فصل: مطلب الاستفهام الإنكاري له معنيان وتمحيص لا في هذه الآية وما يناسبها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



هذا، وما قيل إن المراد أنك علمت ما فقرأه من اليهود لا أصل له، لأن الآية مكية ولا يحث مع اليهود في مكة، وما قيل إن المعنى لئلا يقولوا درست لا صحة له لأنه غير مناسب للفظ ولا وجيه في المعنى ولأن حمل الإثبات على النفي تحريف وتغيير لكلام اللّه ولا يجوز فتح هذا الباب لما فيه من وضع المنفي مقام المثبت وبالعكس، لذلك يجب اجراء كلام اللّه على ما هو عليه وعدم التطاول على ما يخل بمعناه أو يزيد في مبناه بصورة قطعية {وَلِنُبَيِّنَهُ} نوضحنّ هذا القرآن المعبر عنه بالبصائر ونكشفن ما يرمي إليه {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ 105} أنه كلام اللّه منزل عليك من لدنا لم تتلقه من أحد ما، فيا أكرم الرسل {اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} من هذا القرآن ولا تلتفت إلى تقولاتهم، وقل إنما هو من اللّه الذي {لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ 106} من قومك المتخذين آلهة من دوني واتركهم الآن إلى أن يأتيك قضائي بينك وبينهم، وفي هذه الآية تسلية لحضرة الرسول مما يلاقيه من جفاهم وتعزية لما يصمونه به وإزالة لما حصل له من الحزن بنسبة الافتراء إليه على ربه تنزه عن ذلك وتبرأ القائل: {وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا} به غيره وهذا نص بأن الإشراك بمشيئته تعالى وكذلك التوحيد والعصيان والإيمان راجع الآية 98 من سورة يونس المارة، وذلك أن اللّه قد شاء إيمان من علم منه اختيار الإيمان فهداه إليه فآمن، وشاء كفر من علم منه اختيار الشرك فساقه إليه فكفر وهذا كله بإرادة اللّه وتقديره ومشيئته {وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ} يا سيد الرسل {حَفِيظًا} تحفظهم من الكفر وتراقب أعمالهم وتقوم بأمرهم وتدبر مصالحهم وإنما أنت مبلغ لهم ما نوحيه إليك فترغبهم بطاعة اللّه وترهبهم معصيته وتبشر الطائع بثواب اللّه وتنذر العاصي بعقابه، وما قيل إن هذه الآية منسوخة بآية السيف قيل لا وجه له وغاية احتجاجه بالنسخ تأويل وكيل على زعمه (لم أومر بحربكم) وهو تأويل عندي لأن معنى وكيل ما ذكرناه في الآية 67 المارة ليس إلا ولهذا قال تعالى: {وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ 107} لتردهم عما قدرناه لهم كلا ولا مسيطر ولا مسلط ولا موكل من جهتهم لتدافع عنهم، قال تعالى: {وَلا تَسُبُّوا} أيها المؤمنون آلهة {الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} آلهة أخرى وهذا النهي ليس لاحترام تلك الأصنام المهانة ولا لأنه لا يجوز سبها وإنما السبب فيه ما ذكره اللّه تعالى في جواب هذا النهي بقوله: {فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا} عدوانا وهاتين الكلمتين معناهما التجاوز عن الحق إلى الباطل كأنهم بقولهم ذلك تعدوا وظلموا {بِغَيْرِ عِلْمٍ} جهلا منهم بعظمة اللّه وما يجب أن يذكر به وحقيقة النهي هذا هو النهي عن سب اللّه لا عن سب الأوثان لأن سبهم مباح ولكنه لما كان يترتب عليه سب اللّه وسب رسوله المتسبب عن سبّها، نهاهم اللّه عنه درءا لهذه المفاسد ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، كما أن