فصل: مطلب الأشياء التي ذم اللّه بها العرب وعدم جواز الوقف على الذكور وتخصيصهم دون الإناث بشيء:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



كما استمتع الجن بدلالتنا على الشهوات المنهي عنها وأوصلونا إليها استمتعنا بطاعتهم وإغوائهم بحيث صار بينهم القبيح والخبيث متقابلا {وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا} في الدنيا وحضرنا يوم الجزاء الذي وعدتنا به وهذا اعتراف بما كان منهم في الدنيا من طاعة الشيطان واتباع الهوى والتكذيب بالبعث والقضاء زمن الاستمتاع وإبداء زمن الحسرة والندم على مافات، فأجابهم اللّه بقوله: {قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ} مأواكم ومنزلكم ومقركم {خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ} من مقدار مبعثهم من قبورهم ومدة حشرهم وزمن حسابهم ووقوفهم إلى وقت دخولهم النار لأن الاستثناء من يوم القيامة المعنى بقوله تعالى ويوم نحشرهم أي منذ يبعثون ولا وجه لقول من قال إلا أوقات نقلهم من النار إلى الزمهرير وبالعكس، أو كلما يستغيثون من عذاب فينقلون لغيره، لأن هذا كله عذاب واختلاف تنوعه يكون فيما بعد يوم القيامة لا فيه، وقال ابن عباس المستثنيون قوم سبق في علم اللّه أنهم مؤمنون وتقدم بحثهم مستوفيا في الآيتين 107- 108 من من سورة هود المارة، والقول الحق أنه لا ينبغي لأحد أن يحكم على اللّه تعالى في خلقه أن لا ينزلهم جنة أو نارا لأنه الفعال لما يريد {إِنَّ رَبَّكَ} يا سيد الرسل {حَكِيمٌ} فيما يفعل بأوليائه وأعدائه {عَلِيمٌ 128} بما يصيرون إليه قبل أن يلقوه {وَكَذلِكَ} مثل ما أنزلنا العذاب بالجن والإنس الذين انتفعوا وتمتعوا ببعضهم في الدنيا في عصياننا وتكذيب رسلنا وإنكار ما جاءوهم به من عندنا {نُوَلِّي} في الآخرة {بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا} في النار ليذوقوا العذاب فيها سوية مثل ما ذاقوا المعاصي في الدنيا {بِما كانُوا يَكْسِبُونَ 129} من الآثام وكما جعلنا المؤمنين بعضهم أولياء بعض في الدنيا، فبعضهم كذلك أولياء بعض في الآخرة، كذلك الكفرة بعضهم أولياء بعض في الدنيا وفي الآخرة يتبع بعضهم بعضا ونقول لهم على جهة التوبيخ والتقريع {يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} الذين ضللتم وأضللتم في الدنيا {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} من جنسكم ليعود الضمير إلى الأخير وهم الإنس لأن الجن لم يرسل لهم رسولا منهم ما عدا الذين سمعوا القرآن من حضرة الرسول وأنذروا به قومهم فهم رسل محمد صلّى اللّه عليه وسلم إليهم مثل الحواريين الذين أرسلهم عيسى عليه السلام لبث دعوته باسمه راجع الآية 36 من سورة الأحقاف الآتية والآية 13 من سورة يس في ج 1.
