فصل: مطلب ما تجب فيه الزكاة من الحبوب وغيرها والحكم الشرعي في قدرها وأن الزكاة لا تجب إلا بعد الحصاد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ} مرفوعات عن الأرض {وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ} منبسطة على وجه الأرض، وذلك أن أشجار العنب منه ما هو منبسط على الأرض ويسمى كرما عرفا على أن هنالك أخبارا بعدم جواز اطلاق لفظ الكرم على شجر العنب ومنه ما هو مرتفع على الأعواد كهيئة السقف ويسمى عريشا، هذا على تخصيص هذه الجنّات في الآية على العنب فقط أما إذا أطلق لفظ الجنات فإن المعروش منها كل ما انبسط على وجه الأرض وانتشر كالكرم والقرع والبطيخ والقثاء وشبهها من الأزهار غير المثمرة، وغير المعروش كل ما قام على ساق ونسق كالنخل والموز والتفاح وأشباهه، والزروع كالحنطة والذرة والرز وغيرها من النبات الغير مثمر أيضا، ولكن قوله تعالى بعد ذلك {وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ} يؤيد الأول وقد جعل اللّه كلا من ذلك {مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ} في الطعم كاختلاف شجره وثمره في اللون والشكل والحجم والرائحة {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهًا} في طعمه ولونه وشكله ورائحته أيضا {وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ} في شيء من ذلك، فيا أيها الناس {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ} وهذا أمر إباحة بتناول ثمر تلك الأشجار نضجت أو لا إذ لم يقل إذا نضج فيجوز أكله عند بدو إدراكه إذا لم يضر بالصحة فإذا علم ضرره حرم أكله لأن منها ما ينفع نضيجه ويضر نيئه ومنها ما لا، لأن القصد من خلقها والإنعام بها على عباده هو الأكل لما تشتهيه النفس منها راجع الآية 99 المارة {وَآتُوا حَقَّهُ} زكاته التي أوجها اللّه عليكم وبينها حضرة الرسول {يَوْمَ حَصادِهِ} وبعد تصفيته وجفافه وقد آذنت هذه الآية بجواز الأكل من تلك قبل إعطاء الزكاة لا لبيع وغيره.

.مطلب ما تجب فيه الزكاة من الحبوب وغيرها والحكم الشرعي في قدرها وأن الزكاة لا تجب إلا بعد الحصاد:

حذرا من وقوع آفة سماوية أو أرضية على الحبوب والأثمار فيتضرر بها، ولا زكاة وهو في السنبل والجربان والعثوق لعدم معرفة القدر الواجب، وهذا مما يؤيد بأن المراد بالمعروشات الأعناب إذ تجب فيها الزكاة، وكذلك ما عطفت عليها، وبأن هذه الآية مدنية، لأن الزكاة لم تفرض في مكة بل في المدينة وظاهر الأمر للوجوب إذ لا يوجد ما يصرفه عنه وهي محكمة سارية في كل نوع من أنواع ما تجب فيه الزكاة.
الحكم الشرعي:
وجوب الزكاة في جميع حواصل الزروع مما يكال أو يوزن ومن الفواكه التي تدخر فقط، فإذا كانت تسقى بالسيح أو المطر أو الندى من كل ما يسمى بعلا فقيه العشر، وإذا كانت تسقى بساقية أو نضح من كل ما كان بواسطة الإنسان أو الحيوان والآلات مثل المضخة والدولاب والغراف وغيرها فنصف العشر من كل ما بلغ النصاب وهو خمسة أوسق عبارة عن ثلاثمائة صاع، لأن الوسق ستون صاعا والصاع أربعة أمداد فتكون ألفا ومئتي مد، والمد رطل وثلث بالوزن العراقي والرطل مائة وثلاثون درهما، وقيل مائة وثمان وعشرون درهما وثلث الدرهم، فيكون القدر الذي تجب فيه الزكاة على الضبط خمسمائة حقه وعشر حقق، كل حقة أربعمائة درهم، وهذا ما يسمونه الآن قنطاران في بلاد سورية الشمالية، لأن رطلهم حقتان ونصف وسبعة عشر درهما، والقنطار مائة رطل، هذا وما قيل إن هذه الآية مكية وإنها منسوخة بآية الزكاة 267 من سورة البقرة في ج 3، وإن الأمر فيها للندب وإن المراد بالحق هنا صدقة التطوع فقيل أضعف من قيل لا عبرة به لأن الآية مدنية وإن صرف اللفظ على حقيقته للواجب أولى من صرفه على المجاز للندب واللّه أعلم {وَلا تُسْرِفُوا} أيها الناس فتتجاوزوا الحد، فتبخلوا فلا تؤدوا حق اللّه كاملا طلبا لترضية عيالكم وتتركوا عيال اللّه وتبخسوهم حقهم الذي فرضه اللّه لهم وهم لم يأخذوه منكم إلا بأمر اللّه، فيكون في الحقيقة الآخذ للزكاة هو اللّه الذي من عليكم وأهلكم للصدقة وكذلك لا تكثروا بأن تعطوا زيادة على الواجب أو على قدرتكم طلبا للشهرة والصيت لأن فيه ضياع المال والحرمان من الأجر والندامة فيما بعد، ولهذا عد إسرافا، قال تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ} الآية 29 من سورة الإسراء، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} الآية 67 من الفرقان في ج 1
فراجعها واعلم {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ 141} وكل شيء لا يحبه اللّه لا خير فيه، وسبب نزول هذه الآية أن ثابت بن قيس بن شماس صرم خمسمائة نخلة في يوم واحد وفرقها كلها ولم يترك لأهله شيئا، وهذا مما يؤيد أن الآية مدنية لأن الرجل من أهل المدينة والنخل فيها، قال تعالى: {وَمِنَ الْأَنْعامِ} أنشأ لكم أيها الناس {حَمُولَةً} لأثقالكم وأنفسكم إلى أمكنة بعيدة لم تبلغوها إلا بمشقة كالإبل والبغال والحمير والخيل راجع الآية 7 من سورة النحل الآتية {وَفَرْشًا} كالصوف والوبر والشعر لأن منه ما ينسج ويلبد ويدحي فيكون فراشا، وقيل مما لا يصلح للحمل كالغنم والمعز وصغار الإبل والبغال والخيل، وإنما سمي فرشا لدنوه من الأرض التي جعلها اللّه فراشا والأول أولى بالمقام وأنسب بالسياق أيضا {كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} منها ومن نتاجها ولا تحرموا منها ما أحله اللّه لكم {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ} طرقه ودسائسه مما يسوّل ويوسوس لكم فتبخلوا أو تسرفوا أو تحرّموا وتخصّصوا وتفضلوا مما ذكر في الآيات السابقة من 130 إلى 140 واحذروا أيها الناس نزعات شياطين الإنس والجن {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ 142} إذ أظهر عداوته لأبيكم آدم واقتفى ذريته من بعده بالعداء.
واعلم أن لفظ عدو يأتي بمعنى أعداء قال ابن الانباري:
إذا أنا لم أنفع صديقي بوده ** فإن عدوي لم يضرّهم بغضي

أي أعدائي بدليل ضمير الجمع وله نظائر في القرآن منها قوله تعالى: {ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} فقد جعل المكرمين نعت لضيف وهو مفرد الآية 24 من سورة الذاريات الآتية، وفي قوله تعالى: {وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ} الآية 10 من سورة ق في ج 1، وقوله تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ} الآية 36 من سورة النور في ج 3، ومنها قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ} الآية 93 من آل عمران ج 3 إذ أكد المفرد بما يؤكد فيه الجمع وإذا علمتم أنه عدو لكم فاتهموه فيما يلقى إليكم ولا تقروه في قلوبكم لسابق عداوته وتمسكوا بأوامر اللّه وشرعه الذي أنشأ لكم من الأنعام {ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ} زوجين {اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} ذكر وأنثى ويقال لكل منها زوج إذا كان معه من جلسه وإذا كان وحده سمي فردا.
