فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



لقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أوصاف القوافل التي رآها في طريق العودة، إذن كان الإسراء آية أرضية، أما الآية السماوية وهي المعراج فجاءت التزامًا وكذلك أمر رفع عيسى عليه السلام، فمن يرى أن ذلك جاء من طلاقة قدرة الله فهو يصدق ذلك. ومن يقف عقله نقول له: إن وقوف عقلك لا يخرجك عن الإيمان واليقين. وعندما نتأمل بالدقة اللغوية كلمة {توفيتني} نجد «توفاه» قد تعني أماته، فالحق سبحانه يقول: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11].
والحق سبحانه وتعالى يقول أيضًا: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ التي قضى عَلَيْهَا الموت وَيُرْسِلُ الأخرى إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} [الزمر: 42].
إنه سبحانه يسمي النوم وفاة، وسماه- أيضًا- موتًا.
وهو أمر فيه إرسال وفيه قبض. ومعنى الموت في بعض مظاهره غياب حس الحياة، والذي ينام إنما يغيب عن حس الحياة، إذن فمن الممكن أن تكون الوفاة بمعنى النوم. ويقال أيضًا عن الدِّين توفيت دَيني عند فلان أي أخذت دَيني كاملًا غير منقوص. وكذلك أمر قتل المسيح قال فيه الحق جل وعلا القول الفصل: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157].
ونعرف أن الموت يقابله القتل أيضًا، فالحق يقول: {أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ} [آل عمران: 144].
فالموت خروج الروح مع بقاء الأبعاض سليمة، أما القتل فهو إحداث إتلاف في البنية فتذهب الروح. وقد قال الحق على لسان المسيح: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي} أي أخذتني كاملًا غير منقوص. وهذه مسألة لا تنقض الرفع. ونعلم أن كل ذلك سيكون مجالًا للحوار بين عيسى ابن مريم والحق سبحانه يوم المشهد الأعظم جاء به القرآن لنا ليخبرنا بالذي يُثَبِّت صدق الإيمان.
إن عيسى عليه السلام يقول عن نفسه: إنه مجرد شهيد على قومه في زمن وجوده بينهم، ولكن بعد أن رفعه الله إليه فالرقابة على القوم تكون لله، فالحق سبحانه شهيد دائمًا ورقيب دائمًا، ولكن عيسى ببشريته يقدر أن يشهد فقط، والله القادر وحده على أن يشهد ويغير ويمنع. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)}.
أخرج الترمذي وصححه والنسائي وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والديلمي عن أبي هريرة قال: يلقي الله عيسى والله لقاه في قوله: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} قال أبو هريرة «عن النبي صلى الله عليه وسلم: فلقاه الله: {سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق}». الآية كلها.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ميسرة قال: لما {قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} أرعد كل مفصل منه حتى وقع.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن بن صالح قال: لما قال: {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} زال كل مفصل له من مكانه خيفة.
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} متى يكون ذلك؟ قال: يوم القيامة ألا ترى أنه يقول: {هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم} [المائدة: 119].
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} قال: لما رفع الله عيسى بن مريم إليه قالت النصارى ما قالت، وزعموا أن عيسى أمرهم بذلك، فسأله عن قوله: {قال سبحانك ما يكون لي} إلى قوله: {وأنت على كل شيء شهيد}.
وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن طاوس في هذه الآية قال: احتج عيسى وربه والله وفقه {قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق}.
وأخرج أبو الشيخ من طريق طاوس عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن عيسى حاجه ربه فحاج عيسى ربه، والله لقاه حجته بقوله: {أأنت قلت للناس...} الآية».
وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول «إذا كان يوم القيامة جمعت الأمم ودعي كل أناس بإمامهم، قال: ويدعى عيسى فيقول لعيسى {يا عيسى أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} فيقول: {سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق} إلى قوله: {يوم ينفع الصادقين صدقهم}».
وأخرج أبو الشيخ عن ابن جريج {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} والناس يسمعون، فراجعه بما قد رأيت، فأقر له بالعبودية على نفسه، فعلم من كان يقول في عيسى ما كان يقول أنه إنما كان يقول باطلًا.
وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس في قوله: {أن اعبدوا الله ربي وربكم} قال: سيدي وسيدكم.
وأخرج الطبراني عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «وكنت عليهم شهيدًا ما دمت فيهم».
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «يا أيها الناس إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلًا، ثم قرأ {كما بدأنا أول خلق نعيده وعدًا علينا إنا كنا فاعلين} [الأنبياء: 104] ثم قال: ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم، ألا وإنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا رب أصحابي أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح {وكنت عليهم شهيدًا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم} فيقال: أما هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم مذ فارقتهم».
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {كنت أنت الرقيب عليهم} قال: الحفيظ.
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {كنت أنت الرقيب} قال: الحفيظ. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله تعالى: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ}: هذا استثناءٌ مفرغ فإنَّ «ما» منصوبةٌ بالقول؛ لأنها وما في حيِّزها في تأويلِ مقول.
وقدَّر أبو البقاء القول بمعنى الذكر والتأدية.
و«ما» يجوزُ أن تكون موصولةً أو نكرةً موصوفةً.
قوله تعالى: {أن اعبُدوا} في «أنْ» سبعةُ أوجهٍ:
أحدها: أنها مصدرية في محلِّ جر على البدل من الهاء في «به» والتقديرُ: ما قلتُ إلا ما أمرتني بأن اعبدوا، وهذا الوجه سيأتي عليه اعتراض.
الثاني: أنها في محلِّ نصبٍ بإضمار «أعني»، أي: إنه فسَّر ذلك المأمور به.
الثالث: أنه في محلِّ نصب على البدل من محلِّ «به» في {ما أمرتني به} لأن محلَّ المجرور نصب.
الرابع: أن موضعها رفعٌ على إضمار مبتدأ وهو قريبٌ في المعنى من النصب على البدلِ.
الخامس: أنها في محل جر لأنها عطف بيان على الهاء في به.
السادس: أنها بدلٌ من «ما» نفسها أي: ما قلت لهم إلا أن اعبدوا.
السابع: أنَّ «أنْ» تفسيرية، أجازه ابن عطية والحوفي ومكي.
وممن ذهب إلى جواز أنَّ «أنْ» بدلٌ مِنْ «ما» فتكونُ منصوبة المحلِّ أو من الهاء فتكونُ مجرورته أبو إسحق الزجاج، وأجاز أيضًا أن تكون تفسيريةً لا محلَّ لها.
وهذه الأوجهُ قد منع بعضها الزمخشري، وأبو البقاء منع منها وجهًا واحدًا وهو أن تكون تفسيرية، أما الزمخشري فإنه منع أن تكون تفسيرية إلا بتأويل ذكره وسيأتي، وبدلًا من «ما» أو من الهاء في «به».
قال رحمه الله: «أنْ» في قوله: {أن اعبدوا الله} إنْ جعلتها مفسرةً لم يكن لها بُدٌّ من مفسِّر، والمفسِّر: إما أن يكون فعل القول أو فعل الأمر، وكلاهما لا وجه له؛ أما فعل القول فلأنه يُحْكى بعده الجمل ولا يتوسَّط بينه وبين محكيِّه حرفُ تفسير، وأما فعل الأمر فمستندٌ إلى ضمير الله تعالى، فلو فسَّرْتَه بـ {اعبدوا الله ربي وربكم} لم يستقم لأن الله لا يقول: اعبدوا الله ربي وربكم، وإن جعلتها بدلًا لم يخلُ من أن تجعلها بدلًا من «ما» في {ما أمرتني به}، أو من الهاء في «به»، وكلاهما غيرُ مستقيم؛ لأنَّ البدل هو الذي يقوم مقام المبدلِ منه، ولا يُقال: ما قلتُ لهم إلا أن اعبدوا الله، أي: ما قلتُ لهم إلا عبادته لأنَّ العبادة لا تقال، وكذلك لو جعلتها بدلًا من الهاء، لأنك لو أقَمْتَ «أن اعبدوا» مقام الهاء فقلت: إلا ما أمرتني بأن اعبدوا الله لبقي الموصولُ بغير راجعٍ إليه من صلته، فإن قلت: كيف تصنع؟ قلت: يُحْمل فعلُ القول على معناه، لأنَّ معنى {ما قلت لهم إلا ما أمرتني به}: ما أمرتُهم إلا بما أمرتني به، حتى يستقيم تفسيره بـ {أن اعبدوا الله ربي وربكم}، ويجوزُ أن تكون «أنْ» موصولةً عطفًا على بيانِ الهاء لا بدلًا.
