الله تعالى، وما دام لم يعلمه، فهو لم يقع، ولا يمكن أن يقع؟ لأن الله لا يغيب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء، وفى هذا النص فوق دلالته على عدم الوقوع بأبلغ تعبير إثبات شمول علم الله تعالى، وإنه بكل شيء محيط، وقد زكى هذا المعنى الجليل بقوله: (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك. ففى هذا النص إثبات قصور علم الإنسان بجوار علم الله تعالى، وإثبات أن علم الله تعالى شامل لمطويات القلوب، وعلم الإنسان مقصور على ما يظهر من الجوارح فالله يعلم ما يخفى في الصدور، والإنسان لا يعلم إلا ما هو ظاهر محسوس، أو ما يكشف عنه الظاهر المحسوس، فلا يعلم ما الخفى إلا ما يظهره الجلى، والنص يدل على نفى الألوهية من جهة ثالثة، لأن علم الله شامل لكل شيء لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وعلم عيسى من النوع القاصر الذي لا يحيط إلا بالمحسوس أو ما ينبى عنه المحسوس، فهو نفى للألوهية من طريق العلم، ثم هو موازنة من جهة ثانية بين نفس الإنسان المكشوفة لخالقه، وذات الله تعالى التي لا يعلم البشر عنها إلا وحدانيتها، وما يعلمه للإنسان منها.
وقد أكد عيسى علم الله تعالى المحيط الذي يعلو عن الصفات البشر بقوله: {إنك أنت علام الغيوب} أى إنك يا صاحب الجلالة تقدست أسماؤك تعلم الأمور المغيبة عن حسنا، والمكنونة في المستقبل علما دقيقا لا يخفى منه شيء عليك، ولذلك عبر بصيغة المبالغة الدالة على الكثرة، وعلى الدقة وعلى الإحاطة التامة الكاملة وأنه سبحانه وتعالى يعلم ما بطن كعلمه بما ظهر، فإن ما اظهرا وما بطن هو بالنسبة لنا نحن بنى الإنسان، وأما بالنسبة لله تعالى فإن الجميع مكشوف غير مستور.
وقد أكد علم الله تعالى للغيب بأربعة مؤكدات: أولها- بـ«إن» المؤكدة.
ثانيها- بالضمير المؤكد في قوله تعالى: {أنت}.
وثالثها- بصيغة المبالغة التي تعد مبالغة بالنسبة للعبيد، ولكنها حقيقة فوق ما نتصور بالنسبة لله تعالى العليم الحكيم، وإن هذا أقصى ما تتسع له لغتنا القاصرة عن التعبير عن الحقائق الإلهية.
رابعها- جمع الغيوب، فلم يفرد الغيب، بل قال الغيوب بكل أنواعها ما وقع في الماضى، وما يقع في المستقبل وما يتعلق بالكائنات كلها الروحانى منها والمادى، والكل خلقه سبحانه، من طيور في الهواء، وأسماك في الماء، وملائكة، وجن، وإنس، وهكذا كل ما هو غيب في ذاته، أو بالنسبة للبشر، أو لطوائف منهم. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)}.
المراد من هذا السؤال إظهار براءة ساحته عما نسب إليه من الدعاء إلى القول بالتثليث، فهذا ليس خطاب تعنيف بل هو سؤال تشريف.
ثم إن عيسى عليه السلام حفظ أدب الخطاب فلم يُزَكِّ نَفْسَه، بل بدأ بالثناء على الحق سبحانه فقال: تنزيهًا لك! إنني أنزهك عما لا يليق بوصفك.
ثم قال: {مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقٍّ} أي إني إن كنت مخصوصًا مِنْ قِبَلِكَ بالرسالة- وشرط النبوة العصمة- فكيف يجوز أن أفعل ما لا يجوز لي؟
ثم إني {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ}: كان واثقًا بأن الحقَّ سبحانه عليم بنزاهته من تلك القالة.
{تَعْلَمُ مَا في نَفْسِى}: أي علمك محيطٌ بكل معلوم.
{وَلاَ أَعْلَمُ مَا في نَفْسِكَ} أي لا أطلع على غيبك إلا بقدر ما تُعَرِّفُني بإعلامك. {إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ} الذي لا يخرج معلوم عن علمك، ولا مقدور عن حكمك. اهـ.

