فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} وكذا في سورة الممتحنة: {واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم} فورد في هاتين الآيتين وصفه تعالى بهاتين الصفتين المشيرتين إلى العزة والقهر وإنما ورد المطرد في الكتاب العزيز مهما جرى ذكر المغفرة طلبا أو إخبارا ورود ما به يقوى رجاء السائل ويطمع تعلقا به المتذلل الراغب كقوله تعالى: {إنه كان فريق من عبادى يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين} فقوله هنا: {وأنت خير الراحمين} توسل مناسب لما تقدم من طلب المغفرة والرحمة وفى سورة يوسف قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: {لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين} وفى سورة القصص: {قال رب إنى ظلمت نفسى فاغفر لى فغفر له إنه هو الغفور الرحيم} فهذا كله مناسب للطلب وهو كثير في الكتاب العزيز وجار على ما تمهد وأما وصفه سبحانه بالعزة والملكية والحكمة فإنما يرد حيث يراد معنى الاقتدار والاستيلاء والقهر وإحاطة العلم وإفراده سبحانه بالخلق والأمر والربوبية والتعالى وما يرجع إلى هذا كقوله تعالى: {وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم} وقوله تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض} ثم قال تعالى: {وهو العزيز الحكيم} وقوله تعالى: {ولله جنود السماوات والأرض} ثم قال: {وكان الله عزيزا حكيما} وقوله تعالى: {سبح لله ما في السماوات والأرض} ثم قال: {وهو العزيز الحكيم} وهذا كثير مطرد حيث يراد معنى القهر والملكية والإحاطة والاقتدار فللسائل أن يسأل عن وجه ورود آيتى المائدة والممتحنة معقبتين بما ذكر؟
والجواب عن ذلك والله أعلم: يتفصل في الآيتين: أما آية المائدة فمبنية على التسليم لله سبحانه وأنه المالك للكل يفعل فيهم ما يشاء فلو ورد هنا عقب آية المائدة: {وإن تغفر لهم فأنت الغفور الرحيم} لكان تعريضا بطلب المغفرة ولم يقصد ذلك بلآية وإنما قيل ذلك على لسان عيسى عليه السلام تبريا وتسليما لله سبحانه وليس موضع طلب مغفرة لهم وإنما هو تنصل من حالهم وتسليم لله فيهم قال القرطبى رحمه الله: لم يقل الغفور الرحيم لأن مخرجه على التسليم ولأن في ذكر الغفور تعريضا للسائل والكلام لتسليم الأمرين والحكمة تقتضيهما وكأنه قال: فالمغفرة لا تنقص من عزك ولا تخرج عن حكمتك.
وأما قوله في سورة الممتحنة: {ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم} فالجواب عندى هنا ان قوله: {إنك أنت العزيز الحكيم} مبنى على قوله: {لا تجعلنا فتنة للذين كفروا} فإن المراد لا تظهرهم علينا فيظنوا أنهم على الحق فيكون سبب فتنتهم فلا تفعل ذلك بنا فأنت القادر على كفهم ونصرنا عليهم فانك العزيز الذي الذي لا معارض لما تريده ولا مانع مما تشاؤه لما كان المؤمنون يعلمون أن ما يصيبهم من مصيبة إنما هي بما كسبت أيديهم سألوا المغفرة من مجترحاتهم وأورد سؤالهم مورد جمل الاعتراض فقدم وهو قوله: {واغفر لنا ربنا} فإن الكلام في تقدير التقديم والتأخير: ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا إنك أنت العزيز الحكيم واغفر لنا ربنا، فقد قوله: {واغفر لنا ربنا} أثناء الكلام إحرازا لآدابهم ومعتقدهم الإيمانى فقد تبين حال المناسبة في آية العقود وآية الممتحنة بين الآيتين وبين ما أعقبتا به وأنه لا يمكن على ما تقرر سواه والله أعلم بما أراد.
فإن قلت فما جوابك عما ذكر عن بعض المتأخرين من أن جواب قوله تعالى: {وإن تغفر لهم} محذوف أى وإن تغفر لهم فإنهم عبادك ثم عطف عليه قوله: {فإنك أنت العزيز الحكيم} وأن المناسبة إنما تحصل بهذا التقدير؟.