اجتناب المناهي مفضل على فعل الأوامر، وسبب نزول هذه الآية أن المؤمنين كانوا يسبّون أوثان الكفار فيردون عليهم فنزلت بالمنع لتلك الغاية، وما قيل إنها نزلت لما نزلت آية: {إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ} الآية 99 من سورة الأنبياء الآتية قال المشركون إذ ذاك لتنتهين عن سب آلهتنا يا محمد أو لنهجونّ ربك، لا يصح، لأن هذه الآية لم تنزل بعد، وكذلك ما قاله السدي من أنه لما حضرت وفاة أبي طالب قالت قريش انطلقوا بنا لندخل على هذا الرجل فلنأمرنه بنهي ابن أخيه فإنا نستحي أن نقتله بعد موته فتقول العرب كان عمه يمنعه فلما مات قتلوه فتوصم وصمة لا خلاص لنا منها، فانطلق منهم أبو سفيان وأبو جهل والنضر بن الحارث وأمية وأبي ابنا خلف وعقبة بن أبي معيط وعمرو بن العاص والأسود بن أبي البحتري إلى أبي طالب، فقالوا له أنت كبيرنا وسيدنا وإن ابن أخيك محمد قد آذانا وآلهتنا فنحب أن تدعوه وتنهاه عن ذكر آلهتنا بسوء وإنا سندعه وإلهه فدعاه فجاء فقال له يا ابن أخي قد أنصفك قومك فاقبل منهم فقال صلّى اللّه عليه وسلم أرأيتكم إن أعطيتكم هذا فهل أنتم معطيّ كلمة إن تكلمتم بها ملكتم العرب ودانت لكم العجم وأدّت لكم الخراج فقال أبو جهل نعم وأبيك لنعطينكها وعشرة أمثالها فما هي؟ قال قولوا لا إله إلا اللّه، فأبوا وتفرقوا فقال أبو طالب قل غيرها يا ابن أخي فقال يا عم ما أنا بالذي أقول غيرها ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يدي ما قلت غيرها، قال هذا صلّى اللّه عليه وسلم على فرض المحال إرادة إلى يأسهم، فقالوا لتكفن عن شتم آلهتنا أو لنشتمن إلهك، لا يصح هذا، لأن هذه حادثة قديمة وقعت قبل نزول هذه الآية عند وفات أبي طالب كما أشرنا إليها في الآية 56 من سورة القصص في ج 1 ونوهنا بها في الآية 26 من هذه السورة وبين وفاته ونزول هذه السورة ما يقارب السنتين، قال تعالى: {كَذلِكَ} مثل ما زينا لهؤلاء المشركين عبادة الأوثان وطاعة الشيطان {زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} في هذه الدنيا على علاته فرأوه حسنا إن كان خيرا وطاعة أو شرا ومعصية {ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ} في الآخرة {فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ 108} فيها ويجازيهم عليه فيثيب المؤمن الجنة ويزج الكافر بالنار إن شاء وقدمنا ما يتعلق في بحث التزيين والإضلال وان اللّه تعالى ليس عليه رعاية الأصلح للعبد وإنما عليه لا على طريق الوجوب تبين الطريقين له راجع الآية 12 من سورة الحجر المارة وفيها ما يرشدك إلى مراجعته من الآيات المتعلقة في هذا البحث تعلم أن المزين في الحقيقة هو الله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ} هؤلاء الكفرة {جَهْدَ أَيْمانِهِمْ} أشدها وأوكدها {لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها} قالت قريش يا محمد أما أخبرتنا أن صالحا أخرج لقومه ناقة من الجبل وأن موسى قلبت عصاه حية وضرب بها الحجر فتفجر الماء منها، وأن عيسى كان يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص؟
