فصل: حجة الشافعي رضي اللّه عنه القرآن والسنة والقياس:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.حجة الشافعي رضي اللّه عنه القرآن والسنة والقياس:

أما القرآن: فظاهر الآية التي نحن بصددها. وذلك أن المراد من شطر المسجد الحرام جانبه. وجانب الشيء هو الذي يكون محاذيا له وواقعا في سمته.
وأما الحديث فما ورد من حديث أسامة أنه ركع ركعتين في قبل الكعبة، وقال: هذه القبلة.
وهي جملة حاضرة للقبلة في الكعبة.
وأما القياس: فهو أنّ مبالغة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في تعظيم الكعبة بلغت مبلغا عظيما، والصلاة من أعظم شعائر الدين، وتوقيف صحتها على استقبال عين الكعبة يوجب مزيد الشرف، فوجب أن يكون مشروعا، وأيضا: كون الكعبة قبلة أمر معلوم، وكون غيرها قبلة أمر مشكوك، ورعاية الاحتياط في الصلاة أمر واجب. فوجب توقيف صحّة الصلاة على استقبال عين الكعبة.
وأما الحنفية والمالكية، فقد احتجوا بأمور:
الأول ظاهر هذه الآية، فإنّ من استقبل الجانب الذي فيه المسجد الحرام، فقد ولّى وجهه شطر المسجد الحرام، سواء أصاب عين الكعبة أم لا، وهذا هو المأمور به، فوجب أن يخرج من العهدة.
الثاني ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: «ما بين المشرق والمغرب قبلة».
الثالث فعل الصحابة. وهو من وجهين:
أحدهما: أن أهل مسجد قباء كانوا في صلاة الصبح مستقبلين لبيت المقدس مستدبرين للكعبة، لأنّ المدينة بينهما، فقيل لهم: ألا إنّ القبلة قد حوّلت إلى الكعبة، فاستداروا في الصلاة من غير طلب دليل على القبلة، ولم ينكر النبي عليه الصلاة والسلام عملهم. وسمي مسجدهم بذي القبلتين، ولا يعقل أن العين تستقبل عين الكعبة إلا بعد الوقوف على أدلة هندسية يطول النظر فيها، ولم يتعلّموها، ولا يمكن أن يدركوها على البديهة في أثناء الصلاة وظلمة الليل.
والوجه الثاني: أنّ الناس من عهد النبي عليه السلام بنوا المساجد في جميع بلاد الإسلام، ولم يحضروا مهندسا عند تسوية المحراب، ومقابلة العين لا تدرك إلا بدقيق نظر الهندسة.
الدليل الرابع من أدلة الحنفية القياس: هو أن محإذاة عين الكعبة لو كانت واجبة ولا سبيل إليها إلا بمعرفة الطرق الهندسية لوجب أن يكون تعلم الدلائل الهندسية واجبا، لأنه لا يتم الواجب إلا به، وما لا يتمّ الواجب إلا به واجب، ولكنّ تعلّم الدلائل الهندسية غير واجب، فعلمنا أنّ استقبال عين الكعبة غير واجب، هذا مجمل أدلة الأئمة رضوان اللّه عليهم، وأنت ترى أنه ربما كان لفظ الآية، وكون الشطر بمعنى الجهة شاهدين يرجّحان أدلة الحنفية والمالكية.
وكأنّ الشافعية أحسوا صعوبة التوجه إلى عين الكعبة خصوصا من غير المشاهد.
فقالوا: فرض المشاهد إصابة العين حسّا، وفرض غير المشاهد إصابته قصدا. وبعد أن نراهم يصرحون بذلك يكاد الخلاف عديم الفائدة، فإنّ الكل يعتقد أن التوجه إلى القبلة أيا كانت فيه شعور بقصد الكعبة.
