فصل: 3- لماذا بدأ القرآن بالعقيدة ثم بالتشريعات؟ وطريق الدعوة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وكان في استطاعة محمد صلى الله عليه وسلم أن يعلنها دعوة إصلاحية، تتناول تقويم الأخلاق، وتطهير المجتمع، وتزكية النفوس، وتعديل القيم والموازين..
وكان واحدا وقتها- كما يجد كل مصلح أخلاقي في أية بيئة- نفوسا طيبة، يؤذيها هذا الدنس؛ وتأخذها الأريحية والنخوة لتلبية دعوة الإصلاح والتطهير..
وربما قال قائل: إنه لو صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فاستجابت له- في أول الأمر- جمهرة صالحة؛ تتطهر أخلاقها، وتزكو أرواحها، فتصبح أقرب إلى قبول العقيدة وحملها.. بدلا من أن تثير دعوة أن لا إله إلا الله المعارضة القوية منذ أول الطريق!
ولكن الله سبحانه وهو العليم الحكيم، لم يوجه رسوله صلى الله عليه وسلم إلى مثل هذا الطريق..
لقد كان الله سبحانه يعلم أن ليس هذا هو الطريق! كان يعلم أن الأخلاق لا تقوم إلا على أساس من عقيدة، تضع الموازين، وتقرر القيم وتقرر السلطة التي ترتكن إليها هذه الموازين والقيم؛ كما تقرر الجزاء الذي تملكه هذه السلطة وتوقعه على الملتزمين والمخالفين. وأنه قبل تقرير تلك العقيدة تظل القيم كلها متأرجحة؛ وتظل الأخلاق التي تقوم عليها متأرجحة كذلك؛ بلا ضابط، وبلا سلطان، وبلا جزاء!
فلما تقررت العقيدة- بعد الجهد الشاق- وتقررت السلطة التي ترتكن إليها هذه العقيدة.. لما عرف الناس ربهم وعبدوه وحده.. لما تحرر الناس من سلطان العبيد، ومن سلطان الشهوات سواء.. لما تقررت في القلوب: لا إله إلا الله.. صنع الله بها وبأهلها كل شيء مما يقترحه المقترحون..
تطهرت الأرض من الرومان والفرس.. لا ليتقرر فيها سلطان العرب.. ولكن ليتقرر فيها سلطان الله.. لقد تطهرت من الطاغوت كله: رومانيا وفارسيا وعربيا على السواء.
وتطهر المجتمع من الظلم الاجتماعي بجملته. وقام النظام الإسلامي يعدل بعدل الله، ويزن بميزان الله ويرفع راية العدالة الاجتماعية باسم الله وحده؛ ويسميها راية الإسلام، لا يقرن إليها اسما آخر؛ ويكتب عليها: لا إله إلا الله!
وتطهرت النفوس والأخلاق، وزكت القلوب والأرواح؛ دون أن يحتاج الأمر إلى الحدود والتعازير التي شرعها الله- إلا في الندرة النادرة- لأن الرقابة قامت هنالك في الضمائر؛ ولأن الطمع في رضى الله وثوابه، والحياء والخوف من غضبه وعقابه قد قامت كلها مقام الرقابة ومقام العقوبات.
وارتفعت البشرية في نظامها، وفي أخلاقها، وفي حياتها كلها، إلى القمة السامقة التي لم ترتفع إليها من قبل قط؛ والتي لم ترتفع إليها من بعد إلا في ظل الإسلام..
ولقد تم هذا كله لأن الذين أقاموا هذا الدين في صورة دولة ونظام وشرائع وأحكام؛ كانوا قد أقاموا هذا الدين من قبل في ضمائرهم وفي حياتهم، في صورة عقيدة وخلق وعبادة وسلوك. وكانوا قد وعدوا على إقامة هذا الدين وعدا واحدا، لا يدخل فيه الغلب والسلطان.. ولا حتى لهذا الدين على أيديهم.. وعدا واحدا لا يتعلق بشيء في هذه الدنيا.. وعدا واحدا هو الجنة.. هذا كل ما وعدوه على الجهاد المضني، والابتلاء الشاق، والمضي في الدعوة، ومواجهة الجاهلية بالأمر الذي يكرهه أصحاب السلطان، في كل زمان وفي كل مكان، وهو: لا إله إلا الله!
فلما أن ابتلاهم الله فصبروا؛ ولما أن فرغت نفوسهم من حظ نفوسهم؛ ولما أن علم الله منهم أنهم لا ينتظرون جزاء في هذه الأرض- كائنا ما كان هذا الجزاء ولو كان هو انتصار هذه الدعوة على أيديهم، وقيام هذا الدين في الأرض بجهدهم- ولما لم يعد في نفوسهم اعتزاز بجنس ولا قوم، ولا اعتزاز بوطن ولا أرض. ولا اعتزاز بعشيرة ولا بيت..