وتعقَّب عليه أبو حيان كلامه فقال: أمَّا قوله وأمَّا فعلُ الأمر إلى آخر المنع وقوله: «لأنَّ الله لا يقول اعبدوا الله ربي وربكم» فإنما لم يستقمْ لأنه جعل الجملة وما بعدها مضمومةً إلى فعل الأمر، ويستقيم أن يكون فعلُ الأمر مفسَّرًا بقوله: {اعبدوا الله} ويكون {ربي وربكم} من كلام عيسى على إضمار «أعني» أي: «أعني ربي وربكم»، لا على الصفة التي فهمها الزمخشري فلم يستقم ذلك عنده، وأمّا قوله: «لأن العبادة لا تُقال» فصحيحٌ، لكن يَصِحُّ ذلك على حذفِ مضاف أي: ما قلت لهم إلا القول الذي أمرتني به قول عبادة الله تبارك وتعالى أي: القولَ المتضمن عبادة الله تبارك وتعالى، وأمَّا قوله لبقي الموصول بغير راجع إليه من صلته «فلا يلزمُ في كل بدل أن يَحُلَّ محلَّ المبدل منه، ألا ترى إلى تجويز النحويين: «زيد مررت به أبي عبد الله» ولو قلت: «زيدٌ مررتُ بأبي عبد الله» لم يجز إلا على رأي الأخفش.
وأما قوله: «عطفًا على بيان الهاء» ففيه بُعْد، لأن عطفَ البيانِ أكثرُه بالجوامدِ الأعلامِ.
وما اختاره الزمخشري وجوَّزه غيرُه لا يَصِحُّ، لأنها جاءت بعد «إلا»، وكلُّ ما كان بعد «إلا» المستثنى بها فلابد أن يكون له موضعٌ من الإعراب، و«أن» التفسيرية لا موضعَ لها من الإعراب. انتهى.
قال شهاب الدين: أمَّا قوله: «إن ربي وربكم من كلام عيسى» ففي غاية ما يكون من البُعد عن الأفهام، وكيف يفهم ذلك الزمخشري والسياق والمعنى يقودان إلى أنَّ {ربي} تابعٌ للجلالة؟ لا يتبادر للذهن- بل لا يُقْبل- إلا ذلك، وهذا أشدُّ من قولهم «يؤدي إلى تهيئتة العامل للعمل وقطعه عنه» فآل قولُ الشيخ إلى أنَّ {اعبدوا الله} من كلام الله تعالى و{ربي وربكم} من كلام عيسى، وكلاهما مفسِّرٌ لـ «أمرتَ» المسند للباري تعالى.
وأمَّا قوله: «يَصِحُّ ذلك على حذف مضاف» ففيه بعض جودة، وأما قوله: «إنَّ حلول البدل محلَّ المبدل منه غيرُ لازم» واستشهاده بما ذكر فغيرُ مُسَلَّم، لأنَّ هذا معارضٌ بنصِّهم، على أنه لا يجوز «جاء الذي مررت به أبي عبد الله» بجرِّ «عبد الله» بدلًا من الهاء، وعلَّلوه بأنه يلزمُ بقاءُ الموصول بلا عائدٍ، مع أنَّ لنا أيضًا في الربط بالظاهر في الصلة خلافًا قدَّمْتُ التنبيه عليه، ويكفينا كثرةُ قولهم في مسائل: «لا يجوزُ هذا لأن البدل يَحُلُّ محل المبدل منه» فيجعلون ذلك علةً مانعةً، يعرف ذلك من اطلع على كلامهم، قال شهاب الدين رحمه الله: فلولا خوفُ الإطالة لأوردْتُ منه مسائل شتى.