هذا وقد انبنى على هذا الخلاف خلاف آخر في حكم الصلاة فوق الكعبة، فمشى الحنفية على مذهبهم من أن القبلة الجهة، من قرار الأرض إلى عنان السماء، فأجازوا الصلاة فوقها مع الكراهية، لما في الاستعلاء عليها من سوء الأدب، ومنع غيرهم من صحة الصلاة فوقها، لأن المستعلي عليها لا يستقبلها، إنما يستقبل شيئا غيرها، وبقية الفروع تعرف في الفقه، فلا نطيل بذكرها، غير أن هناك فرعا واحدا نذكره لما له من العلاقة بتفسير الآية: فهم بعضهم من قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} أن هذا يمتنع معه أن يوجه المصلّي نظره إلى موضع سجوده قائما، وإلى قدميه راكعا، وإلى أرنبة أنفه ساجدا، وإلى حجره جالسا، لأن هذا فيه توجّه إلى غير شطر المسجد الحرام، وأنت ترى أنه فهم عجيب، فإن الحنفية مثلا لم يقولوا هذا إلا بعد تحقق الاستقبال والتوجه شطر المسجد الحرام. وإنما قالوا ذلك منعا للمصلّي أن يتشاغل في الصلاة بغيرها إذا لم يحصر بصره في هذه الجهات التي عينوها لنظره.
قال اللّه تعالى: {إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158)}.
الصفا: جمع صفاة، وهي الصخرة الملساء، وقد يأتي واحدا ويجمع على صفىّ قال الراجز:
كأن متنيه من النّقي ** مواقع الطّير على الصّفي

المروة: الحصاة الصغيرة، وتجمع على مرو قال الشاعر:
حتّى كأنّي للحوادث مروة ** بصفا المشقّر كلّ يوم تقرع

وقد عنى اللّه تعالى بالصفا والمروة هنا الجبلين المسلمين بهذين الاسمين اللذين هما بمكة.
شعائر: جمع شعيرة: من الإشعار وهو الإعلام، أي هما من معالم اللّه التي جعلها للنّاس معلما ومشعرا يعبدونه عندهما.
الحج: القصد، وقيل هو: كثرة التردد، وقيل للحاج حاج: لأنه يأتي البيت قبل الذهاب إلى عرفة، ثم يعود إليه لطواف يوم النحر بعد الوقوف بعرفة. ثم ينصرف إلى منى، ثم يعود إليه لطواف الصدر، ففيه كثرة التردد.
الاعتمار الزيارة.
الجناح: في اللغة عبارة عن الميل كيفما كان، ولكنه خصّ بالميل إلى الإثم.
المعنى: إن الصفا والمروة أي هذين الجبلين من معالم اللّه التي جعلها معلما ومشعرا يعبده عباده عندهما بالدعاء، أو الذكر، أو السعي والطواف. فمن حج البيت الحرام أو اعتمره فلا إثم عليه أن يطوّف بهما.
ومن تطوّع بالحج والعمرة بعد أداء حجته الواجبة. فإنّ اللّه شاكر له على تطوّعه، مجاز به. عليم بقصده وإرادته. وقد اختلف في سبب نزول هذه الآية:
1- أخرج ابن جرير عن الشعبي أن وثنا كان في الجاهلية على الصفا يسمى إساف، ووثنا على المروة يسمّى نائلة، وكان أهل الجاهلية إذا طافوا بالبيت مسحوا الوثنين، فلما جاء الإسلام وكسّرت الأوثان. قال المسلمون: إن الصفا المروة إنما كان يطاف بهما من أجل الوثنين، وليس الطواف بهما من الشعائر قال: فأنزل اللّه أنهما من الشعائر.