لما أن علم الله منهم ذلك كله، علم أنهم قد أصبحوا- إذن- أمناء على هذه الأمانة الكبرى. أمناء على العقيدة التي يتفرد فيها الله سبحانه بالحاكمية في القلوب والضمائر وفي السلوك والشعائر، وفي الأرواح والأموال، وفي الأوضاع والأحوال.. وأمناء على السلطان الذي يوضع في أيديهم ليقوموا به على شريعة الله ينفذونها، وعلى عدل الله يقيمونه، دون أن يكون لهم من ذلك السلطان شيء لأنفسهم ولا لعشيرتهم ولا لقومهم ولالجنسهم؛ إنما يكون السلطان الذي في أيديهم لله ولدينه وشريعته، لأنهم يعلمون أنه من الله، هو الذي آتاهم إياه.
ولم يكن شيء من هذا المنهج المبارك ليتحقق على هذا المستوى الرفيع، إلا أن تبدأ الدعوة ذلك البدء، وإلا أن ترفع الدعوة هذه الراية وحدها.. راية لا إله إلا الله.. ولا ترفع معها سواها.. وإلا أن تسلك الدعوة هذا الطريق الوعر الشاق في ظاهره؛ المبارك الميسر في حقيقته.
وما كان هذا المنهج المبارك ليخلص لله، لو أن الدعوة بدأت خطواتها الأولى دعوة قومية، أو دعوة اجتماعية، أو دعوة أخلاقية.. أو رفعت أي شعار إلى جانب شعارها الواحد: لا إله إلا الله..

.3- لماذا بدأ القرآن بالعقيدة ثم بالتشريعات؟ وطريق الدعوة:

ذلك شأن تصدي القرآن المكي كله لتقرير: لا إله إلا الله في القلوب والعقول، واختيار هذا الطريق- على مشقته في الظاهر- وعدم اختيار السبل الجانبية الأخرى؛ والإصرار على هذا الطريق..
فأما شأن هذا القرآن في تناول قضية الاعتقاد وحدها، دون التطرق إلى تفصيلات النظام الذي يقوم عليها، والشرائع التي تنظم المعاملات فيها.. فذلك كذلك مما ينبغي أن يقف أمامه أصحاب الدعوة لهذا الدين وقفة واعية..
إن طبيعة هذا الدين هي التي قضت بهذا.. فهو دين يقوم كله على قاعدة الألوهية الواحدة.. كل تنظيماته وكل تشريعاته تنبثق من هذا الأصل الكبير.. وكما أن الشجرة الضخمة الباسقة الوارفة المديدة الظلال المتشابكة الأغصان، الضاربة في الهواء.. لابد لها أن تضرب بجذورها في التربة على أعماق بعيدة، وفي مساحات واسعة؛ تناسب ضخامتها وامتدادها في الهواء.. فكذلك هذا الدين.. إن نظامه يتناول الحياة كلها؛ ويتولى شؤون البشرية كبيرها وصغيرها؛ وينظم حياة الإنسان لا في هذه الحياة الدنيا وحدها، ولكن كذلك في الدار الآخرة؛ ولا في عالم الشهادة وحده ولكن كذلك في عالم الغيب المكنون عنها؛ ولا في المعاملات الظاهرة المادية، ولكن في أعماق الضمير ودنيا السرائر والنوايا.. فهو مؤسسة ضخمة هائلة شاسعة مترامية.. ولابد له إذن من جذور وأعماق بهذه السعة والضخامة والعمق والانتشار أيضا..
هذا جانب من سر هذا الدين وطبيعته؛ يحدد منهجه في بناء نفسه وفي امتداده؛ ويجعل بناء العقيدة وتمكينها، وشمول هذه العقيدة واستغراقها لشعاب النفس كلها.. ضرورة من ضرورات النشأة الصحيحة، وضمانا من ضمانات الاحتمال والتناسق بين الظاهر من الشجرة في الهواء، والضارب من جذورها في الأعماق..