قال بلى، قالوا فأتنا به نصدقك ونؤمن، قال أي شيء تحبون قالوا تجعل لنا الصفا ذهبا وابعث لنا موتانا نسألهم عنك ونزل لنا الملائكة ليشهدوا نبوتك، قال صلّى اللّه عليه وسلم إن فعلت بعض ما تقولون أتصدقون؟ قالوا نعم، واللّه نتبعنّك أجمعين، ثم إن المسلمين سألوا رسول اللّه ذلك رغبة بإيمانهم فقام صلّى اللّه عليه وسلم يدعو ربه أن يجعل الصفا ذهبا فنزل جبريل وقال ما شئت إن شئت أصبح ذهبا ولكن إذا لم يصدقوك ينزل بهم العذاب فيستأصلهم دفعة واحدة وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم، فقال صلّى اللّه عليه وسلم: بل حتى يتوب تائبهم، فأنزل اللّه هذه الآية وأمره بأن يقول لهم ما قال تعالى: {قُلْ} يا محمد لهؤلاء المقترحين {إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ} هو يأتيكم بها وليست عندي ولا لي قدرة على الإتيان بها إذا لم يشأ اللّه وأنتم أيها المؤمنون أعرضوا عن هذا ولا تقولوا إنهم يؤمنون، واللّه تعالى يقول لكم {وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ} تلك الآيات المقترحة من عند الله: {لا يُؤْمِنُونَ 109} بها وحينئذ ينزل بهم العذاب ويستأصلهم كما استأصل قوم صالح إذ جرت عادة اللّه أن كل أمة اقترحت على نبيها آية فأعطاها اللّه لهم ولم يؤمنوا عذبهم جميعا وأحاط بهم عقابه الذي لا مرد له خاطب صلّى اللّه عليه وسلم أصحابه الذين سألوه إنزال الآيات حبا بإيمان المشركين من قومهم بما أوحى اللّه به إليه ليرتدعوا عن ذلك لأنهم لا يعلمون أنهم يؤمنون بها إذا نزلت ولا يعلمون أنها إذا نزلت ولم يؤمنوا يحيق بهم الداب لذلك جاءت هذه الآية إخبارا بمعرض النهي وإنما لم ينزل اللّه عليهم ما اقترحوه لعلمه أن أيمانهم فاجرة كاذبة وأن إيمانهم كلهم في زوايا العدم، ولم يحن الوقت لإيمان من يؤمن منهم، كما أنه لم يحن أجل تعذيب من يعذبه منهم لأن أقداره تعالى مدونة في لوحه ثابتة في علمه الأزلي لا تقدم ولا تؤخر.
وهذا التفسير على قراءة لا يؤمنون بالياء وهي الأوفق للمعنى والأحسن للسياق والأليق بالسياق، وأما على قراءة {لا تُؤْمِنُونَ} بالتاء الفوقية فيكون الخطاب للمشركين وقد مشى عليها بعض المفسرين والمعول على الأول لأن المؤمنين أحبوا نزول الآيات لما رأوا قومهم قد وثقوا الأيمان لحضرة الرسول بأنهم يؤمنون إذا نزلت طمعا بإيمانهم كما ذكرنا.

.مطلب الاستفهام الإنكاري له معنيان وتمحيص لا في هذه الآية وما يناسبها:

وما في الآية استفهامية إنكارية والاستفهام الإنكاري له معنيان بمعنى لم وبمعنى لا فإن كان بمعنى لم يقال وما يشعركم انّها إذا جاءت يؤمنون بدون لا على معنى لم قلتم أنها إذا جاءت يؤمنون وتوقعتم ذلك والحال بخلافه.
وإن كانت بمعنى لا يقال وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون، على معنى لا تعلمون أنهم لا يؤمنون، فلذا توقعتم إيمانهم وهذا هو المراد بالآية واللّه أعلم، ويرجع إلى إقامة عذر المؤمنين في طلبهم ذلك ورغبتهم فيه، وقال بعض المفسرين إنّ لا زائدة وهو غير سديد إذ لا زائد في القرآن وكل حرف فيه له معنى لا يؤديه غيره، ويزعم هذا القائل أن لا هنا مثل لا في قوله تعالى: {ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} الآية 12 من سورة الأعراف في ج 1، وقوله تعالى: {وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} الآية 96 من سورة الأنبياء الآتيه، على أن لا فيهما غير زائدة كما مر في تفسير الآية الأولى وسيأتي في الثانية أيضا لأن المعنى مستقيم بوجودها كما ستقف عليه.