2- وروى ابن شهاب عن عروة قلت لعائشة رضي اللّه عنها: أرأيت قول اللّه تبارك وتعالى: {إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ} فو اللّه ما على أحد جناح أن لا يطّوف بهما. قالت عائشة رضي اللّه عنها: بئسما قلت يا ابن أختي، إنها لو كانت على ما تأولتها لكان: فلا جناح عليه إلا يطوف بهما، إنما كان هذا من الأنصار قبل أن يسلموا، يهلّون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل، فكان من أهلّ لمناة، يتحرج أنّ يطوف بالصفا والمروة، فلما أسلموا سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن ذلك، فقالوا: يا رسول اللّه إنا كنّا نتحرج أن نطوّف بالصفا والمروة. فأنزل اللّه تعالى: {إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ} ثمّ سنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم الطواف بينهما، فليس لأحد أن يدع الطواف بينهما.
قال ابن شهاب: فذكرت ذلك لأبي بكر ابن عبد الرحمن، فقال: إنّه العلم، أي ما سمعت به.
الأحكام:
اختلف العلماء في حكم السعي بين الصفا والمروة على أقوال:
1- فقيل: إنه ركن، وبه قال الشافعي وأحمد، وهو مشهور مذهب مالك، فمن لم يسع كان عليه حج قابل.
2- وقيل: ليس بركن، بل هو سنة. وبه قال أبو حنيفة، وهو قول في مذهب مالك، قال في العتبية يجزئ تاركه الدم.
3- وقيل هو تطوع، ولا شيء على تاركه.
احتجّ من جعله ركنا بما روي أنه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يسعى ويقول: «اسعوا فإنّ اللّه كتب عليكم السعي» رواه الشافعي عن عبيد اللّه بن المزمل.
واحتج من لم يره ركنا بظاهر الآية، فقد رفعت الإثم عمّن تطوّف بهما، ووصف ذلك بالتطوع. فقال: وَمَنْ تَطَوَّعَ يعني بالتطوع بينهما، وبما روي من حديث الشعبيّ عن عروة بن مضرّس الطائي قال: أتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالمزدلفة، فقلت يا رسول اللّه جئت من جبل طي ء، ما تركت جبلا إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «من صلّى معنا هذه الصلاة، ووقف معنا هذا الموقف، وقد أدرك عرفة قبل- ليلا أو نهارا- فقد تمّ حجه، وقضى تفثه»، قالوا: فهذا يدل على أن السعي ليس بركن من وجهين:
أحدهما: إخباره بتمام حجته، وليس فيها السعي.
الثاني: أنه لو كان من أركانه لبيّنه للسائل، لعلمه بجهله الحكم، فإن قيل: مقتضى ذلك ألا يكون الطواف بالبيت فرضا، فإنّه لم يذكره أيضا.
قيل: ظاهر اللفظ يقتضي ذلك، وإنما أثبتناه بدليل آخر.
والظاهر أن الآية لا تشهد لأحد المختلفين، لأننا علمنا السبب في أنها عرضت لرفع الجناح على من تطوّف بهما، وهو أنهم كانوا يتحرجون من السعي بينهما، لأنه كان عليهما في الجاهلية صنمان. وقالوا: كان يطاف بهما من أجل الوثنين.
فبيّن اللّه أنه يطاف بهما من أجل اللّه، وأنهما من شعائره، فلا يتحرجون من السعي بينهما، وقوله: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} كما يحتمل ومن تطوع بالتطوّف بهما، يحتمل: ومن تطوع بالزيادة على الفرض من التطوّف بهما، أو من الحج، فلم يبق من مستند في هذه المسألة إلا السنّة، وقد روي في ذلك آثار مختلفة، فيرجع إلى الترجيح بين هذه الآثار، بالسند والدلالة.
قال اللّه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)} نزلت هذه الآية الكريمة في أهل الكتاب حين سئلوا من بعض الصحابة عمّا جاء في كتبهم في أمر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن معإذا سأل اليهود عمّا في التوراة من ذكر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فكتموه إياه. فأنزل اللّه هذه الآية.
والكتمان: ترك إظهار الشيء مع الحاجة إليه وحصول الداعي إلى إظهاره، لأنّه ما لم يكن كذلك لا يعدّ كتمانا.