ومتى استقرت عقيدة: لا إله إلا الله في أعماقها الغائرة البعيدة، استقر معها في نفس الوقت النظام الذي تتمثل فيه: لا إله إلا الله؛ وتعين أنه النظام الوحيد الذي ترتضيه النفوس التي استقرت فيها العقيدة.. واستسلمت هذه النفوس ابتداء لهذا النظام حتى قبل أن تعرض عليها تفصيلاته، وقبل أن تعرض عليها تشريعاته. فالاستسلام ابتداء هو مقتضى الإيمان.. وبمثل هذا الاستسلام تلقت النفوس تنظيمات الإسلام وتشريعاته بالرضى والقبول، لا تعترض على شيء منه فور صدوره إليها ولا تتلكأ في تنفيذه بمجرد تلقيها له. وهكذا أبطلت الخمر، وأبطل الربا، وأبطل الميسر، وأبطلت العادات الجاهلية كلها، أبطلت بآيات من القرآن، أو كلمات من رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما الحكومات الأرضية تجهد في شيء من هذا كله بقوانينها وتشريعاتها ونظمها وأوضاعها، وجندها وسلطانها، ودعايتها وإعلامها.. فلا تبلغ إلا أن تضبط الظاهر من المخالفات؛ بينما المجتمع يعج بالمنهيات والمنكرات!
وجانب آخر من طبيعة هذا الدين يتجلى في هذا المنهج القويم.. إن هذا الدين منهج عملي حركي جاد.. جاء ليحكم الحياة في واقعها؛ ويواجه هذا الواقع ليقضي فيه بأمره.. يقره أو يعدله أو يغيره من أساسه.. ومن ثم فهو لا يشرع إلا لحالات واقعة فعلا، في مجتمع يعترف ابتداء بحاكمية الله وحده.
إنه ليس نظرية تتعامل مع الفروض! إنه منهج يتعامل مع الواقع! فلابد أولا أن يقوم المجتمع المسلم الذي يقر عقيدة أن لا إله إلا الله، وأن الحاكمية ليست إلا لله؛ ويرفض أن يقر بالحاكمية لأحد من دون الله؛ ويرفض شرعية أي وضع لا يقوم على هذه القاعدة..
وحين يقوم هذا المجتمع فعلا، تكون له حياة واقعية، تحتاج إلى تنظيم وإلى تشريع.. وعندئذ فقط يبدأ هذا الدين في تقرير النظم وفي سن الشرائع.. لقوم مستسلمين أصلا للنظم والشرائع، رافضين ابتداء لغيرها من النظم والشرائع..
ولابد أن يكون للمؤمنين بهذه العقيدة من السلطان على أنفسهم وعلى مجتمعهم ما يكفل تنفيذ النظام والشرائع في هذا المجتمع؛ حتى تكون للنظام هيبته ويكون للشريعة جديتها.. فوق ما يكون لحياة هذا المجتمع من الواقعية ما يقتضي الأنظمة والشرائع من فورها.
والمسلمون في مكة لم يكن لهم سلطان على أنفسهم ولا على مجتمعهم. وما كانت لهم حياة واقعية مستقلة هم الذين ينظمونها بشريعة الله.. ومن ثم لم ينزل الله في هذه الفترة تنظيمات وشرائع؛ وإنما نزل لهم عقيدة، وخلقا منبثقا من العقيدة بعد اسقرارها في الأعماق البعيدة.. فلما صارت لهم دولة في المدينة ذات سلطان تنزلت عليهم الشرائع؛ وتقرر لهم النظام؛ الذي يواجه حاجات المجتمع المسلم الواقعية؛ والذي تكفل له الدولة بسلطانها الجدية والنفاذ..
ولم يشأ الله أن ينزل عليهم النظام والشرائع في مكة، ليختزنوها جاهزة، حتى تطبق بمجرد قيام الدولة في المدينة! إن هذه ليست طبيعة هذا الدين! إنه أشد واقعية من هذا وأكثر جدية! إنه لا يفترض المشكلات ليفترض لها حلولا.. إنما هو يواجه الواقع بحجمه وشكله وملابساته لصوغه في قالبه الخاص، وفق حجمه وشكله وملابساته..
والذين يريدون من الإسلام اليوم أن يصوغ قوالب نظام، وأن يصوغ تشريعات حياة.. بينما ليس على وجه الأرض مجتمع قد قرر فعلا تحكيم شريعة الله وحدها، ورفض كل شريعة سواها، مع تملكه للسلطة التي تفرض هذا وتنفذه.. الذين يريدون من الإسلام ذلك لا يدركون طبيعة هذا الدين، ولا كيف يعمل في الحياة؛ كما يريد له الله..