قلت: هنا خطأ من وجهين: توجيه المناسبة وتوجيه الإعراب أما المناسبة فقد تبينت على أتم وجه وأما الإعراب فيمتنع تقديره فيه على ما نبينه، ثم في هذا المرتكب فساد المعنى إذ ليس الكلام واردا مورد الاستلطاف وقد بين، وأما امتناع ما اختاره في الإعراب فمن وجهين: أحدهما التهيئة والقطع وهو متفق علي منافرته إذا أمكنت المندوحة والثانى وهو عاضد لهذا وقاطع في المسألة وهو أن سيبويه رحمه الله قد نص أن العرب لا تتكلم به الا في الشعر قال في باب الجزاء: «وقبح في الكلام أن تعمل أن أو شيء من حروف الجزاء في الفعل حتى تجزمه في اللفظ ثم لا يكون له جواب فيجزم ما قبله ألا ترى أنك تقول: آتيك إن أتيتنى ولا تقول آتيك إن تأتينى الا في الشعر لأنك أخرت إن وما عملت فيه فلم تجعل لها جوابا ينجزم بما قبله فهكذا جرى هذا في كلامهم وقد زاد الإمام بسطا في الكتاب» فهذا قاطع من سيبويه وقد تقدم قبله ما يحصل في الكلام من التهيئة والقطع وهو كاف لاتفاق النحويين على قبح التهيئة والقطع ثم قد انضم إلى ذلك من نص سيبويه: ان العرب لا تتكلم بهذا فلا تأتى بكلام قد انجزم فيه الفعل بأداة الشرط ثم لا تأتى بجواب مجزوم في اللفظ أما إذا أتيت بالفاء في الجةاب فلا خلاف في هذا كما في الآية وعلى ما قاله سيبويه رحمه الله كافة النحويين من متقدميهم ومتأخريهم فوضح خطأ هذا القول. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)}.
بيَّن أن حكم المولى في عبيده نافذ بحكم إطلاق ملكه، فقال إن تعذبهم يحسن منك تعذيبهم وكان ذلك لأنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم أي المُعِز لهم بمغفرتك لهم.
ويقال أنت العزيز الحكيم الذي لا يضركَ كُفْرُهم.
ويقال: {العَزِيزُ} القادر على الانتقام منهم فالعفو (عند) القدرة سِمَةُ الكرمِ، وعند العجز أمارةُ الذُّل.
ويقال إن تغفر لهم فإنك أعزُّ من أن تتجمل بطاعة مطيعٍ أو تنتقص بِزِلَّةِ عاصٍ. وقوله: {الحَكِيمُ} ردٌّ على من قال: غفران الشّركِ ليس بصحيح في الحكمة. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{وَإِذْ قَالَ اللهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ}.
اتِّصَالُ هَذِهِ الْآيَاتِ بِمَا قَبْلَهَا جَلِيٌّ ظَاهِرٌ، وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ اللهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ} مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ} إِلَخْ. وَالْمَعْنَى اذْكُرْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِلنَّاسِ يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ. فَيَسْأَلُهُمْ جَمِيعًا عَمَّا أَجَابَتْهُمْ بِهِ أُمَمُهُمْ، إِذْ يَقُولُ لِعِيسَى اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكِ إِلَخْ، وَإِذْ يَقُولُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ؟ أَيْ يَسْأَلُهُ: أَقَالُوا هَذَا الْقَوْلَ بِأَمْرٍ مِنْكَ أَمْ هُمْ، افْتَرَوْهُ وَابْتَدَعُوهُ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ؟
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {مِنْ دُونِ اللهِ} كَائِنِينَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْ حَالَ كَوْنِكُمْ مُتَجَاوِزِينَ بِذَلِكَ تَوْحِيدَ اللهِ وَإِفْرَادَهُ بِالْعِبَادَةِ. فَهَذَا التَّعْبِيرُ يَصْدُقُ بِاتِّخَاذِ إِلَهٍ أَوْ أَكْثَرَ مَعَ اللهِ تَعَالَى وَهُوَ الشِّرْكُ، فَإِنَّ عِبَادَةَ الشِّرْكِ الْمُتَّخَذِ غَيْرُ عِبَادَةِ اللهِ خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ سَوَاءٌ اعْتَقَدَ الْمُشْرِكُ أَنَّ هَذَا الْمُتَّخَذَ يَنْفَعُ وَيَضُرُّ بِالِاسْتِقْلَالِ وَهُوَ نَادِرٌ أَوِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ يَنْفَعُ وَيَضُرُّ بِإِقْدَارِ اللهِ إِيَّاهُ وَتَفْوِيضِهِ بَعْضَ الْأَمْرِ إِلَيْهِ فِيمَا وَرَاءَ الْأَسْبَابِ، أَوْ بِالْوَسَاطَةِ عِنْدَ اللهِ، أَيْ بِحَمْلِهِ تَعَالَى بِمَا لَهُ مِنَ التَّأْثِيرِ وَالْكَرَامَةِ عَلَى النَّفْعِ وَالضَّرِّ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ مُشْرِكُو الْعَرَبِ عِنْدَ الْبَعْثَةِ كَمَا حَكَى الله عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ} (10: 18) وَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} (39: 3) إِلَخْ. وَقَلَّمَا يُوجَدُ فِي مُتَعَلِّمِي الْحَضَرِ مَنْ يَتَّخِذُ إِلَهًا غَيْرَ اللهِ مُتَجَاوِزًا بِعِبَادَتِهِ الْإِيمَانَ بِاللهِ الَّذِي هُوَ خَالِقُ الْكَوْنِ وَمُدَبِّرُهُ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ الْفِطْرِيَّ الْمَغْرُوسَ فِي غَرَائِزِ الْبَشَرِ هُوَ أَنَّ تَدْبِيرَ الْكَوْنِ كُلِّهِ صَادِرٌ عَنْ قُوَّةٍ غَيْبِيَّةٍ لَا يُدْرِكُ أَحَدٌ كُنْهَهَا، فَالْمُوَحِّدُونَ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ يَتَوَجَّهُونَ بِعِبَادَاتِهِمُ الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ إِلَى صَاحِبِ هَذِهِ الْقُوَّةِ الْغَيْبِيَّةِ وَحْدَهُ، مُعْتَقِدِينَ أَنَّهُ هُوَ الْفَاعِلُ الْمُطْلَقُ وَحْدَهُ، وَإِنْ كَانَ فِعْلٌ يُنْسَبُ إِلَى غَيْرِهِ فَإِنَّمَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ كَذِبًا، أَوْ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَهُ بِإِقْدَارِ اللهِ إِيَّاهُ عَلَيْهِ وَتَسْخِيرِهِ لَهُ بِمُقْتَضَى سُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ الَّتِي قَامَ بِهَا نِظَامُ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ بِمَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتُهُ، وَالْمُشْرِكُونَ يَتَوَجَّهُونَ تَارَةً إِلَيْهِ وَتَارَةً إِلَى بَعْضِ مَا يَسْتَكْبِرُونَ خَصَائِصَهُ مِنْ خَلْقِهِ، كَالشَّمْسِ وَالنَّجْمِ، وَبَعْضِ مَوَالِيدِ الْأَرْضِ، وَتَارَةً يَتَوَجَّهُونَ إِلَيْهِمَا مَعًا فَيَجْعَلُونَ الثَّانِي وَسِيلَةً إِلَى الْأَوَّلِ، وَمَنْ يَشْعُرُ بِسُلْطَةٍ غَيْبِيَّةٍ تَتَجَلَّى لَهُ فِي بَعْضِ الْخَلْقِ فَهُوَ يَخْشَى ضَرَّهَا وَيَرْجُو نَفْعَهَا، وَلَا يَمْتَدُّ نَظَرُ عَقْلِهِ وَلَا شُعُورُ قَلْبِهِ إِلَى سُلْطَةٍ فَوْقَهَا وَلَا يَتَفَكَّرُ فِي خَلْقِ هَذِهِ الْأَكْوَانِ فَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْحَيَوَانِ مِنْهُ إِلَى الْإِنْسَانِ، فَلَا يُعَدُّ مِنَ الْعُقَلَاءِ الْمُسْتَعِدِّينَ لِفَهِمَ الشَّرَائِعِ وَحَقَائِقِ الدِّينِ، عَلَى أَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ اتَّخَذَ إِلَهًا مِنْ دُونِ اللهِ، وَلَكِنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الِاتِّخَاذِ غَيْرُ مُرَادٍ هُنَا؛ لِأَنَّ الَّذِينَ شَرَعُوا لِلنَّاسِ عِبَادَةَ الْمَسِيحِ وَأَمِّهِ كَانُوا مِنْ شُعُوبٍ مُرْتَقِيَةٍ حَتَّى فِي وَثَنِيَّتِهَا، وَلَهَا فَلْسَفَةٌ دَقِيقَةٌ فِيهَا، وَهُمُ الْيُونَانُ وَالرُّومَانُ، وَبَعْضُ الْيَهُودِ الْمُطَّلِعِينَ عَلَى تِلْكَ الْفَلْسَفَةِ جِدَّ الِاطِّلَاعِ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ اتِّخَاذَ إِلَهٍ مِنْ دُونِ اللهِ يُرَادُ بِهِ عِبَادَةُ غَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ خَالِصَةً لِغَيْرِهِ أَوْ شَرِكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَلَوْ بِدُعَاءِ غَيْرِهِ وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ لِيَكُونَ وَاسِطَةً عِنْدَهُ {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (98: 5).
