فصل: (سورة الأنعام: آية 50)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة الأنعام: آية 50]

{قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50)}.

.الإعراب:

{قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ}.
الكلام مستأنف مسوق لتنزيه نفسه مما يقترحونه عليه. وقل فعل أمر، ولا نافية، وأقول فعل مضارع، ولكم جار ومجرور متعلقان بأقول، وجملة لا أقول مقول القول الأول، ولكم متعلقان بأقول وعندي ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم، وخزائن اللّه مبتدأ مؤخر، والجملة في محل نصب مقول القول الثاني {وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} جملة ولا أعلم الغيب معطوفة على جملة عندي خزائن اللّه لأنه من جملة مقول القول وجملة لا أقول لكم إني ملك معطوفة على جملة لا أقول لكم الأولى، وإني ملك: إن واسمها وخبرها مقول القول أيضا. {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ} الجملة داخلة في حيز المقول الذي لم ينته بعد، وإن نافية، وإلا أداة حصر، وما اسم موصول في محل نصب مفعول به، وجملة يوحى صلة الموصول، ونائب الفاعل مستتر، وإليّ جار ومجرور متعلقان بيوحى {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} كلام مستأنف لتتمة الوصايا، وهل حرف استفهام معناه النفي، أي: لا يستويان، ويستوي فعل مضارع، والأعمى فاعله، والبصير عطف على الأعمى، والجملة في محل نصب مقول القول، أفلا الهمزة للاستفهام الإنكاري، والفاء عاطفة، ولا نافية، وتتفكرون عطف على مقدر محذوف تقديره أي لا يستمعون هذا الكلام الذي يتلى عليكم فلا تتفكرون فيه وتتبينون مغابّه؟

.البلاغة:

الطباق بين الأعمى والبصير، وهما تشبيهان بليغان للضّالّ والمهتدي. ويجوز أن يعتبرا من باب الاستعارة التصريحية، لأن المشبّه لم يذكر وذكر المشبه به.

.[سورة الأنعام: الآيات 51- 52]

{وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)}.

.الإعراب:

{وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ} الواو عاطفة، والكلام معطوف على ما تقدم معدولا به إلى توجيه الانذار للذين يتفرس فيهم قبول الاتعاظ والاستعداد لتقبّله، وهم المؤمنون العاصون.
وأنذر فعل أمر، وبه جار ومجرور متعلقان بأنذر، والذين اسم موصول مفعول به، وجملة يخافون صلة الموصول، وأن وما بعدها في تأويل مصدر مفعول يخافون {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}.
الجملة حال من الضمير في أن يحشروا، أي: أنذر به هؤلاء الذين يخافون الحشر حال كونهم لا ولي لهم يواليهم ولا نصير ولا شفيع يشفع لهم من دون اللّه، وليس فعل ماض ناقص، ولهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر ليس، ومن دونه جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، وولي اسم ليس، ولا شفيع عطف على ولي، ولعل واسمها، وجملة يتقون خبرها، وجملة الرجاء حالية {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ} الواو حرف عطف، ولا ناهية، وتطرد فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والفاعل مستتر تقديره أنت، والذين اسم موصول مفعول به وجملة يدعون صلة وربهم مفعول به وبالغداة جار ومجرور متعلقان بيدعون، والعشي عطف على الغداة {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} الجملة حال من ضمير يدعون، أي: يدعونه مخلصين، ووجهه مفعول به {ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} ما يجوز أن تكون الحجازية العاملة عمل ليس فيكون {عليك} في محل نصب على أنه خبرها، عند من يجوز إعمالها في الخبر المقدّم، إذا كان ظرفا أو جارا ومجرورا، أما في حال المنع فيكون الجار والمجرور متعلقين بمحذوف خبر مقدم، والمبتدأ المؤخر هو شيء زيدت فيه من. وقوله من حسابهم حال، وصاحب الحال هو شيء لأن الجار والمجرور لو تأخرا عنه لتعلقا بمحذوف صفة له، وصفة النكرة متى تقدمت انتصبت على الحال، وجملة ما عليك إلخ حال أيضا {وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} الواو عاطفة، وما من حسابك عليهم من شيء تقدم إعرابها، إلا أن من حسابك يشكل جعلها حالًا لأنه يلزم تقدم الحال على عامله المعنوي، وهو ضعيف، ولو جاءت الجملة الثانية على نمط الأولى لكان التركيب:
وما عليهم من حسابك من شيء، فتقدم المجرور بعلى كما قدمته في الأولى، لكنه قدمه تشريفا له صلى اللّه عليه وسلم ليكون الخطاب مواجها له، وإذن أنت مضطر أن تجعله صفة مقدمة على موصوفها.
فتطردهم الفاء هي السببية وهي جواب النفي، وتطردهم فعل مضارع منصوب بأن مضمرة، فتكون الفاء أيضا سببية، وهي جواب النهي، فتأمل دقّة الفرق بين معنى الفاءين. ويجوز أن تجعل الفاء الثانية عاطفة، وتكون معطوفة على تطردهم على وجه التسبيب، لأن كونه ظالما مسبب عن طردهم، ومن الظالمين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر تكون.