إنهم يريدون منه أن يغير طبيعته ومنهجه وتاريخه ليشابه أنظمة بشرية، ومناهج بشرية. ويحاولون أن يستعجلوه عن طريقه وخطواته ليلبي رغبات وقتية في نفوسهم إنما تنشئها الهزيمة الداخلية في أرواحهم تجاه أنظمة بشرية صغيرة.. إنهم يريدون منه أن يصوغ نفسه في قالب فروض، تواجه مستقبلا غير موجود.. والله يريد لهذا الدين أن يكون كما أراده.. عقيدة تملأ القلب، وتفرض سلطانها على الضمير. عقيدة مقتضاهاألا يخضع الناس إلا لله، ولا يتلقوا الشرائع إلا من الله. وبعد أن يوجد الناس الذين هذه عقيدتهم، ويصبح لهم السلطان في مجتمعهم، تبدأ التشريعات لمواجهة حاجاتهم الواقعية، وتنظيم حياتهم الواقعية كذلك.
كذلك يجب أن يكون مفهوما لأصحاب الدعوة الإسلامية، أنهم حين يدعون الناس لإعادة إنشاء هذا الدين، يجب أن يدعوهم أولا إلى اعتناق العقيدة- حتى ولو كانوا يدعون أنفسهم مسلمين! وتشهد لهم شهادات الميلاد بأنهم مسلمون- يجب أن يعلموهم أن الإسلام هو أولا إقرار عقيدة: لا إله إلا الله بمدلولها الحقيقي وهو رد الحاكمية لله في أمرهم كله، وطرد المعتدين على سلطان الله بادعاء هذا الحق لأنفسهم.. إقرارها في ضمائرهم وشعائرهم، وإقرارها في أوضاعهم وواقعهم..
ولتكن هذه القضية هي أساس دعوة الناس إلى الإسلام كما كانت هي أساس دعوتهم إلى الإسلام أول مرة.. هذه الدعوة التي تكفل بها القرآن المكي طوال ثلاثة عشر عاما كاملة..
فإذا دخل في هذا الدين- بمفهومه هذا الأصيل- عصبة من الناس، فهذه العصبة هي التي تصلح لمزاولة النظام الإسلام في حياتها الاجتماعية؛ لأنها قررت بينها وبين نفسها أن تقوم حياتها على هذا الأساس؛ وألا تحكم في حياتها كلها إلا الله.
وحين يقوم هذا المجتمع بالفعل يبدأ عرض أسس النظام الإسلامي عليه؛ كما يأخذ هذا المجتمع نفسه في سن التشريعات التي تقتضيها حياته الواقعية، في إطار الأسس العامة للنظام الإسلامي.. فهذا هو الترتيب الصحيح لخطوات المنهج الإسلامي الواقعي العملي الجاد..
ولقد يخيل إلى بعض المخلصين المتعجلين، ممن لا يتدبرون طبيعة هذا الدين، وطبيعة منهجه الرباني القويم، المؤسس على حكمه العليم الحكيم، وعلمه بطبائع البشر وحاجات الحياة.. نقول لقد يخيل لبعض هؤلاء أن عرض أسس النظام الإسلامي- بل التشريعات الإسلامية كذلك- على الناس مما ييسر لهم طريق الدعوة، ويحبب الناس في هذا الدين!
وهذا وهم تنشئه العجلة! وهم كالذي كان يقترحه المقترحون: أن تقوم دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم- في أولها تحت راية قومية، أو اجتماعية، أو أخلاقية، تيسيرا للطريق!
إن النفوس يجب أن تخلص أولا لله، وتعلن عبوديتها له، بقبول شرعه وحده ورفض كل شرع غيره.. من ناحية المبدأ.. قبل أن تخاطب بأي تفصيل عن ذلك الشرع يرغبها فيه!
إن الرغبة يجب أن تنبثق من الرغبة في إخلاص العبودية لله، والتحرر من سلطان سواه.. لا من أن النظام المعروض عليها.. في ذاته.. خير مما لديها في كذا وكذا على وجه التفصيل.
إن نظام الله خير في ذاته، لأنه من شرع الله. ولن يكون شرع العبيد يوما كشرع الله.. ولكن هذه ليست قاعدة الدعوة.. إن قاعدة الدعوة أن قبول شرع الله وحدة ورفض كل شرع غيره هو ذاته الإسلام. وليس للإسلام مدلول سواه. فمن رغب في الإسلام فقد فصل في هذه القضية ولم يعد بحاجة إلى ترغيبه بجمال النظام وأفضليته.. فهذه إحدى بديهيات الإيمان!

.4- منهج القرآن في عرض العقيدة:

وبعد فلابد أن نقول كيف عالج القرآن المكي قضية العقيدة في خلال الثلاثة عشر عاما.. إنه لم يعرضها في صورة نطرية! ولم يعرضها في صورة لاهوت ولم يعرضها في صورة جدل كلامي كالذي زاولهفيما بعد ما سمي بعلم التوحيد أو علم الكلام!