ولما كان ما أنزله اللّه من البينات والهدى ما أنزل إلا لخير الأمم، وهدايتهم إلى الطريق المستقيم. وهم لن يصل إليهم الخير، ولن يهتدوا إذا كتم عنهم ما أنزل، وهم من أجل ذلك أحوج ما يكونون إلى إظهاره وتعليمه، شدّد اللّه النكير على الكاتمين، لما ينشأ عن هذا الكتمان من الضرر الجسيم، وتعطيل الكتب السماوية أن تؤتي الثمرة المرجوّة منها.
والمراد في قوله تعالى: {ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى} كل ما أنزله اللّه على الأنبياء من الكتب والوحي، ومن الدلائل التي تهتدي بها العقول في ظلمات الحيرة.
والآية عامة في كل كاتم ومكتوم يحتاج الناس إلى معرفته في أمر معاشهم ومعادهم. ولا عبرة بخصوص السبب الذي نزلت فيه.
أما قوله: {مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ} فقد قيل: المراد بالكتاب التوراة والإنجيل، والمكتوم ما جاء فيهما من صفة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم والأحكام. وقيل: أراد بالمنزل الأول ما في كتب المتقدمين. والثاني القرآن.
واللعن في اللغة: الإبعاد مطلقا. ويطلق على الذم. وفي الشرع: الإبعاد من الثواب.
و{اللعنون} قد بينوا في آية أخرى هي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)} [البقرة: 161] وقد قيل المراد باللاعنين:
دوابّ الأرض وهوامها، فإنّها تقول: منعنا القطر من بني آدم، وقيل غير ذلك.
وأنت قد رأيت أن اللعن قد جاء مرتبا على الكتمان، فلا مانع من أن يراد باللاعنين كل من يلحقه أثر الكتمان، {إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)}.
التوبة: عبارة عن الندم على فعل القبيح، لا لغرض سوى أنه قبيح، والإصلاح: ضد الإفساد، والتبيين: الإظهار.
عني القرآن الكريم عناية خاصة بتشديد النكير على من يكتم العلم. فهذه الآية دالّة دلالة صريحة على أن الكتمان جرم عظيم: يستحقّ مرتكبه اللعن والإبعاد من رحمة اللّه، وذمّ الناس إياه، ومقتهم وغضبهم، وذكر في آية أخرى قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة: 174] وقال في الحث على بيان العلم وإن لم يذكر الوعيد: {فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] وقد ورد في السنة ما لا يقلّ عن هذا روى شعبة عن قتادة في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ} قال: فهذا ميثاق أخذه اللّه على أهل العلم، فمن علم علما فليعلّمه، وإياكم وكتمان العلم. فإنّه هلكة، وروى حجاج عن عطاء، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «من كتم علمه جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار».
وقد أشرنا آنفا إلى ما في الكتمان من تعطيل وظيفة الرّسالة، وإلحاق الضرر بالناس، ومن أجل ذلك كان الوزر كبيرا. والآية صريحة في أنّ الكتمان إفساد، وأنه لا يكفي من فاعله الندم على ما فعل من الكتمان، بل لابد من الإصلاح والتبيين، وقد ذكروا أن الآية تدل على عدم جواز أخذ الأجر على التعليم، لأنها تدل على لزوم إظهار العلم، وترك كتمانه، ولن يستحق إنسان أجرا على عمل يلزمه أداؤه، وقد جاء هذا الحكم مصرّحا به في آية: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة: 174].
فثبت بذلك بطلان أخذ الأجر على تعليم القرآن وعلوم الدين، غير أن المتأخرين لما رأوا تهاون الناس، وعدم اكتراثهم لأمر التعليم الديني، وانصرافهم إلى الاشتغال بمتاع الحياة الدنيا، ورأوا أن ذلك يصرف الناس عن أن يعنوا بتعلم القرآن والعلوم الدينية فينعدم حفظة القرآن، وتضيع العلوم، وليس في الناس مع كثرة مشاغل الحياة ما يلجئهم إلى الانقطاع لهذه المهام أباحوا أخذ الأجور، بل حتمه بعضهم، وما هذه الحبوس والأرصاد التي حبسها الخيّرون إلا لتحقيق صيانة القرآن والعلوم الدينية، وسبيل لتنفيذ ما وعد اللّه به من حفظ القرآن في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9)} [الحجر: 9].
