فصل: تفسير الآية رقم (118):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأمَّا قوله: «وكلُّ ما كان بعد» إلا «المستثنى به إلى آخره» فكلامٌ صحيح لأنها إيجابٌ بعد نفي فيستدعي تسلُّط ما قبلها على ما بعدها.
ويجوز في «أنْ» الكسرُ على أصل التقاء الساكنين والضمُّ على الإتباع، وقد تقدَّم تحقيقُه ونسبتُه إلى من قرأ به في قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ} في البقرة [الآية 173].
و{ربي} نعت أو بدل أو بيان مقطوعٌ عن الإتباع رفعًا أو نصبًا، فهذه خمسة أوجهٍ تقدَّم إيضاحُها.
قوله: {شهيدًا} خبر {كان}، و{عليهم} متعلق به، و{ما} مصدريةٌ ظرفيةٌ أي: تتقدَّر بمصدر مضاف إليه زمان، و«دام» صلتها، ويجوز فيها التمامُ والنقصان، فإن كانت تامةً كان معناها الإقامة، ويكون {فيهم} متعلقًا بها، ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوف على أنه حال، والمعنى: وكنتُ عليهم شهيدًا مدة إقامتي فيهم، فلم يحتج هنا إلى منصوب، وتكون حينئذٍ متصرفةً، وإن كانت الناقصة لزمت لفظ المضيِّ ولم تكتفِ بمرفوع، فيكون {فيهم} في محلِّ نصب خبرًا لها، والتقديرُ: مدة دوامي مستقرًا فيهم، وقد تقدم أنه يقال: «دِمْتُ تدام» كخِفْتُ تخاف.
قوله: {كنت أنت الرقيب عليهم} يجوز في {أنت} أن تكون فصلًا وأن تكون تأكيدًا.
وقرئ {الرقيبُ} بالرفع على أنه خبر لـ {أنت} والجملةُ خبرٌ لـ {كان}، كقول القائل: [الطويل]
-...... ** وُكُنْتَ عَلَيْهَا بِالمَلاَ أنْتَ أقْدَرُ

وقد تقدَّم اشتقاق {الرقيب}.
و{عليهم} معلَّقٌ به.
و{على كلِّ شيء} متعلِّقٌ بـ {شهيد} قُدِّمَ للفاصلة. اهـ. باختصار.

.تفسير الآية رقم (118):

قوله تعالى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما كان هذا الذي سلف كله سؤالًا وجوابًا وإخبارًا حمد الله تعالى وثناء عليه بما هو أهله بالتنزيه له والاعتراف بحقه والشهادة له بعلم الخفايا والقدرة والحكمة وغير ذلك من صفات الجلال والجمال، وكان هذا السؤال يفهم إرادة التعذيب للمسؤول عنهم مشيرًا إلى الشفاعة فيهم على وجه الحمد لله سبحانه وتعالى والثناء الجميل عليه لأن العذاب ولو للمطيع عدل، والعفو عن المعاصي بأيّ ذنب كان فضل مطلقًا، وغفران الشرك ليس ممتنعًا بالذات، قال: {إن تعذبهم} أي القائلين بهذا القول {فإنهم عبادك} أي فأنت جدير بأن ترحمهم ولا اعتراض عليك في عذابهم لأن كل حكمك عدل {وإن تغفر لهم} أي تمح ذنوبهم عينًا وأثرًا {فإنك أنت} أي خاصة أنت {العزيز} فلا أحد يعترض عليك ولا ينسبك إلى وهن {الحكيم} فلا تفعل شيئًا إلا في أعلى درج الإحكام، لا قدرة لأحد على تعقيبه ولا الاعتراض على شيء منه. اهـ.

.قال الفخر:

معنى الآية ظاهر، وفيه سؤال: وهو أنه كيف جاز لعيسى عليه السلام أن يقول: {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ} والله لا يغفر الشرك.
والجواب عنه من وجوه: الأول: أنه تعالى لما قال لعيسى عليه السلام: {أأنت قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين مِن دُونِ الله} [المائدة: 116] علم أن قومًا من النصارى حكوا هذا الكلام عنه، والحاكي لهذا الكفر عنه لا يكون كافرًا بل يكون مذنبًا حيث كذب في هذه الحكاية وغفران الذنب جائز، فلهذا المعنى: طلب المغفرة من الله تعالى، والثاني: أنه يجوز على مذهبنا من الله تعالى أن يدخل الكفار الجنة وأن يدخل الزُّهّاد والعُبّاد النار، لأن الملك ملكه ولا اعتراض لأحد عليه، فذكر عيسى هذا الكلام ومقصوده منه تفويض الأمور كلها إلى الله، وترك التعرض والاعتراض بالكلية، ولذلك ختم الكلام بقوله: {فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} يعني أنت قادر على ما تريد، حكيم في كل ما تفعل لا اعتراض لأحد عليك، فمن أنا والخوض في أحوال الربوبية، وقوله إن الله لا يغفر الشرك فنقول: غفرانه جائز عندنا، وعند جمهور البصريين من المعتزلة قالوا: لأن العقاب حق الله على المذنب وفي إسقاطه منفعة للمذنب، وليس في إسقاطه على الله مضرة، فوجب أن يكون حسنًا بل دلّ الدليل السمعي في شرعنا على أنه لا يقع، فلعل هذا الدليل السمعي ما كان موجودًا في شرع عيسى عليه السلام.
الوجه الثالث: في الجواب أن القوم قالوا هذا الكفر فعيسى عليه السلام جوّز أن يكون بعضهم قد تاب عنه، فقال: {إن تعذبهم} علمت أن أولئك المعذبين ماتوا على الكفر فلك أن تعذبهم بسبب أنهم عبادك، وأنت قد حكمت على كل من كفر من عبادك بالعقوبة، وإن تغفر لهم علمت أنهم تابوا عن الكفر، وأنت حكمت على من تاب عن الكفر بالمغفرة.
الوجه الرابع: أنا ذكرنا أن من الناس من قال: إن قول الله تعالى لعيسى {أَءنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين مِن دُونِ الله} [المائدة: 116] إنما كان عند رفعه إلى السماء لا في يوم القيامة، وعلى هذا القول فالجواب سهل لأن قوله: {إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} يعني إن توفيتهم على هذا الكفر وعذبتهم فإنهم عبادك فلك ذاك، وان أخرجتهم بتوفيقك من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان، وغفرت لهم ما سلف منهم فلك أيضًا ذاك، وعلى هذا التقدير فلا إشكال. اهـ.

.قال السمرقندي:

فإن قيل: وكيف سأل المغفرة للكفار.
قيل له: لأن عيسى علم أن بعضهم قد تاب ورجع عن ذلك.
فقال: {إِن تُعَذّبْهُمْ} يعني: الذين ماتوا على الكفر، فإنهم عبادك وأنت القادر عليهم {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ} يعني: الذين أسلموا ورجعوا عن ذلك.
وقال بعضهم: احتمل أنه لم يكن في كتابه {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ ضَلَّ ضلالا بَعِيدًا} [النساء: 116] فلهذا المعنى دعا لهم، ولكن التأويل الأول أحسن.
ويقال: {إن تَغْفِرْ لَهُمْ} يعني: لكذبهم الذي قالوا عليّ خاصة، لا لشركهم.
وهذا التأويل ليس بسديد، والأول أحسن.
وروي عن أبي ذر الغفاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ هذه الآية ذات ليلة، فردّدها حتى أصبح: {إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ} الآية وقال بعضهم: في الآية تقديم وتأخير ومعناه: {إِن تُعَذّبْهُمْ} فإنك أنت العزيز الحكيم {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ} فإنهم عبادك. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه قاله على وجه الاستعطاف لهم والرأفة بهم كما يستعطف العبد سيده.
والثاني: أنه قاله على وجه التسليم لأمر ربه والاستجارة من عذابه. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {إِن تعذبهم فإنهم عبادك} قال الحسن، وأبو العالية: إِن تعذبهم، فبإقامتهم على كفرهم، وإِن تغفر لهم، فبتوبة كانت منهم.
وقال الزجاج: علم عيسى أن منهم من آمن، ومنهم من أقام على الكفر، فقال في جملتهم: {إِن تعذبهم} أي: إِن تعذب من كفر منهم فإنهم عبادك، وأنت العادل فيهم، لأنك قد أوضحت لهم الحق، فكفروا، وإِن تغفر لهم، أي: وإِن تغفر لمن أقلع منهم، وآمَن، فذلك تفضّل منك، لأنه قد كان لك أن لا تغفر لهم بعد عظيم فريتهم، وأنت في مغفرتك لهم عزيز، لا يمتنع عليك ما تريد، حكيم في ذلك.
وقال ابن الأنباري: معنى الكلام: لا ينبغي لأحدٍ أن يعترض عليك، فإن عذبتهم، فلا اعتراض عليك، وإِن غفرت لهم- ولست فاعلًا إِذا ماتوا على الكفر- فلا اعتراض عليك.
وقال غيره: العفو لا ينقص عزّك، ولا يخرج من حكمك.
وقد روى أبو ذر قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم قيام ليلةٍ بآيةٍ يردِّدها: {إِن تعذبهم فإنهم عبادك وإِن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم}. اهـ.