كما أنهم قدروا (لا) في الآية المفسرة آنفا عدد 105 لتصير لئلا يقولوا درست وفي {عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} الآية 185 من البقرة في ج 3، وشبهها من الآيات مع أن المعنى جار على المطلوب بدون هذا التقدير كما مر في تفسير الآية الأولى، وما سيأتي في الثانية إن شاء اللّه، بأن تقدير لا لا لزوم له راجع الآية 96 من سورة يوسف المارة، وقال بعض المفسرين إن (إنّ) من انها بمعنى لعل كقولهم أئت السوق إنك تشتري لنا شيئا أي لعلك تشتري، وقول عدي بن زيد:
أعاذل ما يدريك أن منيتي ** إلى ساعة في اليوم أو في ضحى غد

أي لعلّ منيّتي، وقول امرئ القيس:
عوجوا على الطلل المحيل لأننا ** نبكي الديار كما بكى ابن خزام

أي لعلّنا، وقول الآخر:
أريني جوادا مات هولا لأنني ** أرى ما تربني أو بخيلا مخلدا

وقول الآخر:
هل أنتم عائجون بنا لأنا ** نرى العرصات أو أثر الخيام

وهذا وإن كان مثله كثيرا لجريانه في كلام العرب إلا أن الآية لا تنطبق عليه ولا حاجة إلى الركون لما هو خلاف الظاهر، وأما ما احتج به من أن أبي بن كعب قرأ لعلها إذا جاءت فلا عبرة به لأنها تفسير لا قراءة، ولو فرض محالا أنها قراءة فهي شاذة، ولم تثبت في المصاحف ولم يقرأ بها غيره، لذلك فإن ما جرينا عليه هو الأولى بالمقام والأنسب لظاهر التنزيل والأليق بسياق التأويل واللّه تعالى أعلم {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ} عن قبول الحق فنحول بينه وبين أن تعيه قلوبهم لئلا يؤمنوا {وَأَبْصارَهُمْ} كي لا يروه فيما لو كان مرثيا ولا يروا المنزل عليه على حقيقته التي جعله اللّه عليها حتى لا يصدقوه فيما يتلو عليهم من تلك الآيات، وهذا تقرير لحكم الآية الأولى واثبات لعدم إيمانهم وذلك لما سبق في علم اللّه سوء استعدادهم الكامن في ما هيّاتهم أفاض عليهم ما يقتضيه وفعل بهم ما سألوه بلسان الاستعداد بعد أن رغبهم ورهبهم وأقام الحجة عليهم وأوضح لهم الحجة وللّه الحجة البالغة وما ظلمهم اللّه ولكن أنفسهم يظلمون، وإنما حال بينهم وبين الإيمان بالآيات ولم يتركهم يرونها كما أنزلت لا عند نزولها ولا بعده {كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي كما أنهم لم يؤمنوا بمحمد عند إراءتهم الآيات المتقدمة مثل انشقاق القمر والإخبار بالغيب والإسراء والمعراج وما وقع فيها من الآيات وغيرها، فلو أنزلنا عليهم الآن آية حسب طلبهم لكفروا بها أيضا كما كفروا بما قبلها وكذبوا رسولهم، ولهذا أنزل عليهم آية: {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ 110} يترددون في الحيرة لا يهتدون إلى الحق لأن قلوبهم هواء منه ولا يرونه لغفلتهم عنه، واعلم يا أكمل الرسل أن من قومك من لم يؤمن وخاصة المقترحين.
{وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى} كما طلبوا منك {وَحَشَرْنا} جمعنا وسقنا {عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا} بضمتين وقرئ بضم القاف وفتح الباء وبكسر القاف وفتح الباء، وبكسر الباء وضم القاف، وعلى الكل معناه المشاهدة مقابلة وعيانا، أي لو جعلنا لهم ذلك كله فواجهوا الملائكة والموتى وتكلموا معهم إلخ {ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا} وهذه الجملة جوابلو التي هي حرف امتناع أي امتنع إنزال الملائكة إلخ لامتناع إيمانهم، واعلم أن جواب لو إذا كان منفيا لا تدخله اللام، راجع بحثها في مغني اللبيب إذ أحاطه بجميع ما يتعلق بها، وقد وهم بعض المفسرين فقدروها وعللوا هذا الحكم بسوء استعدادهم الثابت أزلا في علم اللّه المتعلق بالأشياء حسبما هي عليه في نفس الأمر وعلله بعضهم بسبق القضاء عليهم بالكفر واعترض عليه بعض الأفاضل بأن فيه تعليق الحوادث بالتقدير الأزلي ولا يخفى فساده، على أنه لا خفاء بأن القضاء الأزلي الذي هو سبب لوقوع الحوادث ولا فساد فيه وفي هذا المقال بحث أعرضنا عنه إذ لا طائل تحته، وفسر بعضهم قبلا وعليه يكون المعنى لو جمعنا كل الأشياء فأحضرناها وجعلناها كفلاء بصحة ما تقول من أحقية الإيمان لم يؤمنوا وهو كما ترى وفي الحقيقة لا يستطيع أحد أن يؤمن {إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ} إيمانه {وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ 111} ذلك ويزعمون أن الإيمان بأيديهم وهو زعم باطل وقول عاطل وهذه الآية كالجواب للمؤمنين الذين طلبوا من حضرة الرسول إنزال الآيات المذكورة حبّا بإيمان المشركين الذين اقترحوها وسبب لنزولها قال تعالى: {وَكَذلِكَ} مثل ما جعلنا لك يا محمد أعداء من قومك وغيرهم {جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا} ثم بين هذا العدو بأن أبدل من لفظه قوله: {شَياطِينَ} وعتات {الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} والشيطان يطلق على كل عات تمرد من الإنس والجن قال مالك بن دينار شياطين الإنس أشد من شياطين الجن، لأن الأخير إذا تعوذت منه يهرب، والأول يثبت، ولذلك قدمه اللّه تعالى، روى الطبري عن أبي ذر ما يؤيد هذا القول، ورواه البغوي أيضا ولكن بغير سند، وهذا القول أولى من جعل الشياطين كلها من الجن أي أن إبليس يرسل أعوانه لإغواء الإنس والجن لمخالفة ظاهر الآية وقد جاء بالخبر: قرناء السوء شر من شياطين الجن بما يؤيد ما ذكرناه لأن قرين السوء يوقع صاحبه في المهالك بما يسول له من سلوك سبل الشر وقد يقره عليها أحيانا أما شيطان الجن فيقصر عمله على الوسوسة بتحسين كل قبيح ليس إلا لقوله تعالى: {يُوحِي} يسر ويشير {بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ} أي يوسوس شياطين الجن إلى شياطين الإنس وبعض الإنس إلى الإنس وبعض الجن إلى الجن فيفتنون بعضهم أيضا ولا يقال يوسوس الإنس إلى الجن لأنه لا يقدر أن يجري منه مجرى الدم كما يفعل الجن ذلك بالإنس قال صلّى اللّه عليه وسلم إن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم وأنّى للإنسان من ذلك، وهذه الوساوس التي تلقى بقصد الإغراء {زُخْرُفَ الْقَوْلِ} بالنصب على أنها مفعول يوحي وهو عبارة عن القول الباطل المموه الذي ظاهره غير باطنه كالإناء المطلي ليكون {غُرُورًا} خداعا حيث يأخذونهم بما يزينون لهم من الأعمال القبيحة على غرة منهم وغفلة {وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ} البتة إذ لا يقع شيء دون مشيئته كما مر في الآية السابقة وهي مؤيدة لما جاء في الآية 110 المارة بشأن الإرادة لأنه تعالى قادر على منعهم من الوسوسة وقادر على حفظ عباده من قبولها من بعضهم ومن الجن أيضا، وإنما يسلطهم امتحانا على من يشاء واختبارا لبعض عباده راجع الآية 36 من سورة الحجر المارة {فَذَرْهُمْ} اترك هؤلاء الكفرة يا أكرم الخلق ودعهم {وَما يَفْتَرُونَ 112} من القول فيك وفي ربك وكتابك فإني سأخزيهم وأنصرك عليهم {وَلِتَصْغى إِلَيْهِ} تذعن وتنقاد إلى تمويه الشياطين ووساوسهم {أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} ممن سبق في علم اللّه شقاؤهم {وَلِيَرْضَوْهُ} لأنفسهم طوعا واختيارا ورغبة إذ تميل إليه قلوبهم حبا به {وَلِيَقْتَرِفُوا} من هذه الزخارف الآخذة بهم إلى قبيح العمل وسوء الفعل وخطأ القول {ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ 113} من أنواع الآثام مما يزين لهم شياطينهم من الكفر والشرك والعصيان والاستهزاء والسخرية بنا فإنا من ورائهم، وفي هذه الآية من التهديد والوعيد ما لا يخفى ولما قال المشركون يا محمد اجعل بيننا وبينك حكما من أعيان العرب نتقاضى إليه في أمرنا وأمرك أنزل اللّه جل إنزاله قل يا أكرم الرسل {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} يقضي بيننا {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ} علي {مُفَصَّلًا} فيه كل شيء من الحلال والحرام والأمر والنهي والوعد والوعيد والقصص والأخبار والحدود والأحكام والحوادث والأمثال، وموضحا فيه الحق من الباطل والصدق من الكذب، فهو وحده الحكم الحق بيني وبينكم وهو يحتوي على ما في الكتب القديمة والصحف وفيه ما لا يوجد فيها، وهذا القول وقع بالمدينة والحكم الذي أرادوه من أحبار اليهود وأساقفة النصارى الموجودين فيها لأن هذه الآية الخامسة المدنية من هذه السورة المستثناة منها {وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ} من اليهود والنصارى الذين أرادهم المشركون حكما {يَعْلَمُونَ} حق العلم ويوقنون حق الإيقان {أَنَّهُ} أي القرآن المنزل عليك والذي تحدثهم به {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} لما هو ثابت في كتبهم بالدلائل القاطعة على صحته وصدق نبوتك {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ 114} الشاكين في ذلك بل أيقن وتحقق أنهم عالمون به علم اليقين فلا يخطر ببالك عدم علمهم به أصلا وإنما يجادلونك به عنادا {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} يا سيد الرسل بالحكم على صدق نبوتك وكون الموحى إليك من عنده وقرئ كلمات، وهي لسياق الآية الآتية، على أنه قد يراد بها الجمع أيضا عند الإضافة {صِدْقًا} في قوله: {وَعَدْلًا} في قضائه {لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ} ولا راد لحكمه ولا مغيّر لقضائه {وَهُوَ السَّمِيعُ} لأقوال عباده {الْعَلِيمُ 115} بما يفعلونه فقد حكم اللّه جل حكمه لنبيه وهو أحكم الحاكمين بأن رسالته حق وكتابه حق وما يدعو له حق، قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ} من الكفرة لأنهم الأكثر قلّلهم اللّه ولا يزال أهل البدع والأهواء والبغاة أكثر {يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} دينه السوي الذي شرعه لعباده وبعثك به وهو الطريق الذي يفوز من يتبعه {إِنْ يَتَّبِعُونَ} أي ما يتبع هؤلاء المجادلون في معتقداتهم {إِلَّا الظَّنَّ} بأن آبائهم كانوا عليه وتلقوه من آبائهم ويزعمون أنه الحق {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ 116} يكذبون في ظنهم هذا، كما أن آباءهم كاذبون في ادعائهم أحقية دينهم، وسبب نزول هذه الآية أن الكفرة جادلوا المؤمنين في أكل الميتة بقولهم كيف تأكلون ما تقتلون أي تذبحون ولا تأكلون ما يقتله ربكم مع أنكم تأكلون ما يقتله طيوركم وكلابكم ونبالكم والنتيجة واحدة وهذا كقولهم: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} على التسوية بينهما، وهو جهل محض منهم لعدم علمهم حكمة اللّه تعالى فيهما وما يترتب عليهما من المضار وسنأتي على بيانه إن شاء اللّه في مطلع سورة المائدة وأواخر سورة البقرة في ج 3 قال عكرمة إن المجوس سألت المشركين عن ذلك فنزلت، وقال ابن عباس إن اليهود سألت الرسول عنه فنزلت والأول أولى، قال تعالى يا سيد الرسل ذرهم على غيهم هذا {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ} وهم الكفرة على اختلاف نحلهم ومللهم {عَنْ سَبِيلِهِ} السوي العدل {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ 117} وهم عباده المؤمنون وهو العالم بما يستوجبه الأول وما يستحقه الثاني {فَكُلُوا} أيها المؤمنون {مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} أثناء ذبحه ولا تأكلوا مما أمانه الله: {إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ 118} مصدقين بها متحققين أحقيتها وهذا جواب لأولئك القائلين لما ذا لا تأكلون مما يقتل اللّه وتأكلون مما تقتلون {وَما لَكُمْ}.