فصل: الآية الثالثة عشرة منها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الآية الثالثة عشرة منها:

قوله تعالى: {إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} الأنعام: 117.
وفي سورة القلم: 7: {إن ربك هو أعلم بمن ظل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين}.
للسائل أن يسأل عن الفرق بين اللفظين، وحذف الباء وإثباتها، وهل كان يصح ما في سورة القلم أن يكون في سورة الأنعام، وما في سورة الأنعام أن يكون مكانها؟
والجواب أن يقال: إن مكان كل واحد يقتضي ما وقع فيه، وبين اللفظين فرق في المعنى يوجب اختصاص اللفظ الذي جاء له بمكانه.
فقوله: {إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله} معناه: الله أعلم أي المأمورين يضل عن سبيله، أزيد أم عمرو؟ وهذا المعنى يقتضيه ما تقدم هذه الآية وما جاء بعدها مما تعلق بها، فالذي قبلها: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله} الأنعام: 116 أي: إن تطع الكفار يضلوك عن طاعة الله وعبادته، ثم أخبر أنه يعلم من الذين يغوونه ويضلونه ومن الذين لا يتمكنون من إضلاله؟ ولعد هذه الآية: {وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله} الأنعام: 119.
وأما قوله: {إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله} فمعناه غير معنى الآية الأولى أي: الله أعلم بأحوال من ضل، كيف كان ابتداء ضلاله، وما يكون من مآلهظ أيصر على باطله أم يرجع عنه إلى حقه، وقبلها: {فتبصر ويبصرون بأييكم المفتون} القلم: 5- 6.
من جعل المفتون كالمعقول بمعنى العقل، كان معناه فستعلم ويعلمون، بك أو بهم الفتون، وخبال العقل وفساد الرأي؟
ومن جعل المفتون: المبتلى بفساد التمييز، حكاية معنى قولهم: إنه مجنون، كان كما يقال: في أي الفرقتين المجنون؟ أفي فرقة الإسلام أم في فرقة الكفر؟ والباء تقارب معنى في كما يقال: فيه عيب، فينوب كل واحد من الحرفين مناب الآخر في أداء المعنى.
ويجوز أن تكون الباء بمعناها على ما يقال: فلان: بالله وبك أي: ثباته به وبك، معناه: ستعلم بأي الطائفتين ثبات الجنون ودوام الفتون.
وإذا كان مدار الكلام على أنه سيبصر بأيكم الخبال والجنون كان قوله تعالى بأي {إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله} أي: الله أعلم بي وبكم، وبالمخبل والمجنون مني ومنكم.
وإذ قال: {إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله} أي: هو أعلم بابتداء ضلالة، وانتهاء أمره، وهل يقيم على كفره أم يقلع عن غية لرشده فقد بان لك أن كل موضع أتى فيه بما اقتضاه المعنى من اللفظ.

.الآية الرابعة عشرة منها:

قوله تعالى: {كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون} الأنعام: 122
وقال في سورة يونس 12: {كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون}، للسائل أن يسأل فيقول: ما فائدة اختصاص الأول بالكافرين، والثاني بالمسرفين؟
والجواب أن يقال: إن الأول قبله، {أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها} الأنعام: 122
والمراد بالميت هاهنا: الكافر، والنور الإيمان وحياته به، ومن في الظلمات: من استمر به الكفر ولم يتنقل عنه، فكان ذكر الكافرين بعده أولى.
وأما المكان الثاني فإن القبلة: {إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها} يونس: 7، فهذا صفة كفار نعموا أبدانهم ودنسوا أديانهم، واقتصروا على عمارة الحياة الدنيا واطمأنوا بها، ولم يتبعوا لطلب الأخرى، وهم المسرفون الذين قال الله تعالى فيهم: {وأن المسرفين هم أصحاب النار} غافر: 43، لأنهم غلوا في غيثار الدنيا وتعجل نعيمها، وتجاوزها الحد في عمارتها، والإعراض عما هو أهم لهم منها.
ويجوز أن يكون الكفار سموا مسرفين لمجاوزتهم الحد في العصيان، إذ يقال لمن أفرط في ظلم: أسرف، والذين رضوا بالحياة الدنيا، واطمأنوا بها وغفلوا عن تدبر آيات الله تعالى يقال لهم: مسرفون على وجهين:
أحدهما المبالغة في تنعيم النفوس وجعلهم الدنيا حظهم مما عرضوا له من النعيم.
والثاني: مجاوزتهم الحد في معصية الله تعالى.
فلما قال: {فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون} يونس: 11، واشار إلى من التقديم ذكرهم في قوله: {إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا} يونس: 7، ثم وصف حال الانسان في الشدة والرخاء، وانقطاعه في الشدة إلى الدعاء، ونسيانه له في الرخاء، فسمى الذين هذه صفتهم مسرفين على أحد الوجهين اللذين ذكرنا لإسرافهم في الحالين. والله أعلم.

