فصل: مطلب في الصور وأن آزر هو أبو ابراهيم لا غير وما وقع له مع أبيه وقومه وملكهم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أقول ولا ضرورة تقضي بأن يتصف الرجل بضعف الإيمان لأنه لا يقدر إلا على عدم رضاء قلبه في ذلك بل عليه أن يترك هذا المجلس على الأقل فإن بقائه مع عدم قدرته على النهي فعلا أو قولا رضاء به وبما يقع فيه والرضاء بالذنب ذنب كما أن الرضاء بالكفر كفر، لهذا فإن الأحسن للعاقل التقي أن يتجنب هكذا مجالس سوء ويحتفظ بقوة دينه إذ يجب النهي على القادر باللسان وإن لم يسمع منه لأن العمل ثمرة الإيمان وأعلى الإيمان النهي باليد حتى إذا قتل كان شهيدا، قال تعالى حاكيا حال لقمان: {يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ} الآية 18 من سورته الآية إذ أمره بالصبر على ما يصيبه من جراء ذلك وإن النهي بالكلام قد ينال منه في هذا الزمن ما يفضي إلى التحمل والصبر أو الإهانة والضرب فلذلك الأحسن بمقام الرجل الاعراض بالكلية ليدخل في قوله تعالى: {وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرامًا} الآية 73 من سورة الفرقان في ج 1 وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في الآية 53 من سورة يوسف والآية 113 من سورة هود المارتين والآية 36 من سورة الإسراء في ج 1 وله صلة في الآية 3 من سورة المؤمنين الآتية وفي الآية 254 من سورة البقرة في ج 3 على أنه يكفي في هذا الباب الآيتان المفسرتان لمن كان له قلب حي وفي هذه الآية الثالثة الذي يقول اللّه جل جلاله فيها {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا} أعرض عنهم لا تخالطهم أبدا لأنهم جهلوا معبودهم الحق ولم يعرفوا قدرته {وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا} بزخرفها وخدعتهم بشهواتها وأطمعتهم في الباطل إذ غلب حبها على قلوبهم فأفقدتهم الوعي ومالوا عن السداد وانهكوا في الفساد والإفساد {وَذَكِّرْ بِهِ} يا سيد الرسل خاصتك وقومك واتلوه عليهم فإن فيه حياتهم وصلاحهم لاحتوائه على علوم الأولين والآخرين وأدم قراءته عليهم مخافة {أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ} ترتهن وتستسلم قال زهير:
وفارقتك برهن لا فكاك له ** يوم الوداع وقلبي مبسل علقا

أي لئلا تحبس نفس {بِما كَسَبَتْ} من السوء فتهلك به وتحرم من الثواب في يوم {لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} لأن كلا مشغول بنفسه فلا قريب ولا صديق ينفع ولا شفيع إلا بإذن اللّه لمن يأذن به ويرتضيه راجع الآية 28 من سورة الأنبياء الآتية، واعلم أن النفس الخبيثة لا مخلص لها من العذاب {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ} تفتدي بكل فداء لننجو به من العذاب {لا يُؤْخَذْ مِنْها} ذلك إذ لا يقبل الفداء لو فرض أن هناك فداء ولكن لا فداء ولا يملك أحد شيئا لأن الملك كله للّه، وسمي الفداء عدلا لأن الفادي يعدل المفدى بمثله {أُولئِكَ} المتخذون دينهم لهوا ولعبا المغرورون في الحياة الدنيا هم {الَّذِينَ أُبْسِلُوا} أسلموا أنفسهم للهلاك وحبسوها بالعذاب {بِما كَسَبُوا} من القبائح في دنياهم ولم يتورعوا حتى عن مجالسة الأشقياء {لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ 70} بسبب كفرهم الذي ماتوا عليه ولا وجه لقول من قال إن هذة الآية منسوخة بآية السيف لأنها خارجة مخرج التهديد فهي على حد قوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} الآية 13 من سورة المدثر في ج 1، وان ما من شأنها ذلك لا يدخلها النسخ لأنها من قبيل الإخبار والإخبار لا يدخلها النسخ ولهذا فهي محكمة، قال تعالى يا سيد الرسل {قُلْ} لهؤلاء المشركين الذين يدعونك لعبادة آلهتهم {أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا} ونترك