أَمَّا اتِّخَاذُهُمُ الْمَسِيحَ إِلَهًا فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَأَمَّا أُمُّهُ فَعِبَادَتُهَا كَانَتْ مُتَّفَقًا عَلَيْهَا فِي الْكَنَائِسِ الشَّرْقِيَّةِ وَالْغَرْبِيَّةِ بَعْدَ قُسْطَنْطِينَ، ثُمَّ أَنْكَرَتْ عِبَادَتَهَا فِرْقَةُ الْبُرُوتِسْتَانْتِ الَّتِي حَدَثَتْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ بِعِدَّةِ قُرُونٍ.
إِنَّ هَذِهِ الْعِبَادَةَ الَّتِي يُوَجِّهُهَا النَّصَارَى إِلَى مَرْيَمَ وَالِدَةِ الْمَسِيحِ (عَلَيْهِمَا السَّلَامُ) مِنْهَا مَا هُوَ صَلَاةٌ ذَاتُ دُعَاءٍ وَثَنَاءٍ وَاسْتِغَاثَةٍ وَاسْتِشْفَاعٍ، وَمِنْهَا صِيَامٌ يُنْسَبُ إِلَيْهَا، وَيُسَمَّى بِاسْمِهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ يُقْرَنُ بِالْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ لِذِكْرِهَا وَلِصُوَرِهَا وَتَمَاثِيلِهَا، وَاعْتِقَادِ السُّلْطَةِ الْغَيْبِيَّةِ لَهَا الَّتِي يُمْكِنُهَا بِهَا فِي اعْتِقَادِهِمْ أَنْ تَنْفَعَ وَتَضُرَّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِنَفْسِهَا أَوْ بِوَسَاطَةِ ابْنِهَا، وَقَدْ صَرَّحُوا بِوُجُوبِ الْعِبَادَةِ لَهَا، وَلَكِنْ لَا نَعْرِفُ عَنْ فِرْقَةٍ مِنْ فِرَقِهِمْ إِطْلَاقَ كَلِمَةِ (إِلَهٍ) عَلَيْهَا، بَلْ يُسَمُّونَهَا (وَالِدَةَ الْإِلَهِ) وَيُصَرِّحُ بَعْضُ فِرَقِهِمْ بِأَنَّ ذَلِكَ حَقِيقَةٌ لَا مَجَازٌ، وَالْقُرْآنُ يَقُولُ هُنَا: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوهَا وَابْنَهَا إِلَهَيْنِ، وَالِاتِّخَاذُ غَيْرُ التَّسْمِيَةِ، فَهُوَ يُصَدَّقُ بِالْعِبَادَةِ وَهِيَ وَاقِعَةٌ قَطْعًا، وَبَيَّنَ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَنَّهُمْ قَالُوا: {إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} (5: 17، 72) وَذَلِكَ مَعْنًى آخَرُ. وَقَدْ فَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي أَهْلِ الْكِتَابِ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ} (9: 31) أَنَّهُمُ اتَّبَعُوهُمْ فِيمَا يُحِلُّونَ وَيُحَرِّمُونَ لَا أَنَّهُمْ سَمَّوْهُمْ أَرْبَابًا.