.الآية الخامسة عشرة منها:

قوله تعالى: {ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون} الأنعام: 131
وقال في سورة هود 117: {وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون}.
للسائل أن يسأل فيقول: لم كان في الأول غافلون وفي الثاني مصلحون؟
والجواب: إن ذلك إشارة إلى ما تقدم ذكره من العقاب في قوله: {قال النار مثواكم خالدين فيها} الأنعام: 128، وبعده: {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا} الأنعام: 130.
وأما الموضوع الثاني الذي ذكر فيه: {وأهلها مصلحون} فللبناء على ما تقدم: وهو قوله تعالى: {فلولا كان من القرون من قبلكم ألو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين} هود: 116. فدل أن القوم كانوا مفسدين حتى نهاهم أولو بقية عن الفساد في الأرض فإن نقيض الفساد الصلاح، فقال: لم يكن الله ليهلكهم وهم مصلحون، فاقتضى ما تقدم في كل آية ما اتبعت من الغافلين والمصلحين.

.الآية السادسة عشرة منها:

قوله تعالى: {قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون} [الأنعام: 135].
وقال في سورة هود 93 في قصة شعيب {يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون}.
وقال في سورة الزمر 39: {قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون}.
للسائل أن يسأل عن الآية التي في سورة هود: لم جاءت بحذف الفاء من سوف وجاءت الآيتان الأخريان بإثباتها فقال: {فسوف تعملون}، وهل يصلح ما فيه الفاء مكان ما لا فاء فيه؟
والجواب أن يقال: أمر الله نبيه في سورة الأنعام بأن يخاطب الكفار على سبيل الوعيد: اعملوا على طريقتكم وجهتكم، أو على تمكنكم فسوف تعملون، أي: اعملوا فستجزون وتعملون وإساءتكم إلى أنفسكم.
فالعمل سبب للجزاء الذي عبر عنه بقوله: {فسوف تعلمون} فالفاء متعلقة بقوله: {اعملوا}، والتقدير: اعملوا فسوف تعلمون، إني عامل فسوف أعلم، فحذف للعلم به. وكذلك ما في سورة الزمر خطاب من الله تعالى لنبيه على هذا الوجه.
وأما في سورة هود فإنه حكاية عن شعيب عليه السلام لما تجاهل قومه عليه فقالوا له: {.. يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز} هود: 91 فقال لهم: {.. اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون} وتعرفون عملي، وإن قلتم إنا لا نفقه أكثر ما تقوله، فجعل {سوف تعلمون} مكان الوصف لقوله: {عامل} فلم يصح على هذا المعنى دخول الفاء، وقصد هذا المعنى لما أظهروا من جهلهم به وأنهم لا يعرفون كثيرا مما يقول لهم فقال لهم: {إني عامل سوف تعلمون} عملي وتعرفونه بعدما أنكرتموه.

.الآية السابعة عشرة منها:

قوله تعالى: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم} الأنعام: 148.
وقال في سورة النحل 35: {وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم} الأنعام: 148.
وقال في سورة النحل 35: {وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم} النحل: 35.
للسائل أن يسأل هنا مسألتين:
إحداهما: أنه ذكر في الثانية: {من دونه من شيء} ولم يذكره في الأولى وهل كان يجوز لو وصلت إحداهما بما وصلت به الأخرى؟
والثانية: تأكيد الضمير في سورة النحل، ثم العطف عليه، وفي سورة الأنعام لم يؤكد، وعطف عليه: {ولا آباؤنا} والفصل الذي يقوم مقام التأكيد في المكانين حاصل.
والجواب أن يقال: إن قوله: {ما أشركنا} مستغن عن ذكر المفعول به، وإن كان في الأصل متعديا إليه، كقوله: {ألا تشركوا به شيئا} الأنعام 151 إنما لم يحتج إلى ذكر المفعول به كما احتاج إليه {عبدنا}، لأن الإشراك يدل على إثبات شريك لا يجوز إثباته، والعبادة لا تدل على إثبات معبود لا يجوز إثباته، لأنها تدل على معبود، هو مثبت لا يصح نفيه، فقوله: {ما عبدنا} غير مستنكر أن يعبدوا، وإنما المستنكر أن يعبدوا غير الله شيئا، فكان تمام المعنى بذكر قوله: {من دونه من شيء}.
وكذلك: {ولا حرمنا من دونه من شيء}: لابد مع قوله: {حرمنا} من قوله: {من دونه من شيء} ولم يحتج إليه بعد قوله: {ما أشركنا}، لأن الإشراك دال على أن صاحبه يعبد شيئا من دون الله، ولا يدل {عبدنا} على ذلك، فوفي اللفظان في سورة النحل حقهما من التمام.
والجواب عن السؤال الثاني، وهو تأكيد علامة الإضمار في سورة النحل ب {نحن} وترك ذلك في سورة الأنعام مع أن بعد واو العطف لا في الموضعين: هو أن كل ما أكد معنى الفعل الذي ضمير الفاعل كالجزء منه إذا وليه، ولم تكثر الحواجز بينهما، مقام التأكيد بعلامة الإضمار مثل أنا ونحن.
وقوله: {ما أشركنا ولا آباؤنا}: أشركنا منه منفي ب ما ولا بعد الواو مؤكد معنى ما الداخلة على الفعل، وكأنها مؤكدة للفعل وإذا أكدت الفعل وعلامة الإضمار جزء منه فكأنما أكدتها، ومثله قوله: {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك} هود: 112، و{من تاب} عطف على المضمر في قوله: {فاستقم} وصح، لأن قوله: {كما أمرت} بمعنى استقامة مثل ما أمرت به، ف {كما امرت} في موضع المصدر، والمصدر هو تأكيد للفعل نفسه، فصار مثل تأكيد ما هو جزء منه، فكان هذا التأكيد للفعل يليه في هذا المكان، وفي قوله: {ما أشركنا ولا آباؤنا}.
فأما قوله: {ما عبدنا من دونه من شيء} لم يكن الفصل مؤكدا لنفس الفعل، كما كان المصدر في قوله: {فاستقم} وكما كان لا بعد واو العطف فيقوله: {ولا آباؤنا} مؤكدة معنى ما التي تنفي الفعل فتصير كأنها مؤكدة ما هو كبعض الفعل، لأن الفصل هاهنا بالمفعول به، وهو من شيء وبقوله من دونه، ومعناه: ما عبدنا غير شيئا، فيكون بمعنى الاستثناء، وليس شيء من هذين مؤكداها، وجاءت: {ولا آباؤنا} وكانت لا مؤكدة إلا أنها لم تل علامة الضمير المعطوف عليها لحجزه بينهما بقوله: {من دونه من شيء}.
والحواجز إذا كثرت وبعدت ما بين الكلمتين اختير إعادة العامل مع أن في المتقدم كفاية كقوله عز وجل: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا} الكهف: 30، وكقوله: {أئذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون} النمل: 67 وكقوله: {أيعدكم أنكم إذا متتم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون} المؤمنون: 35 فلما بعد الخبر وهو مخرجون من أنكم الأولى أعيدت.
وإذا كان الإختيار ما ذكرنا فيما طال الفصل فيه، وكان الفصل في قوله تعالى: {ما عبدنا من دونه من شيء} قد طال بجارين ومجرورين بين علامة الضمير في {عبدنا} وبين لا المؤكدة ل ما التي تنفي الفعل الذي علامة الضمير في تضاعيفه، كجزء من أجزائه وكحرف من حروفه، احتاج الضمير في العطف عليه إلى ما يؤكده، فلذلك أدخل نحن هاهنا، ولم تدخل في قوله: {ما أشركنا ولا آباؤنا} فافهمه، فإنه من دقيق النحو، وفقنا الله وإياكم لمعرفته.

.الآية الثامنة عشرة منها:

قوله تعالى: {قل تعالوا أتلوا ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم} الأنعام: 151.
وقال في سورة بني إسرائيل 31: {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نرزقهم وإياكم}.
للسائل أن يسأل فيقول: قوله عز وجل: {نحن نرزقكم وإياهم} هو ما عليه الإختيار في كلام العرب من تقديم ضمير المخاطب على ضمير الغائب بناء على قولك: أعطيتكه. والآية في سورة بني اسرائيل قدم فيها الضمير الغائب على المخاطب، فكأنها بنيت على قولك: أعطكيتهك، وهذا ليس بمختار، فما الذي أوجب اختصاص الأول بتقديم ضمير المخاطب، وأوجب اختصاص الثاني بتقدم ضمير الغائب؟
والجواب أن يقال أولا: ليس الضميران إذا اتصلا بالفعل كالضميرين إذا انفصل أحدهما وعطف على الآخر، لأن قوله: أكرمته وإياك، مثل قوله: أكرمتك وإياه في أن كل واحد منهما مختار في مكانه الذي يوجب تقديم ما قدم وتأخير ما أخر بخلاف ما يختار إذا اتصل بالفعل في مثل: أعطيتكه.
فأما قوله في سورة الأنعام: {نحن نرزقكم وإياهم} فلأن قبله: {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق} أي: من أجل إملاق وانقطاع مال وزاد، وهذا نهي عن قتلهم مع فقرهم وخوفهم على أنفسهم إذا لزمتهم مؤونة غيرهم، فكأنه قال: الذي يدعوكم إليه من حالكم في أنفسكم ثم في غيركم لا يجب أن تشفقوا منه فإني أرزقكم وإياهم.
وأما الآية الثانية فإنه قال فيها: {خشية إملاق} والإملاق غير واقع، فكأنه قال: خوف الفقر على الأولاد، وكان عقب هذا إزالة الخوف عنهم، ثم عن القاتلين، أي: لا تقتلوهم لما تخشون عليهم من الفقر، فالله يرزقهم وإياكم، فقدم في كل موضع من الموضعين ما اقتضى تقديمه، وأخر ما اقتضى الموضع تأخيره والله أعلم.