هذا وإن رجوع الضمير إلى أحد المذكورين جائز في كل ما اتفق في أصله ولما اتفق ذكر الجن والإنس جاز مخاطبتهما بما ينصرف لأحدهما كقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ} الآية 22 من سورة الرحمن في ج 3 وإنما يخرج من أحدهما وهو الملح دون العذب لأن ذكرهما قد جمع في قوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ} الآية 19 منها، والظاهر أنه تعالى أرسل إليهم رسلا منهم لأنهم مكلفون بالعبودية كالبشر الذين أرسل إليهم رسلا منهم، وعليه فإن ما جرينا عليه تأويل على خلاف الظاهر تبعنا فيه أقوال المفسرين الأعلام، والسائق إليه عدم العلم بإرسال رسل إلى الجن منهم من قبل اللّه تعالى وما جاء في هذه الآية صرف إلى غير الظاهر بما ذكر من التأويل المار ذكره مع أن الآية تدل دلالة صريحة لا غبار عليها أن اللّه أرسل إلى الجن كما أرسل إلى الإنس وإذا عرفت أن الجن سكنوا هذه الأرض التي أنت عليها قبل الإنس أي قبل آدم عليه السلام وذريته من بعده آلاف السنين اعترفت بجواز إرسال الرسل إليهم، وأنهم أهلكوا بعد أن عاثوا في الأرض فسادا بعذاب من عند اللّه كما أهلكت الأقوام العاصية من البشر، يدل على هذا الآية 30 من سورة البقرة في ج 3 فراجعها، ولما لم يبق منهم إلا إبليس ألحقه اللّه تعالى بالملائكة لما كان عليه من العبادة والطاعة في الظاهر وشهرته بهما عند الملائكة، قال تعالى: {كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} الآية 50 من سورة الكهف الآتية وضمير الجمع في قوله تعالى: {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي}.
بما حللت وحرمت وأوجبت وأبحت ووعدت وأوعدت يؤيد إرسال الرسل إليهم كغيرهم والضمير في: {وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا} أي البعث بعد الموت يؤيد إرسال الرسل إليهم منهم أيضا {قالُوا} أي كفار الفريقين {شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا} بأن الرسل بلغونا آياتك وأنذرونا عقابك وحذرونا هول هذا اليوم، وقد كذبناهم لأنا استبعدنا ما أخبرونا به ولم نصدق الإعادة بعد الموت {وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا} بما فيها من الشهوات المموهة المزخرفة {وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ 130} إذ لم يروا بدا من الاعتراف ولا مناص من الهرب واعترافهم هذا لا ينافي جحدهم الشرك في قولهم: {وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ} الآية 23 المارة، وقد مر أن يوم القيامة طويل وأحواله مختلفة ولكل مقام مقال فإنهم إذا رأوا ما حصل للمؤمنين من الكرامة أنكروا الشرك وإذا رأوا الحساب جادلوا وإذا رأوا شركاءهم طرحوا اللوم عليهم وإذا أدخلوا النار تجادلوا مع أوليائهم ورؤسائهم وهكذا إلا أن كل ذلك لا ينفعهم ولا يخلّصهم من العذاب المتحتم عليهم وقدمنا في الآية 27 المارة والآية 83 من سورة النمل في ج 1، ما يتعلق بهذا البحث فراجعه {ذلِكَ} إشارة لما تقدم في قوله تعالى ويوم نحشرهم إلى هنا {أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ} أقدموا عليه قبل ان نرسل إليهم رسولا يأمرهم وينهاهم ويرشدهم لما يأنون ويذرون {وَأَهْلُها غافِلُونَ 131} لم ينبهوا من قبل رسل اللّه أن ذلك يكون ظلما عليهم واللّه تعالى لا يحب الظلم ولا يفعله كيف وقد نهى عنه عباده أما إذا جاءهم رسول من عند اللّه وأنذرهم عذابه إن لم يؤمنوا ويقلعوا عن المعاصي ولم يفعلوا فأوقع عليهم العذاب فيكون عدلا منه لأنهم هم الذين ظلموا أنفسهم بعدم الامتثال لأوامر الرسل وتماديهم في الشرك والظلم، والعدل الذي أمر اللّه به عباده هو الحق الخالص روح كل نظام وحياة كل كمال وهو الأصل الراسخ وقوام كل خير في السماء والأرض يهتدي إليه كل ذي عقل سليم ويؤيده العلم الصحيح ويؤدي إلى النظر القويم فيرتاح إليه القلب ويطمئن له الضمير وتركن إليه الجوارح {وَلِكُلٍّ} من الفريقين {دَرَجاتٌ} للمؤمنين في الجنة ودركات للكافرين في النار {مِمَّا عَمِلُوا} لكل بمقتضى عمله وسببه جزاء له وثوابا للطائعين وعقابا للعاصين {وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ 132} سرا وعلنا خيرا أو شرا لأن كلا من الفريقين مدون عملهما من قبل الحفظة ومسجل في اللوح المحفوظ وثابت في علمه الأزلي {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ} عنهما وعن عملهما وهو {ذُو الرَّحْمَةِ} الواسعة {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} أيها الناس صالحكم وطائعكم {وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ} من خلقه أطوع وأحسن وأمثل منكم وينشئهم {كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ 133} أهلكوا قبلكم بذنوبهم.