قال اللّه تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)}.
{أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} أصل الإهلال: رفع الصوت والجهر به. ومن ذلك قيل للملبي في حجة أو عمرة مهلّ لرفع صوته بالتلبية، ويقال: استهلّ الصبي، إذا صاح عند ولادته، وكان العرب إذا أرادوا ذبح ما قربوه لأصنامهم سمّوا باسم أصنامهم، وجهروا بذلك، وجرى ذلك من أمرهم، حتى قيل لكل ذابح مهلّ. سمّى أو لم يسمّ، جهر أو لم يجهر.
فمعنى: {وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} ما ذبح لغير اللّه.
{اضْطُرَّ} افتعل، من الضرورة: أي حلت به الضرورة إلى أكل ما حرم.
المعنى: يا أيها الذين صدّقوا باللّه: أطعموا من حلال الرزق الذي أحللناه لكم، فطاب بذلك التحليل، وكنتم حرمتموه على أنفسكم، ولم أحرمه عليكم: من البحائر، والسوائب، وما إليها، وأثنوا على اللّه من أجل النعم التي رزقكموها، وأحلّها لكم إن كنتم منقادين له، ومطيعين إياه.
{إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} لم يحرّم عليكم إلا الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح لغير اللّه، وما ذكر عليه اسم غير اللّه، فمن حلّت به ضرورة إلى أكل شيء من هذه المحرّمات، لا باغيا ولا عاديا، أي غير باغ بأكله ما حرّم عليه، ولا عاد في أكله، بألا تكون له مندوحة بوجود ما أحلّه اللّه، فلا تبعة عليه في الأكل، {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} يغفر لكم ما كان منكم في الجاهلية من تحريم ما لم يحرمه اللّه.
وقد ورد التحريم في هذه الآية مسندا إلى أعيان الميتة والدم إلخ. وقد اختلف في مثله: أيكون مجملا أم لا؟ فذهب الكرخي إلى أنه يكون مجملا، وحجته فيه أنّ الأعيان ليست من فعل العبد، والتحريم لا يتعلّق إلا بما هو من فعله، فلابد أن تقدّر فعلا، وليس بعض الأفعال أولى من بعض بالتقدير، فلذلك يكون مجملا.
وذهب غيره من العلماء إلى أنه لا يكون مجملا، لأنّ العرف يعيّن الفعل المراد فيما ورد من ذلك، وقد ذهب كثير من العلماء إلى أنّ الفعل المراد هنا هو الانتفاع، فيفيد حرمة جميع التصرفات إلا ما أخرجه الدليل. ولذلك تجد كثيرا من العلماء يستدلّ بهذه الآية على حرمة وجوه من الانتفاع بها. والذي ينساق إليه الذهن أن الفعل المراد هنا هو الأكل، فالمعنى إنما حرّم عليكم أكل الميتة. بدليل أن الكلام فيه، ففي سابقه {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وفي لاحقه فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ} ويدعم هذا ما ورد عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في خبر شاة ميمونة «إنما حرم من الميتة أكلها».
فإذا وردت أحاديث تدلّ على حرمة وجوه أخرى من الانتفاع بالميتة كانت الحرمة مأخوذة من تلك الأحاديث لا من هذه الآية.
والآية تفيد الحصر، فظاهرها إثبات التحريم لما ذكر من الحيوان، ونفيه عما عداه ويؤكد ذلك ما جاء في آية الأنعام {قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} [الأنعام: 145]، وهذا الظاهر تعارضه أحاديث كثيرة وردت في تحريم السباع، والطير، والحمر الإنسية، والبغال.