فيا سيد الرسل {قُلْ} لهؤلاء الفسقة {آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ} عليكم {أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ} على طريق الاستفهام الإنكاري {أَمِ} حرم {أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ} من تلك الأنعام لأنها لا تشتمل إلا على ذكر وأنثى مثلها.

.مطلب المحرم والمحلل هو اللّه وأن أمر الرسول هو أمر اللّه والتحريم لنفع العباد والحكم الشرعي بذلك:

ولم يحرم اللّه شيئا منها {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ} صحيح عن العلم الذي أتاكم من اللّه وجاءكم رسله بتحريم ذلك {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ 143} بما حرمتم وحللتم تبعا لأمر اللّه ورسوله وحاشا اللّه ورسوله أن يأمرا بذلك ولكنكم كاذبون بنسبة ذلك إليهما {وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا} التحريم كلا لم يوصكم ولا حجة لكم على ذلك ولا برهان ولا دليل ثم وبخهم اللّه على ذلك بقوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} جهلا منه وجرأة على ربه {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ 144} إلى طريق الحق ولا يوفقهم إلى الرشد، إذ لا أشد ظلما وأبعد عن السداد ممن يكذب على اللّه فينسب إليه التحريم والتحليل من حيث لم يحلل ولم يحرم، قال صلّى اللّه عليه وسلم من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار فكيف من يكذب على الله: {قُلْ} يا أكرم الخلق لهؤلاء المفترين {لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ} آكل يأكله {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} حتف أنفها أو ما هو في حكم الميتة كالموقوذة والمتردية والنطيحة وغيرها الوارد ذكرها في الآية 5 من سورة المائدة في ج 3 من كل ما لم تبق فيه حياة معتبرة ويزكى زكاة شرعية وهذا عام خص منه السمك والجراد كما خص مما بعده الكبد أو الطحال لأنه متجمد خلقة وهو {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} حال الحياة أو عند الذبح أما الذي يبقى في العروق وبين اللحم فهو عفو، وقال صلّى اللّه عليه وسلم: أحل لكم دمان الكبد والطحال وميتتان السمك والجراد {أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} قذر نجس ضار أكله يورث الجذام والدودة الوحيدة وقلة الغيرة وأمر آخر لم نطلع عليه بعد وكذلك الميتة والدم تورث أضرارا في الوجود لأن اللّه تعالى لم يحرم علينا شيئا إلا لمنفعتنا، على أنه لو فرض أن لا ضرر فيما حرم اللّه فيجب علينا اجتنابه امتثالا لأمره ولا حق للعبد أن يقول لم حرّم الخالق، ولا أن نطلب العلة بالتحريم، لأن أفعال اللّه لا تعلل وأمره مطاع جزما لأنا إذا كنا نتمثل أمر الطبيب فنمتنع عن أكل ما يحذرنا عنه ونتمثل أمر السلطان فننتهي عما ينهانا عنه فلأن نتمثل أمر اللّه من باب أولى {أَوْ فِسْقًا} ذبيحة ما {أُهِلَّ} رفع الصوت عند ذبحها بذكر ما {لِغَيْرِ اللَّهِ} بأن ذكر عليها اسم صنم أو غيره وهذا النّص في أن التحريم والتحليل لا يكونان إلا بوحي اللّه تعالى وأن المحرمات محصورة فيما حرمه اللّه نصّا في القرآن في هذه الآيات وآيات المائدة وغيرها في ج 3، ولا شك أن التحريم الوارد في القرآن عبارة عن خبر والأخبار لا يدخلها النسخ كما ذكرنا في الآية 135 المارة لاسيما وأن هذه الآية المكية تعضدها بالتأييد الآيات المدنيات في سورة المائدة وآية البقرة المصدرة بأداة الحصر وعددها 134 وهذه أيضا تفيد الحصر وكلها مطابقة بعضها لبعض في الحكم، مما يدل على أن لا شيء محرم غير ما ذكر فيها، وقد جاء تحريم بعض الأشياء بالسنّة مثل الحمر الأهلية، وكل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير وغير ذلك يجب علينا أيضا الاجتناب عنها وامتثال أمر الرسول لأنه من أمر اللّه قال تعالى: {ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} الآية 7 من سورة الحشر في ج 3.