واعلموا أيها الناس {إِنَّ ما تُوعَدُونَ} به من العذاب إذا أصررتم على كفركم {لَآتٍ} إليكم وواقع بكم لا محالة كما أن ما توعدون به من البعث والحساب على الأعمال والعقاب عليها كائن البتة {وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ 134} اللّه ولا فائتين عذابه ولا مفلتين منه، لأنه يدرككم حيثما كنتم ويدخلكم النار، كما أن ما وعده للمؤمنين من الثواب آت إليهم، قال تعالى لرسوله: {قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ} حالتكم التي أنتم عليها وقرئ مكاناتكم جمع مكانة بمعنى المكان وقيل على تمكنكم أي حسبما تستطيعون من الأعمال والأقوال {إِنِّي عامِلٌ} على حالتي وتمكني {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} غدا في الآخرة {مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ} المحمودة أنا أم أنتم فاتقوا اللّه قبل أن يحل بكم عذابه وأقلعوا عن الظلم {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ 135} بمطلوبهم ولا يفوزون بمرغوبهم إذ لا يسعد من كفر باللّه، وما قيل إن هذه الآية منسوخة لأن المراد منها ترك القتال لا وجه له بل هي محكمة وغاية ما فيها التهديد والوعيد وهي من الأخبار والأخبار لا يدخلها النسخ، تأمل ما قدمناه في الآيات 69- 70 و91- 104 من هذه السورة وهذا طريق لطيف في الإنذار جاء على حد قوله تعالى: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ} الآية 81 من هذه السورة أيضا.

.مطلب الأشياء التي ذم اللّه بها العرب وعدم جواز الوقف على الذكور وتخصيصهم دون الإناث بشيء:

قال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ} خلق وبرأ {مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيبًا} حظا وسهما ولأصنامهم مثله كما يدل عليه قوله جل قوله: {فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا} بزعمهم أيضا من حيث أن اللّه لم يأمرهم بذلك ولم يشرع لهم هذه القسمة ولهذا {فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ} أصناما أو غيرها {فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ} لأنه ليس له خالصا وهو جل شأنه لا يقبل الشركة ولأنهم لم يعطوه للمساكين ولم ينفقوه على الأرحام والفقراء والضيوف {وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ} لأنهم ينفقونه على سدنة الأوثان ويسمونه للّه تسمية فقط، وهكذا كان حكمهم السيء ولهذا عابه اللّه عليهم بقوله: {ساءَ ما يَحْكُمُونَ 136} في هذا التقسيم المجحف إذ يؤثرون آلهتهم على اللّه واللّه أحق أن يراعى جانبه ويحفظ حقه، فبئس القضاء قضاؤهم.