وَأَوَّلُ نَصٍّ صَرِيحٍ رَأَيْتُهُ فِي عِبَادَةِ النَّصَارَى لِمَرْيَمَ عِبَادَةً حَقِيقِيَّةً مَا فِي كِتَابِ (السَّوَاعِي) مِنْ كُتُبِ الرُّومِ الْأُرْثُوذُكْسِ، وَقَدِ اطَّلَعْتُ عَلَى هَذَا الْكِتَابِ فِي دَيْرٍ يُسَمَّى (بِدَيْرِ الْبَلَمَنْدِ) وَأَنَا فِي أَوَّلِ الْعَهْدِ بِمَعَاهِدِ التَّعْلِيمِ. وَطَوَائِفُ الْكَاثُولِيكِ يُصَرِّحُونَ بِذَلِكَ وَيُفَاخِرُونَ بِهِ، وَقَدْ زَيَّنَ الْجُزْوِيتِ فِي بَيْرُوتَ الْعَدَدَ التَّاسِعَ مِنَ السَّنَةِ السَّابِعَةِ لِمَجَلَّتِهِمُ (الْمَشْرِقِ) بِصُورَتِهَا وَبِالنُّقُوشِ الْمُلَوَّنَةِ إِذْ جَعَلُوهُ تَذْكَارًا لِمُرُورِ خَمْسِينَ سَنَةً عَلَى إِعْلَانِ الْبَابَا بِيُوسَ التَّاسِعِ أَنَّ مَرْيَمَ الْبَتُولَ «حَبِلَ بِهَا بِلَا دَنَسِ الْخَطِّيَّةِ» وَأَثْبَتُوا فِي هَذَا الْعَدَدِ عِبَادَةَ الْكَنَائِسِ الشَّرْقِيَّةِ لِمَرْيَمَ كَالْكَنَائِسِ الْغَرْبِيَّةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ (الْأَبِ لِوِيس شِيخُو) فِي مَقَالَةٍ لَهُ فِيهِ عَنِ الْكَنَائِسِ الشَّرْقِيَّةِ: (إِنَّ تَعَبُّدَ الْكَنِيسَةِ الْأَرْمَنِيَّةِ لِلْبَتُولِ الطَّاهِرَةِ أُمِّ اللهِ لَأَمْرٌ مَشْهُورٌ وَقوله: «قَدِ امْتَازَتِ الْكَنِيسَةُ الْقِبْطِيَّةُ بِعِبَادَتِهَا لِلْبَتُولِ الْمَغْبُوطَةِ أُمِّ اللهِ».
مَنْ يَسْمَعُ أَوْ يَقْرَأُ سُؤَالَ اللهِ تَعَالَى لِعِيسَى عَنْ عِبَادَةِ النَّصَارَى.
لَهُ وَلِأُمِّهِ تَتُوقُ نَفْسُهُ إِلَى مَعْرِفَةِ جَوَابِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتَتَوَجَّهُ إِلَى السُّؤَالِ وَالِاسْتِفْهَامِ؛ فَلِذَلِكَ جَاءَ كَأَمْثَالِهِ بِأُسْلُوبِ الِاسْتِئْنَافِ {قَالَ سُبْحَانَكَ} بَدَأَ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَوَابَهُ بِتَنْزِيهِهِ إِلَهَهُ وَرَبَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ إِلَهٌ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّ التَّنْزِيهَ هُنَا إِنَّمَا هُوَ عَنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ، فَذَهَبَ إِلَى أَنَّ مَعْنَى الْجُمْلَةِ: أُنَزِّهُكَ تَنْزِيهًا لَائِقًا مِنْ أَنْ أَقُولَ ذَلِكَ، أَوْ مِنْ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ فِي حَقِّكَ، وَظَنَّ أَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ سِيَاقُ النَّظْمِ، وَسَتَعْلَمُ مَا فِيهِ مِنَ الضَّعْفِ، وَأَنَّ مَا اخْتَرْنَاهُ هُوَ الْحَقُّ.