راجع الآية 37 من هذه السورة تجد ما يكفيك في هذا البحث {فَمَنِ اضْطُرَّ} اجهد لتناول شيء من هذه المحرمات وكان {غَيْرَ باغٍ} على مسلم مضطر مثله تارك لمواساته مستحل لأكل الميتة بغير ضرورة {وَلا عادٍ} قاطع طريق أو متعمد أو متجاوز قدر حاجته كما أشرنا إليه في الآية 119 المارة فهو عفو لما فيه من الضرورة الماسة وقد رخص اللّه تعالى ورسوله للمضطر تناول المحرّم بقدر الحاجة ولهذا ختم اللّه تعالى هذه الآية بقوله: {فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ} لمن أخذ من هذه المحرمات قدر حاجته شريطة أنه غير باغ ولا عاد {رَحِيمٌ 145} به بمقتضى منّه ولطفه على عباده فلا يؤاخذهم على ما تفضل به عليهم من الرخص وترك العزائم عند الاقتضاء.
الحكم الشرعي: اعلم أن الحرام ما ورد النص بتحريمه سواء كان من اللّه أو من رسوله، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} الآية 30 من سورة البقرة في ج 3 فهذه الآية مطلقة تفيد حل كل شيء على وجه الأرض وما في المياه من حيوان وعامة الطير، وقيدت بما نص اللّه ورسوله على تحريمه، كما نوهنا به آنفا وسنتم بحثه في الآية 7 من سورة الخسر والآية 30 من البقرة في ج 3 إن شاء اللّه فراجعها، روى مسلم عن ابن عباس قال: نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير.
وروى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم نهى يوم خيبر عن أكل لحوم الحمر الأهلية وأذن في الخيل.
وعلى هذا فإن كل ما جاء النهي بنص الشارع فهو حرام ولهذا يحرم تناول ما أمر الشارع بقتلها مما ورد في الحديث الصحيح خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم وهي: الحية والعقرب والفأرة والحدأة والكلب العقور.
وروي عن سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أمر بقتل الوزغ، وعن جابر أنه صلّى اللّه عليه وسلم نهى عن أكل الهرة، وأخرج أبو داود عن ابن عباس قال: نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب النملة النحلة والهدهد والصرد وهو طائر فخم الرأس يصطاد العصافير والوزغ جمع وزغة بالتحريك هو سام أبرص وابن الماء الآتي هو طير يسمى القرلي يعوم فوق الماء فإذا رأى شيئا خرّ عليه فكل ما ورد نص صحيح بقتله أو النهي عن أكله أو تحريمه فهو حرام لا يحل تناوله، وما لم يرد فهو بالخيار إن شاء أكله وإن شاء تركه، وقالوا ما استطابة العرب فهو طيب، وما استكرهته فهو مكروه، وهذا ليس مطردا لاختلاف العادات والنفوس، فلينظر العاقل صاحب النفس السليمة ما تطلبه نفسه من غير ما ورد النص بتحريمه، وما تعافه منها، لأن اللّه تعالى قال أحل لكم الطيبات فما استطابه الأكثر فهو طيب، لأن العبرة للغالب، لأن ما تستحسنه العرب أو تستخبثه لم يدخل تحت الضبط، وقد قدم لحضرة الرسول الضب فلم يأكله وقد أكله أصحابه بحضوره ولم ينههم عنه، وغاية ما قاله فيه يعافه طبعي، فيكون أكله حلالا لأنه لو كان حراما لما أقرهم على أكله، وانما قلنا العبرة للغالب لأن من العرب من لا يستقذر شيئا ويفهم من الآية جواز الانتفاع بجلد الميتة وعظمها وشعرها لأن النهي عن أكلها فقط أخرج أحمد وغيره عن ابن عباس قال ماتت شاة لسودة بنت زمعة، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لو أخذتم مسكها أي جلدها فقالت نأخذ مسك شاة قد ماتت فقال عليه الصلاة والسلام، إنما قال اللّه تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ}.