فقد ورد عن أبي ثعلبة الخشنيّ أنه قال: نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن أكل كلّ ذي ناب من السّباع رواه البخاري ومسلم.
وروى مالك عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «أكل كلّ ذي ناب من السّباع، وكلّ ذي مخلب من الطّير حرام» ذكره أبو داود.
وروي عن جابر أنه قال: نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهليّة، وأذن في لحوم الخيل.
الأحكام:
ولما كان هذا التعارض بين ظاهر الآية وهذه الآثار اختلف الفقهاء اختلافا كثيرا فروي عن مالك أنه يكره لحوم السباع. والشافعي، وأبو حنيفة وأحمد يحرّمونها. وروي ذلك عن مالك أيضا، وجوز قوم أكل سباع الطير، وحرّمها آخرون.
وذهب الجمهور إلى تحريم الحمر الإنسية، وروي ذلك عن مالك، وروي عنه أيضا أنه يكرهها، وحرّم الجمهور البغال، وكرهها قوم، وهو مروي عنه.
وذهب أبو حنيفة ومالك إلى تحريم الخيل، وذهب الشافعي وأحمد وأبو يوسف ومحمد: إلى إباحتها، فالذي يذهب إلى حل شيء مما ذكر يستند إلى الآية، ويذهب إلى عمومها، ويحمل الحديث على نهي الكراهة، أو يبطله لمكان معارضته للآية.
والذي يذهب إلى تحريم شيء مما ذكر يستند إلى الحديث الوارد في التحريم، وينسخ به الآية، أو يرى أنه لا معارضة، ويرى أن الحصر في هذه الآية وآية الأنعام إضافي، بالإضافة إلى ما كانوا يعتقدون حرمته من البحائر. والسوائب، وما إليها.
وكان مقتضى النظر أن من يذهب إلى أن الحصر في الآية حقيقي- ولم يشأ أن ينسخها بحديث- أن يعمل ذلك في كل حديث يخالف هذه الآية، ويذهب إلى إباحة كل حيوان لم ترد بتحريمه، ولكنّا رأينا من يتمسك بالآية ويردّ بها حديثا يأخذ بحديث آخر، مع أن الآية تعارضه أيضا.
ولعل المالكية أقرب إلى مقتضى النظر، لأنه روي عنهم كراهة كثير مما ذكر تحريمه في هذه الأحاديث، وقد تضمنت الآية تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير، وما أهل به لغير اللّه:
فأما الميتة: فهي ما مات من الحيوان حتف أنفه من غير قتل، أو مقتولا بغير ذكاة. وكان العرب في الجاهلية يستبيحونها. فلما حرّمها اللّه جادلوا في ذلك فحاجّهم اللّه كما يرى في سورة الأنعام.
وقد وردت أحاديث كثيرة تفيد تخصيص الميتة:
روي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال: «أحلّت لنا ميتتان ودمان، فالميتتان السمك والجراد، والدمان الكبد والطحال». ذكره الدارقطني.
وورد في الصحيحين عن جابر بن عبد اللّه، أنه خرج مع أبي عبيدة بن الجراح يتلقى عيرا لقريش قال: وزودنا جرابا من تمر. فانطلقنا على ساحل البحر، فرفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم فأتيناه. فإذا هي دابة تدعى العنبر، قال أبو عبيدة ميتة. ثم قال: بل نحن رسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وقد اضطررتم، فكلوا.
قال فأقمنا عليه شهرا حتى سمنا. وذكر الحديث. قال: فلما قدمنا المدينة. أتينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فذكرنا ذلك له. فقال: «هو رزق أخرجه اللّه لكم، فهل معكم من لحمه شيء. فتطعموننا؟» قال: فأرسلنا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم منه. فأكله.
وروى مالك عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال في شأن البحر: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته».