روي أنهم كانوا يعينون أشياء من حرث وأنعام للّه تعالى ومثلها لآلهتهم فإذا رأوا ما جعلوه للّه زاكيا ناميا رجعوا فجعلوه للأوثان، وإذا رأوا ما جعلوه للأوثان زاكيا ناميا تركوه لها وقالوا إن اللّه غني عنه، قاتلهم اللّه يعرفونه غنيا وقادرا وضارا ونافعا ويعبدون غيره ويرجحونه عليه {وَكَذلِكَ} مثل ما زين لهم تجزئة أحوالهم {زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ} شياطينهم لأنهم أطاعوا وسوستهم يوأد البنات وسموا شركاء لهذا المعنى لأن الشريك قد يسمع كلام شريكه راجع الآية 31 من سورة الإسراء والآية 29 من سورة التكوير المارتين في ج 1، وسماعهم هذا لأوامرهم ما هو لخيرهم بل لشرهم لقوله تعالى: {لِيُرْدُوهُمْ} يدمروهم ويهلكوهم {وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} يشوشوه عليهم ويخلطوا به ما ليس منه من إفكهم وما تسوله له أنفسهم، بأن يدخلوا عليهم الشك فيه لأن العرب في الأصل كانوا على دين إسماعيل عليه السلام فلبست عليهم شياطينهم أمر ذلك الدين تدريجا ولم يكن لهم كتاب يرجعون إليه فيما اندرس من أمر دينهم وبقوا كذلك يصغون لوساوسهم حتى أخرجوهم عنه وحسنوا لهم ما يلقونه إليهم من الأفعال والأقوال ووضعوا لهم هذه الأوضاع الفاسدة وزينوها لهم فتبعوها {وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ} إذ لا يقع شيء في كونه إلا بإرادته ومشيئته راجع الآيات 125، 107، 112 المارات من هذه السورة، وجاءت هذه الجملة تأكيدا لمثلها في الآية 112 بأن كل ما فعله المشركون وغيرهم بمشيئة اللّه تعالى خلافا للمعتزلة {فَذَرْهُمْ} يا سيد الرسل {وَما يَفْتَرُونَ 137} على ربك وعليك من الإفك والبهت فإن ضرر افترائهم عليهم لا يضرك منه شيء وهذه الجملة على حد قوله تعالى: {اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ} الآية 40 من سورة فصلت الآتية وفيها من التهديد ما لا يخفى، وفيها دلالة على كذبهم من نسبة هذا التحريم والتحليل والتقسيم والقتل إليه تعالى عن ذلك، ومن جملة أوضاعهم الفاسدة عدا ما تقدم ما ذكره اللّه بقوله: {وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} حرام لأن الحجر معناه المنع وهم يريدون أنها لا ينتفع بها، لأنها مخصصة لأوثانهم فقط لقوله: {لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ} من سدنة الأوثان وخدمهم الرجال منهم دون النساء {بِزَعْمِهِمْ} الفاسد بأن النساء لا يستحقون ذلك ويطلق الزعم على القول بالظن المشوب بالكذب {وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها} عن الركوب وهي البحائر والسوائب والحوامي الآتي ذكرها في الآية 101 من سورة المائدة في ج 3 {وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} عند الذبح اكتفاء بذكر أوثانهم ويفترون هذا وغيره {افْتِراءً عَلَيْهِ} تعالى إذ نسبوا ذلك اليه كذبا محضا تعالت حضرته المقدسة عنه {سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ 138} من تلك النسبة بهتا وعدوانا وفي هذه الآية أيضا تهديد ووعيد لا يخفى على من له لب واع وفكر سديد {وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا} أي أن نسائهم لا يجوز لهن أكلها كأنها وقف على الذكور {وَإِنْ يَكُنْ} المولود منها {مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ} نساؤهم ورجالهم يأكلون منها على السواء فاتركهم يا سيد الرسل {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} أي جزاء وصفهم الكذب على اللّه في هذا وغيره، قال تعالى: {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ} الآية 63 من سورة النحل الآتية ونسق هذه الجملة من بديع الكلام وبليغه لأنهم يقولون وصف كلامه الكذب إذا كذب وعينه تصف السحر أي أنه ساحر وقده يصف الرشاقة بمعنى انه رشيق القامة مبالغة كأن من رآه أو سمعه وصف له ذلك بما يشرحه له قال أبو العلاء المعري:
سرى برق المعرة بعد وهن ** فبات برامة يصف الملالا

وهذا كله من مقتضى الحكمة {إِنَّهُ} اللّه تعالى: {حَكِيمٌ} بما يفعل بعباده {عَلِيمٌ 139} بما يفعلون له ولغيره وهذا تعليل للوعد بالجزاء فإن للعليم الحكيم بما صدر عنهم لا يترك جزاءهم الذي هو من مقتضى الحكم واستدل بهذه الآية على أنه لا يجوز الوقف على الذكور دون الإناث وأنه إذا فعل ذلك يفسخ ولو بعد الموت لأن هذا من فعل الجاهلية وقد نهى صلّى اللّه عليه وسلم عن التأسي بأفعالهم أخرج البخاري عن عائشة رضي اللّه عنها قالت يعمد أحدكم إلى المال فيجعله الذكور من ولده ان هو الا كما قال اللّه تعالى: {خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا} وخالصة مصدر كالعاقبة وضع موضع الخالص مبالغة أو بتقدير ذو وهو شائع في كلام العرب يقولون فلان خالص أي ذو خلوص قال الشاعر:
كنت أمنيتي وكنت خالصتي وليس كل أمر بمؤتمن

قال تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا} لخفة عقولهم وقلة إدراكهم {بِغَيْرِ عِلْمٍ} جهلا بان اللّه تعالى لم يرزقهم وهو الرزاق لهم ولأولادهم والحافظ لهم جميعا وذلك من سبب الوأد وهو مخافة الفقر والسبي للبنات وهاتان الجريمتان قد تقع وقد لا تقع، فاستعجالهم على قتل أولادهم مع عدم معرفتهم العاقبة بمجرد ظنهم ووهمهم خسران لهم بازالة نعمة الولد التي هي أعظم النعم فاذا تسبب بإزالتها استوجب الذم ونقص عدده في الدنيا والعذاب العظيم في الآخرة وسبب نزول هذه الآية أن مضر وربيعة كانت تفعل ذلك فنعى اللّه عليهم قلة إخلاصهم له وعدم توكلهم عليه وكثرة جهلهم فيه وظاهر هذه الآية أنهم كانوا يقتلون الأولاد ذكرا وأنثى وعليه يكون السبب في قتلهم هو مخافة الفقر فقط أما مخافة السبي فلا يكون إلا بالإناث وسيأتي لهذا البحث صلة في الآية 59 من سورة النحل الآتية إن شاء اللّه تعالى القائل في فضح أعمالهم وتشنيع صنيعهم أيضا.
{وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ} من بعض الحروث والأنعام وغيرها زاعمين ان اللّه الذي حرم وحلل ذلك {افْتِراءً عَلَى اللَّهِ} واختلاقا من أنفسهم {قَدْ ضَلُّوا} في هذه المناسبة واقتراف تلك الأمور عن طريق الرشد والسداد {وَما كانُوا مُهْتَدِينَ 140} إلى الحق والصواب وقد ختم اللّه هذه الآية بلفظ الاهتداء يشير بها إلى أن الإنسان قد يضل عن الحق ولكنه يعود للاهتداء، وهؤلاء قد توغلوا في الضلال والاهتداء لم يحصل لهم قط وانهم أهل الذم لفعلهم الأمور السبعة المارة التي هي نقمة لهم لو كانوا يعقلون، فقد حرموا نعمة الولد بالقتل، ونعمة العقل بالسفاهة، ونعمة العلم بالجهل، ونعمة التحليل بالتحريم، ونعمة الصدق بالافتراء، ونعمة الرشد بالضلال، ونعمة الرجوع إلى الهدى بالإصرار على الكفر والضلال، ومن يضلل اللّه فماله من هاد، روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: إذا سرّك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام أي إلى هذه الآية، وهذه الآية المدنية السادسة.