الآية المارة وانكم لا تطعمونه ان تدبغوه فتنتفعوا به.
قال تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا} اليهود وسموا يهودا لقولهم فيما أخبر اللّه عنهم إنا هدنا إليك الآية 156 من الأعراف المارة في ج 2 وما قيل انهم لقبوا بذلك على اسم ملك صار منهم لا قيمة له لأنه إنما صار بعد أن صاروا أهلا للملك وبعد وفاة موسى عليه السلام {حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} مثل البعير والنعامة وكل ما لم يكون مشقوق الأصابع من البهائم والطير كالاوز والبط وكل ذي مخلب من الطير وذي حافر من الدواب وكل ذي ناب من السباع والأرنب وابن الماء وأراد بالظفر هنا الحافر مجازا على طريق الاستعارة {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما} التي في جوفهما وعلى الكليتين وبما أن لفظ الشحوم جاء عاما فقد استثنى منه ما هو حلال وهو ما جاء بقوله عزّ قوله: {إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما} يدخل فيه الإلية لأنه مما يتعلق بالظهر، إلا أن اليهود لا يأكلونها {أَوِ الْحَوايا} الأمعاء والمصارين والمباعر مما تحتوي عليه في البطن {أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} من الشحوم وهذا صريح في حل الإلية لأنها مختلطة بعظم وهو العصعص، وكذلك الشحم الذي في الرأس والعين وسائر العظام فهو حلال، روى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد اللّه قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول عام الفتح ان اللّه تعالى حرم بيع الخمر ولحم الخنزير والأصنام، فقيل يا رسول اللّه أرأيت شحوم الميتة فإنها يطلى بها السفن ويدعن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ فقال لا هو حرام، ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عند ذلك قاتل اللّه اليهود، إن اللّه لما حرم عليهم شحومها جملوه (أي أذابوه) يقال أجملت الشحم وجملته إذا أذبته وجملته أكثر وأفصح {ذلِكَ} التحريم عقوبة لهم {جَزَيْناهُمْ} به وأوجبنا عليهم التحريم {بِبَغْيِهِمْ} على أنفسهم وغيرهم وأعظم بغيهم قتل الأنبياء وأقله أكل الربا {وَإِنَّا لَصادِقُونَ 146} فيما أخبرناك به يا سيد الرسل من أفعالهم هذه {فَإِنْ كَذَّبُوكَ} في شيء من هذا أو غيره {فَقُلْ رَبُّكُمْ} أيها الناس قادر على أن يأخذهم حالا بعذاب لا يستطيعون رده ولا يتمكنون من النّجاة منه على تكذيبهم، هذا ولكنه أي ربك يا أكرم الرسل {ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ} لا يعجل عقوبة الكافر والعاصي لعظيم حلمه أما إذا أصرّ ولم يرتدع، فلا شك أنه ينزل به عذابه الذي لا مرد له {وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ} إذا حان أجله {عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ 147} لأنه لا يوقعه بهم إلا إذا تحقق عليهم ولم يكن لهم عذر بدفعه، ألا فلا يغتر أحد بالإمهال فإنه استدراج لا إهمال، وان ما يدره اللّه على المجرمين من السعة والعافية والجاه والسلطان هو نقمة لا نعمة بالنسبة لعاقبتها الوخيمة مما يترتب عليها من العذاب الأليم فلا يغفلنكم أيها الناس طول الأمل عن التوبة والرجوع إلى اللّه.