النافع الضار {وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا} فنرجع إلى الشرك السافل لأن العقب مؤخر الرجل يقال رجع على عقبه إذا انثنى راجعا، أي أنرجع إلى الضلال {بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ} للإسلام أيكون هذا منا ونحن عقلاء فنصير {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ} خبطته {الشَّياطِينُ} المبثوثة {فِي الْأَرْضِ} وذهبت به في هوئها، والهوى النزول من الأعلى إلى الأسفل على غير انتظام فصار {حَيْرانَ} تائها لا يدري ما يعمل وهذا الممثل به {لَهُ أَصْحابٌ} رفقاء {يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى} لينقذوه مما هو فيه فيقولون له {ائتنا} لتنجو وهو لا يأتيهم لاستيلاء الحيرة عليه، هذا مثل ضربه اللّه تعالى لمن يدعو لعبادة الأصنام ولمن يدعو لعبادة الملك العلام يقول فيه مثل هذين كمثل رجل في رفقة ضل عن الطريق المستقيم فطفق أصحابه ينادونه هلم إلينا لا تضل فتهلك، وشرع الشيطان يدعوه إليه ليوغله في الحيرة فاحتار إلى أين يذهب فإن أجاب الشيطان هلك وإن أجاب أصحابه نجى وفيها دلالة على وجود الغيلان المتعارفة على ألسنة العامة قديما وحديثا المعنية بقوله صلى اللّه عليه وسلم إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان راجع الآية 29 من سورة الأحقاف الآتية وما ترشدك إليها لتثق بوجود الجن وأنهم كالإنس، قيل إن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه وابنه عبد الرحمن إذ كان يدعو أباه إلى عبادة الأوثان بعد أن صار كامل الإيمان وأن أباه يدعوه للإسلام ليكون في المسلمين إمام وإن توجه الخطاب إلى سيد المخاطبين كان تعظيما لشأن ابي بكر فعلى فرض صحته لا يمنع أن تكون الآية عامة مطلقة لعموم لفظها لأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب إلا أن هذا القيل لا يوثق به إذ لم ينزل في عبد الرحمن قرآن كما سنراه في الآية 17 من سورة الأحقاف الآتية ومما يؤيد عمومها ضرب المثل فيها إذ لا يتصور الرّد في الشرك منه رضي اللّه عنه كما لا يتصور لحضرة المخاطب في هذه الآية ان يدعو أحدا أو شيئا من دون اللّه وعليه يكون المعنى أيليق بنا معشر المؤمنين ذلك على طريق الاستفهام الإنكاري أي كلا لا يليق أبدا فيا أكرم الرسل {قُلْ} لهؤلاء التائهين الحائرين {إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى} الموصل إلى المطلوب الذي ما وراءه ضلال البته فاتبعوه أيها الناس تهتدوا فما بعده إلا الضلال فهلموا إليه لأنا الزمنا {وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ} وننقاد {لِرَبِّ الْعالَمِينَ 71} لا لغيره ونخلص له العبادة وحده ونرفض ما سواه، قال تعالى: {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ} المفروضة عليكم أيها المؤمنون {وَاتَّقُوهُ} أن يراكم ذلك الرب العظيم حيث نهاكم فهو الذي بدأ خلقكم {وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ 72} يوم القيامة فيجازيكم بأعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وهذا الإله الجليل الذي أنشأكم من لا شيء {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} خلقا متلبسا {بِالْحَقِّ} لا باطلا ولا عبثا {وَيَوْمَ يَقُولُ} أي اذكر يا محمد لقومك عظمته وقدرته وأخبرهم بأنه إذا أراد إيجاد شيء أو إعدامه يقول له {كُنْ فَيَكُونُ} حالا بين الكاف والنون {قَوْلُهُ الْحَقُّ} الذي لا مرية فيه ولا تخلّف له {وَلَهُ الْمُلْكُ} بما فيه فلا ترى في ذلك اليوم الذي تجتمع فيه الخلائق من يدعيه وكل من كان له ملك في الدنيا من الجبابرة والملوك يتنصّل عنه إذ يكون الكل للّه {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل ويسمى بوفا وتسميه العامة (طواطه).