.قال الخازن:

قوله عز وجل إخبارًا عن عيسى عليه السلام {إن تعذبهم} يعني إن تعذب هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة بأن تميتهم على كفرهم {فإنهم عبادك} لا يقدرون على دفع ضر نزل بهم ولا جلب نفع لأنفسهم وأنت العادل فيهم لأنك أوضحت لهم طريق الحق فرجعوا عنه وكفروا {وإن تغفر لهم} يعني لمن تاب من كفره منهم بأن تهديه إلى الإيمان فإن ذلك بفضلك ورحمتك {فإنك أنت العزيز} يعني في الانتقام ممن تريد الانتقام منه لا يمتنع عليك ما تريده {الحكيم} في أفعالك كلها وهذا التفسير إنما يصح على قول السدي لأنه قال كان سؤال الله عز وجل لعيسى عليه السلام حين رفعه إلى السماء قبل يوم القيامة.
أما على قول جمهور المفسرين إن هذا السؤال إنما يقع يوم القيامة ففي قوله: {وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} إشكال وهو أنه يليق بعيسى عليه السلام طلب المغفرة لهم مع علمه بأن الله تعالى لا يغفر لمن يموت على الشرك والجواب عن هذا الأشكال من وجوه أحدها أنه ليس هذا على طريق المغفرة ولو كان كذلك لقال فإنك أنت الغفور الرحيم ولكنه على تسليم الأمر إلى الله وتفويضه إلى مراده فيهم لأنه العزيز في ملكه الحكيم في فعله ويجوز في حكمته وسعة مغفرته ورحمته أن يغفر للكفار، لكنه تعالى أخبر أنه لا يفعل ذلك بقوله: {إن الله لا يغفر أن يشرك به} الوجه الثاني: قيل معناه أن تعذبهم يعني أقامتهم على كفرهم إلى الموت وإن تغفر لهم يعني لمن آمن منهم وتاب ورجع عن كفره، الوجه الثالث: قال ابن الأنباري: لما قال الله لعيسى {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} لم يقع لعيسى إلا أن النصارى حكت عنه الكذب لأنه لم يقل ذلك وقول الكذب ذنب فيجوز أن يسأل له المغفرة والله أعلم بمراده وأسراره كتابه.
(م) عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم {رب إنهن أضللن كثرًا من الناس فمن تبعني فإنه مني} الآية وقول عيسى: {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} فرفع يديه وقال اللهم أمتي أمتي فبكى فقال الله تعالى: يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فاسأله ما يبكيك، فأتاه جبريل عليه السلام فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم فقال يا جبريل اذهب إلى محمد فقل له إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك.
عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام حتى أصبح بآية والآية {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} أخرجه النسائي. اهـ.

.قال البيضاوي:

{إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} أي إن تعذبهم فإنك تعذب عبادك ولا اعتراض على المالك المطلق فيما يفعل بملكه، وفيه تنبيه على أنهم استحقوا ذلك لأنهم عبادك وقد عبدوا غيرك. {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} فلا عجز ولا استقباح فإنك القادر القوي على الثواب والعقاب، الذي لا يثيب ولا يعاقب إلا عن حكمة وصواب فإن المغفرة مستحسنة لكل مجرم، فإن عذبت فعدل وإن غفرت ففضل. وعدم غفران الشرك بمقتضى الوعيد فلا امتناع فيه لذاته ليمنع الترديد والتعليق بإن. اهـ.

.قال ابن عجيبة:

وقال التفتازاني: ذكر المغفرة، يوُهم أن الفاصلة: {الغفور الرحيم}، لكن يُعرف بعد التأمل أن الواجب هو العزيز الحكيم؛ لأنه لا يغفر لمن يستحق العذاب إلا من ليس فوقه أحد يرد عليه حكمه، وهو العزيز، أي: الغالب، ثم وجب أن يوصف بالحكمة على سبيل الاحتراس؛ لئلا يتوهم أنه خارج عن الحكمة. اهـ.