فذهب الشافعية والحنفية إلى تخصيص الميتة في الآية بالحديث الأوّل، وأحلّوا السمك والجراد الميّتين بغير ذكاة. إلا أن الحنفية حرّموا الطافي من السمك. وأحلوا ما جزر عنه البحر، لورود حديث يخصّص هذا الحديث المتقدم وهو:
عن جابر بن عبد اللّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «ما ألقى البحر أو جزر عنه فكلوه، وما مات فيه، وطفا، فلا تأكلوه».
أما المالكية فقد رأوا أن حديث: «أحلت لنا ميتتان» ضعيف، ومهما اختلفوا في جواز تخصيص القرآن بالسنة فقد اتفقوا على أنه لا يجوز تخصيصه بحديث ضعيف، ورأوا أن الحديث الثاني والثالث صحيحان، فخصّصوا بهما الكتاب، وأحلوا بهما السمك، وبقي الجراد الميت على تحريم الميتة، لأنه لم يصح فيه شيء عندهم.
ومن لا يجيز تخصيص القرآن بالسنة يرى أن الذي خصص ميتة السمك قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ} [المائدة: 96] فأما صيده فهو ما أخذ بعلاج، وأما طعامه فهو ما وجد طافيا أو جزر عنه البحر.
وقد ذهب أبو حنيفة إلى تحريم الجنين الذي ذبحت أمّه وخرج ميتا استنادا إلى أنّه ميتة، وحرمت الآية الميتة، وقد خالفه في ذلك صاحباه والشافعيّ وأحمد، وذهبوا إلى حله، لأنه مذكى بذكاة أمه.
وذهب مالك إلى أنه إن تمّ خلقه ونبت شعره، أكل، وإلا لم يؤكل.
والحجة لهم ما ورد من قوله صلى الله عليه وسلّم: «ذكاة الجنين ذكاة أمه» وهو يفيد أن ذكاة أمه تنسحب عليه.
وقد قال من ينتصر لأبي حنيفة: إنّ الحديث كما يحتمل ما ذهبتم إليه، يحتمل معنى آخر، هو: أن ذكاته كذكاة أمه، فيكون على حدّ قوله:
فعيناك عيناها وجيدك جيدها ** ولكنّ عظم السّاق منك دقيق

وإذا احتمل ذلك فلا يخصّص الآية.
ويبعد هذا أنّ الحديث ورد في سياق سؤال، فقد ورد عن أبي سعيد، أنه صلّى اللّه عليه وسلّم سئل عن الجنين يخرج ميتا، فقال: «إن شئتم فكلوه، إنّ ذكاته ذكاة أمّه».
وقد اختلف في الانتفاع بدهن الميتة في غير الأكل، كطلاء السفن ودبغ الجلود، فذهب الجمهور إلى تحريمه، واستدلوا بالآية، لأنهم يرون أن الفعل المقدر هو الانتفاع بأكل أو غيره، وبما روي عن جابر، قال: لما قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مكة، أتاه أصحاب الصليب- وهو الودك الذي يستخرج من العظم- الذين يجمعون الأوداك، فقالوا: يا رسول اللّه، إنّا نجمع هذه الأوداك، وهي من الميتة، وعكرها إنما هي للأدم والسفن؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «قاتل اللّه اليهود، حرّمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها».
فنهاهم عن ذلك، وهذا يفيد أن تحريم اللّه إياها على الإطلاق يفيد تحريم بيعها.
وقد ذهب عطاء إلى أنه يدهن بشحوم الميتة ظهور السفن، ولعل حجته أن الآية إنما هي في تحريم الأكل، بدليل سابقها، وأن حديث شاة ميمونة يعارض حديث جابر، فوجب أن يرجح، لأنه موافق لظاهر التنزيل.
وأما الدم فقد ورد هنا مطلقا، وورد في سورة الأنعام [145] مقيّدا بالمسفوح وحمل العلماء المطلق على المقيد، ولم يحرّموا منه إلا ما كان مسفوحا، وورد عن عائشة رضي اللّه عنها أنها قالت: لو لا أن اللّه قال: أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا لتتبّع الناس ما في العروق.