.مطلب في الصور وأن آزر هو أبو ابراهيم لا غير وما وقع له مع أبيه وقومه وملكهم:

روي عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال: جاء اعرابي إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم فقال ما الصور؟ قال قرن ينفخ فيه أخرجه أبو داود والترمذي وهو بلغة أهل اليمن ومن هنا اتخذه الملوك وجعلوا النداء به علامة على الجمع والطلب وغيره، أخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كيف أنتم وقد النقم صاحب القرن القرن وحنا جبهته وأصغى سمعه ينتظر أن يؤمر فينفخ فكأن ذلك ثقل على أصحاب رسول اللّه فقال كيف نفعل يا رسول اللّه وكيف نقول قال قولوا حسبنا اللّه ونعم الوكيل على اللّه توكلنا، وهذا أحسن من تفسيره بأنه جمع صورة والنفخ فيه إحياؤها لعدم ما يؤيده ولأن جمع الصورة صور بفتح الواو ولم يقرأ بهذه القراءة إلا قتادة راجع الآية 68 من سورة الزمر الآتية تجد ما يتعلق بهذا مفصلا، واعلموا أيها الناس أن هذا الإله الكبير الفعال لذلك كله وكل شيء هو {عالِمُ الْغَيْبِ} الأسرار الخفية {وَالشَّهادَةِ} الأمور العلنية لا يخفى عليه شيء من أعمال وأقوال خلقه {وَهُوَ الْحَكِيمُ} في تدبير خلقه {الْخَبِيرُ 13} بما يصلحهم وما يفعلونه ويكتمونه لا يخفى عليه شيء أبدا {وَ} اذكر لقومك يا سيد الرسل {إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ} قيل هذا لقبه واسمه تارخ مثل يعقوب وإسرائيل، وإنما سماه اللّه بلقبه دون اسمه لأنه مشهور به أكثر من الاسم وهذا أي كون آزر أباه لا عمه أصح ما قيل في هذا من أقوال كثيرة بدليل ما أخرج البخاري في افراده من حديث أبي هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: يلقى إبراهيم عليه السلام أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر فترة وغبرة، فلم يبق للقول بأنه عمه قيمة ما بعد صراحة القرآن والحديث وقد ثبت أن اسمه الشائع هو آزر كما جاء نصا لا تارخ كما يقال، ثم بين ما قاله لأبيه يقوله يا أبت {أَتَتَّخِذُ أَصْنامًا آلِهَةً} من دون اللّه الواحد {إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ} السائرين على سيرتك {فِي ضَلالٍ مُبِينٍ 74} ظاهر لا يخفى على أحد ممن له مسكة من عقل أو ذرة من إدراك فقال له إذا نحن في ضلال قال لأنكم تعبدون حجرا وأخشابا لا تضر ولا تنفع، وإنما ذكر اللّه تعالى حبيبه في هذه القصة توبيخا لقومه الذين يعبدون الأوثان وتعريضا للاحتجاج عليهم بها لأنهم كانوا يعظمون إبراهيم عليه السلام المعظم لدى كل أمة {وَكَذلِكَ} مثل ما أريناه قبح الشرك وعرفناه فيه {نُرِي إِبْراهِيمَ} جاء بالظاهر بدل المضمر إذ صرح باسمه تعظيما له ولهذا لم يقل {مَلَكُوتَ} مبالغة ملك كالرحموت مبالغة الرحمة والجبروت والرهبوت والرغبوت مبالغة الجبر والرهبة والرغبة زيد في بعضها الواو والتاء وفي بعضها الواو فقط وفي بعضها التاء للمبالغة كما زيد في طالوت وجالوت وهاروت وماروت وأصلها الطول والجول وهار ومار أي تطلعه على ما في {السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} من عجائب ولطائف وبدائع وذلك لما أراه اللّه تعالى أن أباه وقومه على غير الحق انتقدهم وخالفهم فجزاه اللّه تعالى بأن فرج له السموات