.الآية التاسعة عشرة منها:

قوله تعالى في الوصية الأولى من هذه السورة: {ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون} الأنعام: 151.
وفي الثانية: {ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون} الأنعام: 152.
وفي الثالثة: {ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} الأنعام: 153.
للسائل أن يسأل فيقول: ما الذي اقتضى في الأولى {تعقلون} وفي الثانية {تذكرون} وفي الثالثة {تتقون}؟ وهل صلحت الثانية مكان الأولى في اختيار الكلام؟
والجواب أن يقال: قدم الله تعالى الوصية بالأشرف الأعظم وهو الإيمان بدل الشرك، وفيه أداء حق أكبر المنعمين ثم الإحسان إلى الوالدين ونعمتهما على الولد أكبر النعم بعد نعمة الله تعالى، فحقها يتلو حقه، ثم الإحسان إلى الأولاد بترتيبهم، وترك ما كانت عليه العرب في جاهليتها من أود البنات للفقر والإملاق، ثم أن لا يقربوا ما لعله يكون سبب ولد لا يصح نسبه وهذا في النهي عن سبب الإحداث كالأول في النهي عن سبب الإهلاك، ثم أن يحقنوا الدماء ولا يسفكوها إلا بحقها، وهو أن يقتلوها للقصاص، والزنى بعد الإحصان، والكفر بعد الإيمان.
فهذه خمسة تتعلق بأكبر الحقوق وأوكد الأصول، فالشرك اعتقاد مذهب باطل بهوى، وترك الإحسان إلى الوالدين يكون إما لمحبة مال لا يسمح به لهما، أو إتباع هوى يدعو إلى مخالفتهما، ووأود البنات لخوف الفقر والعار، والزنى وما يقبح جدا من المعاصي التي تحمل عليها الشهوة، وقتل النفس بغير حق يدعو إليه شفاء غيظ النفس الأمارة بالسوء وكل ذلك قبيح في العقول يحتاج في ذب النفس عنها إلى زاجر من عقل يدفع الهوى، فلذلك قال: {لعلكم تعقلون} أي تستعملون العقل الذي يحبس نفوسكم عن قبيح الإرادات وفواحش الشهوات.
وبعد هذه الخمسة خمسة أخرى هي متعلقة بالحقول في الأموال دون النفوس، فأولها حفظ مال اليتيم عليه، لأنه لا يقوى على حفظه، والأطماع تمتد إلى ماله، وذو الولد يفكر في حاله وما يكرهه لولده فلا يستجيزه لولد غيره، وبعده العدل في الكيل، وإيفاء الكيل والوزن بالقسط، وهو الذي توعد الله تعالى عليه في قوله: {ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون} المطففين: 1- 3 ومعنى قوله: {لا نكلف نفسا إلا وسعها} الأنعام: 152 أي: إذا اجتهدت في التحري وتوخي القسط، فقد أسقط عنها ما يتعذر تجنبه من أقل القليل فيما يكال ويوزن، والرابع القول بالعدل، وهو في الحكم والشهادة، والخامس الوفاء بعهد الله، وهو أن يحلف بالله في غير معصية.
وكل هذه قد دعي فيها الإنسان إلى تذكر حاله ورضاه ف نفسه لو كان هو المعامل بما يعامل هو به غيره، أي: لو كان ولده اليتيم، أو كان الذي يكال له ويوزن، أو كان الذي يحكم به عليه، أو تقام الشهادة بما لا يلزمه، أو يحلف بالله على إذهاب حق له، أو يحلف له بما يلزمه الوفاء به، فلا يرضين من ذلك لغيره إلا ما يرضاه لنفسه، فذكرهم حالا مرت لهم، أو يخافون مرورها عليهم؟ فلذلك قال: {لعلكم تذكرون}.
وأما الآية الأخيرة وهي: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} الأنعام: 152 فمعناه: الشرع الذي شرعته لكم هو طريق أشرعته إلى نعيمكم الدائم فاسلكوه، ولا تتبعوا الديانات المخالفة له فتبعدكم عن سبيله المؤدي إلى نعيمه، لعلكم تتجنبون بلزومه معصيته، وتتقون بطاعته عقوبته، فأتبع كل صنف من الوصية ما اقتضاه معناها وبالله التوفيق. اهـ.