.من فوائد أبي حيان في الآية:

قال رحمه الله:
{وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله}.
قال أبو عبيدة {إذ} زائدة وقال غيره بمعنى إذا والظاهر أنها على أصل وضعها وأن ما بعدها من الفعل الماضي قد وقع ولا يؤول بيقول.
قال السدي وغيره كان هذا القول من الله تعالى حين رفع عيسى إليه وقالت النصارى ما قالت وادعت أن عيسى أمرهم بذلك واختاره الطبري.
وقال ابن عباس وقتادة والجمهور: هذا القول من الله تعالى إنما هو يوم القيامة يقول له على رؤوس الخلائق فيعلم الكفار أن ما كانوا عليه باطل، فيقع التجوز في استعمال {إذ} بمعنى إذا والماضي بعده بمعنى المستقبل وفي إيلاء الاستفهام الاسم، ومجيء الفعل بعده دلالة على صدور الفعل في الوجود لكن وقع الاستفهام عن النسبة أكان هذا الفعل الواقع صادرًا عن المخاطب أم ليس بصادر عنه، بيان ذلك أنك تقول: أضربت زيدًا، فهذا استفهام هل صدر منك ضرب لزيد أم لا، ولا إشعار فيه بأن ضرب زيد قد وقع.
فإذا قلت أنت ضربت زيدًا كان الضرب قد وقع بزيد، لكنك استفهمت عن إسناده للمخاطب، وهذه مسألة بيانية نص على ذلك أبو الحسن الأخفش.
وذكر المفسرون أنه لم يقل أحد من النصارى بإلهية مريم، فكيف قيل {إلهين}، وأجابوا بأنهم لما قالوا لم تلد بشرًا وإنما ولدت إلهًا، لزمهم أن يقولوا من حيث البغضية بإلهية من ولدته، فصاروا بمثابة من قال: انتهى.
والظاهر صدور هذا القول في الوجود لا من عيسى، ولا يلزم من صدور القول وجود الاتخاذ.
{قال سبحانك} أي تنزيهًا لك.
قال ابن عطية: عن أن يقال هذا وينطق به؛ وقال الزمخشري من أن يكون لك شريك، والظاهر الأول لقوله بعد {ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق} قال أبو روق: لما سمع عيسى هذا المقال ارتعدت مفاصله وانفجرت من أصل كل شعرة عين من دم، فقال عند ذلك مجيبًا لله تعالى: {سبحانك} تنزيهًا وتعظيمًا لك وبراءة لك من السوء.
{ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق} هذا نفي يعضده دليل العقل فيمتنع عقلًا ادعاء بشر محدث الإلهية و{بحق} خبر ليس أي ليس مستحقًا وأجازوا في {لي} أن يكون تبيينًا وأن يكون صلة صفة لقوله: {بحق} لي تقدم فصار حالًا أي بحق لي، ويظهر أنه يتعلق {بحق} لأن الباء زائدة، وحق بمعنى مستحقّ أي ما ليس مستحقًا، وأجاز بعضهم أن يكون الكلام قد تم عند قوله: {ما ليس لي} وجعل {بحق} متعلقًا بعلمته الذي هو جواب الشرط، ورد ذلك بادعاء التقديم والتأخير فيما ظاهره خلاف ذلك، ولا يصار إلى التقديم والتأخير إلا لمعنى يقتضي ذلك، أو بتوقيف، أو فيما لا يمكن فيه إلا ذلك؛ انتهى هذا القول ورده، ويمتنع أن يتعلق بعلميته لأنه لا يتقدم على الشرط شيء من معمولات فعل الشرط ولا من معمولات جوابه، ووقف نافع وغيره من القراء على قوله: {بحق} وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
{إن كنت قلته فقد علمته} قال أبو عبد الله الرازي: هذا مقام خضوع وتواضع، فقدم ناسخ نفي القول عنه، ولم يقل ما قلته بل فوّض ذلك إلى علمه المحيط بالكلّ وهذه مبالغة في الأدب وفي إظهار الذلة والمسكنة في حضرة الجلال، وتفويض الأمر بالكلية إلى الحق سبحانه، انتهى، وفيه بعض تلخيص.
{تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك} خصّ النفس لأنها مظنة الكتم والانطواء على المعلومات.
قيل: المعنى: تعلم ما أخفي ولا أعلم ما تخفي.
وقيل: تعلم ما عندي ولا أعلم ما عندك.
وقيل: تعلم ما كان في الدنيا ولا أعلم ما تقول وتفعل.
وقيل: تعلم ما أريد ولا أعلم ما تريد.
وقيل: تعلم سرّي ولا أعلم سرّك.
وقال الزمخشري: تعلم معلومي ولا أعلم معلومك وأتى بقوله: {ما في نفسك} على جهة المقابلة والتشاكل لقوله: {ما في نفسي} فهو شبيه بقوله: {ومكروا ومكر الله} وقوله: {إنما نحن مستهزئون الله يستهزئ بهم} ومن زعم أن النفس تطلق على ذات الشيء وحقيقته، كان المعنى عنده تعلم كنه ذاتي ولا أعلم كنه ذاتك، وقد استدلت المجسمة بقوله: {تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك} قالوا: النفس هي الشخص وذلك يقتضي كونه جسمًا.
تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
{إنك أنت علام الغيوب} هذا تقرير للجملتين معًا لأن ما انطوت عليه النفوس من جملة الغيوب ولأن ما يعلمه {علام الغيوب} لا ينتهي إليه أحد، فإذا كنت أنت المختص بعلم الغيب فلا علم لي بالغيب فكيف تكون لي الألوهية وخرج الترمذي عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فلقاه الله: {سبحانك ما يكون لي ان أقول ما ليس لي بحق} الآية كلها.
قال أبو عيسى: حديث حسن صحيح. اهـ.

.من فوائد الألوسي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى عِيسَى ابن مَرْيَمَ}.
عطف على {إِذْ قَالَ الحواريون} [المائدة: 112] منصوب بما نصبه من الفعل المضمر أو بمضمر مستقل معطوف على ذلك.
وصيغة الماضي لما مضى.
والمراد يقول له عليه الصلاة والسلام: {أأَنْتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين مِن دُونِ الله} يوم القيامة توبيخًا للكفرة وتبكيتًا لهم باقراره عليه الصلاة والسلام على رؤوس الأشهاد بالعبودية وأمرهم بعبادته عز وجل.
وقيل: قاله سبحانه له عليه الصلاة والسلام في الدنيا وكان ذلك بعد الغروب فصلى عليه الصلاة والسلام المغرب ثلاث ركعات شكرًا لله تعالى حين خاطبه بذلك، وكان الأولى: لنفي الألوهية عن نفسه.
والثانية: لنفيها عن أمه.
والثالثة: لإثباتها لله عز وجل.
فهو عليه الصلاة والسلام أول من صلى المغرب ولا يخفى أن ما سيأتي إن شاء الله تعالى في الآيات يأبى ذلك ولا يصح أيضًا خبر فيه.
ثم إنه ليس مدار أصل الكلام عند بعض المحققين أن القول متيقن والاستفهام لتعيين القائل كما هو المتبادر من إيلاء الهمزة المبتدأ على الاستعمال المشهور وعليه قوله تعالى: {قَالُواْ ءأَنْتَ فَعَلْتَ هذا} [الأنبياء: 62] ونحوه بل على أن المتيقن هو الاتخاذ.
والاستفهام لتعيين أنه بأمره عليه الصلاة والسلام أو أمر من تلقاء أنفسهم كما في قوله تعالى: {أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى هَؤُلاَء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل قَالُواْ} [الفرقان: 17] وقال بعض: لما كان القول قد وقع من رؤسائهم في الضلال كان مقررًا كالاتخاذ فالاستفهام لتعيين من صدر منه فلذا قدم المسند إليه، وقيل: التقديم لتقوية النسبة لأنها بعيدة عن القبول بحيث لا تتوجه نفس السامع إلى أن المقصود ظاهرها حتى يجيب على طبقه فاحتاجت إلى التقوية حتى يتوجه إليها المستفهم عنها، وفيه كمال توبيخ الكفرة بنسبة هذا القول إليه.