السبع فنظر إلى ما فيهن حتى انتهى إلى العرش والكرسي وفرج له الأرضين فنظر فيهن حتى أسفلهن ورأى ما فيهن من عجائب وبدائع أيضا ليطمئن بعلم ما فيهن {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ 75} بخالقهن إيقانا كاملا زيادة على إيقانه على حد قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} الآية 135 من النساء في ج 3، واعلم أن الإيقان عبارة عن علم يحصل بالتأمل بعد زوال الشبهة لأن الإنسان أول أمره لا ينفك عن شبهة وشك فإذا كثرت الدلائل عليه وتوافقت البراهين وتطابقت الحجج صار سببا لحصول اليقين والطمأنينة في القلب فيعلمه حسا كما علمه خبرا ويلمه فعلا كما تكلم به قولا ويراه عيانا كما سمعه بيانا، قال البغوي وروي عن سلمان ورفعه إلى علي عليه السلام قال: لما رأى إبراهيم ملكوت السموات والأرض أبصر رجلا على فاحشة فدعا عليه فهلك ثم أبصر رجلا آخر فدعا عليه فهلك ثم أبصر آخر فأراد أن يدعو عليه فقال تبارك وتعالى يا إبراهيم أنت رجل مجاب الدعوة فلا تدعو على عبادي فإنما أنا من عبدي على ثلاث خلال إما أن يتوب فأتوب عليه وإما أن أخرج منه نسمة تعبدني وإما أن يبعث إليّ فإن شئت عفوت عنه وإن شئت عاقبته وفي رواية وإن تولى فإن جهنم من ورائه وظاهر القرآن أن هذه الرؤية بصرية لا قلبية إذ لا يوجد ما يصرفها عن الظاهر الحقيقي ولا يجنح إلى المجاز إلا إذا تعذرت الحقيقة تأمل قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} أظلم وغطّى كل شيء بسواده لأن الجنّ في الأصل الستر عن الحاسة ولمّا أمعن عليه السلام النظر في السماء {رَأى كَوْكَبًا} هو الزهراء لأنها من القدر الأول من حيث قوة نورها كالسماك الأعزل والدبرين راجع الآية 36 من سورة الحجر المارة تعلم هذا {قالَ هذا رَبِّي} يخاطب أهله وقومه ويستفهم منهم على طريق الإنكار والاستهزاء لأنهم كانوا يعبدون الكواكب وقد صنعوا لكل كوكب صنما بما يناسبه ووضعوها في بيت العبادة ليسجدوا لها ويطلبوا حاجتهم منها وكأنهم قالوا له إنه أحد الأرباب {فَلَمَّا أَفَلَ} غاب وتوارى {قالَ} لهم {لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ 76} لأن حق الرب أن يكون باقيا أبدا حاضرا لإغاثة مربوبيه ثابتا لا يتغير لأن من يتبدل أو يتغير من حال إلى حال أو يغيب كهذا لا يستحق العبادة فكيف تتخذونه ربا وهو يطرأ عليه ما يطرأ على المخلوق فلو كان ربا لصان نفسه من ذلك قالوا لنا رب أكبر منه {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغًا} طالعا خاطبهم أيضا {قالَ هذا رَبِّي} الذي تزعمون أنه أكبر من ذلك قالوا له نعم {فَلَمَّا أَفَلَ قالَ} لهم هذا وذاك سواء وكل منهما لا يصلح للربوبية وإني {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي} إلى الطريق القويم المؤدي إلى معرفة حقيقته وهذا على حد قوله تعالى: {وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} الآية 43 من سورة يس المارة في ج 1 أي لئن لم يهدكم ربكم وهو أبلغ في قبول الدعوة وهذا القول منه على سبيل إرخاء العنان مجاراة لأبيه وقومه المولعين بعبادة الكواكب لأن المستدل على فساد قول يحكيه أولا ثم يكر عليه بالابطال ثم نبه قومه بما خص به نفسه وعناهم بقوله جوابا لقسمه {لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ 77} إذا اتخذت ربا سواه لأن هذين الكوكبين لا تصلح للألوهية لأنهما مسيرتين مسخرتين فإذا اتخذتهما إلها فأنا ضال إذا يريد بهذا أباه وقومه، قالوا له إن لنا ربا أكبر وأكبر من هذين {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ} من الزهراء والقمر حقيقة {فَلَمَّا أَفَلَتْ} كالأولين وتوارت عن الأنظار ومحي نورها ولم يبق له أثر بعد غيابها {قالَ يا قَوْمِ} هذا أيضا ليس بإله لأنه اعتراه ما اعترى الأولين لذلك أقول لكم {إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ 78} في الإله الواحد الذي لا يتغير ولا يطرأ عليه ما يطرأ على خلقه مما هو قابل للتحول والانتقال فيتأثر بعوامل طبيعية وغير طبيعية وقد نبههم على خطأهم هذا فيما يعتقدون ألوهيته تدريجا وأفهمهم بأنها غير صالحة للعبادة وأرشدهم إلى النظر والاستدلال واحتج عليهم بالأقوال دون البزوغ مع أن كلا منهما انتقال وتبدل من حال لآخر لأنه أبلغ وأظهر لكونه انتقال مع خفاء واحتجاب، والبزوغ انتقال مع وضوح وظهور، وقد أراد عليه السلام إبطال قولهم بربوبية الكواكب إلا أنه كان قد عرف من تقليدهم لأسلافهم وبعد طباعهم عن قبول الدلائل أنه لوصرح لهم بالدعوة إلى اللّه رأسا لم يقبلوا ولم يلتفتوا إليه فمال إلى طريق استدراجهم لاستماع هذه الحجج لأنه ذكر كلاما يوهم كونه مساعدا لهم على مذهبهم مع أن قلبه كان مطمئنا بالإيمان باللّه وحده وموقن بأن هذه الكواكب مخلوقة لله لا تعبد ولا يليق بها أن تعبد وقصده من ذلك أن يتمكن من ذكر الدليل على إبطال عبادتها ولما لم يقبلوا أعرض عنهم وقال معلنا براءته مما هم عليه من الشرك وعبادة الأوثان والكواكب مبينا الأسباب الداعية إلى عدم أهليتها للعبادة ومصرحا بعقيدته بقوله: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} شقهما بعضهما عن بعض وابتدعهما الذي دل عقلاء خلقه بتغيير الكواكب في السماء والأنهار في الأرض على أنه منشئهما وقادر على طمس الكواكب في السماء وتغوير الأنهار في الأرض {حَنِيفًا} مائلا عن كل ما تعبدونه وعن كل دين لا يكون مرماه عبادة اللّه الواحد الأحد {وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ 79} به غيره البتة، وما قيل إن مخاطبة إبراهيم بلفظ الضلال وغيره كانت بقصد إيذاء أبيه لا صحة له لأن مثله لا يجوز أن يقع منه مثل ذلك كيف وقد وصفه اللّه بالحلم والحليم لا يستفزه الغضب ولا يليق أن يصدر منه بل لا يجوز أن ينسب صدور الجفاء منه على أبيه بل لا يتصور إيقاعه على الغير منه، لهذا فإن هذا القيل مردود على أن ما صدر من إبراهيم عليه السلام على أبيه لا يعد من الإيذاء ولو فرض أنه نوع منه فلا يكون محرما لأنه للّه وفي طريق اللّه ويقصد إرشاده إلى اللّه وما قصد به إلا نفعه وخيره ورشده لا إضلاله واحترامه لا إهانته، ولا يرد عليه أن موسى عليه السلام كلم فرعون باللين والرقة كما مر في الآية 44 فما بعدها من سورة طه المارة في ج 1 مراعاة لحق التربية وإبراهيم خاطب أباه بالخشونة والغلظة ولم يراع حق الأبوة لما ذكرنا ولم يذكر صاحب هذا القيل مخاطبته لأبيه في الآية 42 من سورة مريم فما بعدها المارة في ج 1 التي هي على غاية من اللين والأدب.