وَكَلِمَةُ «سُبْحَانَ» قِيلَ: إِنَّهَا عَلَمٌ لِلتَّسْبِيحِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا مَصْدَرٌ لِـ (سَبَحَ) الثُّلَاثِيِّ كَالْغُفْرَانِ، وَاسْتُعْمِلَتْ مُضَافَةً بِاطِّرَادٍ إِلَّا مَا شَذَّ فِي الشِّعْرِ، وَالتَّسْبِيحُ تَنْزِيهُ اللهِ تَعَالَى عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَهُوَ مِنْ مَادَّةِ السَّبَحِ وَالسِّبَاحَةِ وَهِيَ الذَّهَابُ السَّرِيعُ الْبَعِيدُ فِي الْبَحْرِ أَوِ الْبَرِّ، وَمِنَ الثَّانِي سَبَحَ الْخَيْلُ وَقَالُوا: فَرَسٌ سَبُوحٌ (كَصَبُورٍ) وَمِثْلُهُ التَّقْدِيسُ مِنَ الْقُدْسِ وَهُوَ الذَّهَابُ الْبَعِيدُ فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ التَّسْبِيحُ وَالتَّقْدِيسُ فِي التَّنْزِيهِ قَالُوا: إِنَّ التَّسْبِيحَ يَدُلُّ عَلَى الْإِبْعَادِ وَلَكِنْ عَنْ كُلِّ شَرٍّ وَسُوءٍ؛ وَلِذَا خُصَّ بِتَنْزِيهِ اللهِ تَعَالَى، وَيُقَابِلُهُ اللَّعْنُ، فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الْإِبْعَادِ وَلَكِنْ عَنْ كُلِّ خَيْرٍ وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْإِبْعَادِ وَالْبُعْدِ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي مَقَامِ الشَّرِّ {أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} (11: 60)، {أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} (14: 3) قَالَ الرَّاغِبُ: وَالتَّسْبِيحُ تَنْزِيهُ اللهِ تَعَالَى، وَأَصْلُهُ الْمَرُّ السَّرِيعُ فِي عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى، وَجُعِلَ ذَلِكَ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ، كَمَا جُعِلَ الْإِبْعَادُ فِي الشَّرِّ، فَقِيلَ: أَبْعَدَهُ اللهُ، وَجُعِلَ التَّسْبِيحُ عَامًّا فِي الْعِبَادَاتِ قَوْلًا كَانَ أَوْ فِعْلًا أَوْ نِيَّةً اهـ، ثُمَّ أَوْرَدَ الشَّوَاهِدَ مِنَ الْآيَاتِ عَلَى إِطْلَاقِ التَّسْبِيحِ بِمَعْنَى الصَّلَاةِ وَبِمَعْنَى الدَّلَالَةِ عَلَى التَّنْزِيهِ كَتَسْبِيحِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا. وَالْمُرَادُ بِتَسْبِيحِ النِّيَّةِ الْعِلْمُ وَالِاعْتِقَادُ، وَفِي كَلِمَةِ {سُبْحَانَكَ} وَمِثْلِهَا «سُبْحَانَ اللهِ» مُبَالَغَةٌ فِي هَذَا التَّنْزِيهِ أَيُّ مُبَالَغَةٍ، إِذْ تَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ بِمَادَّتِهَا الدَّالَّةِ بِمَأْخَذِهَا الِاشْتِقَاقِيِّ عَلَى الْبُعْدِ وَالْإِيغَالِ وَالسَّبَحِ الطَّوِيلِ فِي هَذَا الْبَحْرِ الْمَدِيدِ الطَّوِيلِ، وَبِصِيغَتِهَا الْأَصْلِيَّةِ وَهِيَ التَّسْبِيحُ الَّتِي هِيَ مُسَمَّى اسْمِ الْمَصْدَرِ (سُبْحَانَ) وَمَدْلُولُهُ فَإِنَّ التَّفْعِيلَ يَدُلُّ عَلَى التَّكْثِيرِ، ثُمَّ بِالْعُدُولِ عَنْ هَذِهِ الصِّيغَةِ الَّتِي هِيَ مَصْدَرٌ إِلَى الِاسْمِ الَّذِي جُعِلَ عَلَمًا عَلَيْهَا عَلَى قَوْلِ ابْنِ جِنِّي فَإِنَّ اسْمَ الْمَصْدَرِ يَدُلُّ عَلَى الْمَصْدَرِ وَمِنَ الْمَصْدَرِ وَثَبَاتِهِ حَقِيقَتُهُ؛ لِأَنَّ مَدْلُولَهُ هُوَ لَفْظُ الْمُصَدْرِ فَانْتِقَالُ الذِّهْنِ مِنْهُ إِلَى الْمَصْدَرِ وَمِنَ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَعْنَى بِمَنْزِلَةِ تَكْرَارِ لَفْظِ الْمَصْدَرِ، بَلْ هُوَ أَبْلَغُ وَأَدَلُّ عَلَى إِرَادَةِ الْحَقِيقَةِ دُونَ التَّجَوُّزِ، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا سَبَقَنِي إِلَى بَيَانِ هَذَا عَلَى كَوْنِهِ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ عِنْدَ مَنْ تَأَمَّلَهُ (وَمِنْ شِدَّةِ الظُّهُورِ الْخَفَاءُ).