.البلاغة:

1- في قوله: {يريدون وجهه} أي: ذاته وحقيقته: مجاز مرسل، والعلاقة ذكر البعض وإرادة الكل، وهو مجاز سائغ في كلامهم.
2- في قوله: {وما من حسابك عليهم من شيء} فنّ ردّ العجز على الصدر، وهو أن يجعل المتكلم أحد اللفظين المتفقين في النطق والمعنى، أو المتشابهين في النطق دون المعنى أو اللذين يجمعهما الاشتقاق أو شبه الاشتقاق، في آخر الكلام بعد جعل اللفظ الآخر له في أوله.
ومنه قول البحتري:
ضرائب أبدعتها في السّماح ** فلسنا نرى لك فيها ضريبا

وقول أبي تمام:
ولم يحفظ مضاع المجد شيء ** من الأشياء كالمال المضاع

وقول المعرّي:
لو اختصرتم من الإحسان زرتكم ** والعذب يهجر للإفراط في الخصر

وبيت الحماسة المشهور:
تمتع من شميم عرار نجد ** فما بعد العشيّة من عرار

.الفوائد:

روي أن رؤساء المشركين قالوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: لو طردت عنا هؤلاء الأعبد، يعنون فقراء المسلمين، وهم عمار بن ياسر وصهيب وبلال وأرواح جبابهم- وكانت عليهم جباب من صوف لمداومة لبسها ولعدم وجود غيرها- جلسنا إليك وحادثناك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «ما أنا بطارد المؤمنين». فقالوا: فأقمهم عنّا إذا جئنا، فإذا قمنا فأقعدهم معك إن شئت. فقال: «نعم»، طمعا في إسلامهم. فقالوا فاكتب لنا كتابا عليك بذلك، فأتى بالصحيفة ودعا عليّا ليكتب، فنزل عليه جبريل بقوله: {ولا تطرد...} الآية. وهذا من أروع مثل المساواة الاسلامية.

.[سورة الأنعام: الآيات 53- 54]

{وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)}.

.اللغة:

{فَتَنَّا}: اختبرنا وابتلينا.
{مَنَّ}: أنعم، وله عليّ منّة ومنن، ومنّ عليّ بما صنع، وامتننت منك بما فعلت منّة جسيمة أي: احتملت منّة، وليس لقلبه منّة أي: قوّة. ومادة الميم والنون تفيد الإعطاء والمنع على الأغلب، ومنه: منح وفلان منّاح، وفلان يعطي المنائح والمنح، ومنح الشيء ومنه وعنه، وهو منوع ومنّاع. وهذا من غرائب لغتنا التي لا تقف عند حدّ.

.الإعراب:

{وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} الكلام مستأنف مسوق لبيان أن الإسلام جعل المساواة شرعة ومنهاجا، لأن اللّه ابتلى الغني بالفقير والفقير بالغنيّ، وكل مبتلى بضده حتى تعم المساواة، فلا رفيع ولا وضيع، ولا كبير ولا صغير، والكاف في محل نصب على أنها نعت لمصدر محذوف، أو هي حرف جر، واسم الاشارة في محل جر، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لموصوف محذوف، وقد تقدم بحثه، وسيبويه يختار إعرابه حالا، وبعضهم مفعول به، وببعض جار ومجرور متعلقان بفتنّا {لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} اللام للتعليل، ويقولوا فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام، والتقدير: ومثل ذلك الفتون فتنا ليقولوا هذه المقالة ابتلاء منا وامتحانا، ويجوز أن تكون اللام هي لام الصيرورة أو العاقبة، ويكون قوله: {أهؤلاء} صادرا عنهم على سبيل الاستخفاف بالمؤمنين، والجملة الاستفهامية في محل نصب مقول القول، والهمزة للاستفهام التقريري والتهكمي، وهؤلاء اسم إشارة في محل رفع مبتدأ، وجملة {منّ} اللّه خبر، وعليهم جار ومجرور متعلقان ب منّ، ومن بيننا جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، ويجوز أن نعرب هؤلاء نصبا على الاشتغال بفعل محذوف يفسره الفعل الظاهر العامل في ضميره بواسطة على، ويكون المفسر من حيث المعنى لا من حيث اللفظ، والتقدير: أفضل اللّه هؤلاء ومنّ عليهم أو اختارهم، وتكون جملة منّ اللّه عليهم لا محل لها من الاعراب لأنها مفسرة، وإنما ساغ هذا الوجه وفضله الكثيرون لأنه ولي همزة الاستفهام، وهي أداة يغلب إيلاء الفعل بعدها. وقوله: أليس الهمزة للاستفهام التقريري، وليس فعل ماض ناقص، واللّه اسمها، والباء حرف جر زائد، وأعلم مجرور لفظا بالباء منصوب محلا على أنه خبر ليس، وبالشاكرين جار ومجرور متعلقان بأعلم، والجملة الاستفهامية مستأنفة مسوقة لتكون جوابا للاستفهام التقريري {وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} الواو استئنافية، والكلام مستأنف مسوق للعودة إلى ذكر المؤمنين الذين نهي عن طردهم وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط متعلق بالجواب، أي: فقل سلام عليكم وقت مجيئهم، وجملة جاءك في محل جر بالإضافة، والذين فاعل، وجملة يؤمنون صلة، فقل الفاء واقعة في جواب الشرط، وسلام مبتدأ ساغ الابتداء به مع أنه نكرة لما فيه من معنى الدعاء، وعليكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر، وجملة قل لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، وجملة سلام عليكم في محل نصب مقول القول {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} الجملة داخلة في حيز المقول لأنه من جملة ما يقوله لهم، وكتب ربكم فعل وفاعل، وعلى نفسه جار ومجرور متعلقان بكتب، والرحمة مفعول به {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} قرئ بفتح الهمزة، فتكون أن واسمها في موضع نصب بدل من الرحمة، وتكون الجملة منتظمة في حيز القول.
وفي قراءة بكسر الهمزة، فالجملة استئنافية مسوقة لتفسير الرحمة، وتكون الهاء ضمير الشأن اسم إن. ومن اسم شرط جازم أو موصولية، وهي مبتدأ على كل حال، وعمل فعل ماض في محل جزم فعل الشرط، وسوءا مفعول به، ومنكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من فاعل عمل، وبجهالة جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال أيضا من الفاعل نفسه، أي: عمل وهو جاهل بحقيقة ما ينجم عنه من المضارّ والمثالب، وسوء العواقب، ثم حرف عطف، وتاب عطف على تاب، وأصلح عطف عليه أيضا، والفاء رابطة لجواب الشرط، وأن المفتوحة الهمزة وما في حيزها خبر لمبتدأ محذوف، أي: فأمره ومآله غفران اللّه له، وغفور رحيم خبران لأن، وقرئ بكسر همزة إن على الاستئناف، ورجحها ابن جرير على أنه استئناف لوقوعها بعد الفاء، وجملة من عمل خبر إن، وفعل الشرط وجوابه خبر من.

.[سورة الأنعام: الآيات 55- 56]

{وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56)}.

.الإعراب:

{وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} كلام مستأنف مسوق لبيان الغاية من تفصيل الآيات. وكذلك في محل نصب مفعول مطلق، والآيات مفعول به، والواو عاطفة على محذوف، والتقدير: ليظهر الحق ولتظهر سبيل المجرمين، واللام للتعليل، وتستبين فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، وسبيل فاعل، والسبيل مؤنثة وقد تذكر، وقد قرئ: {ليستبين}، فتأنيث الفعل لتأنيث السبيل وتذكيره لتذكيره {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} كلام مستأنف مسوق للرجوع إلى مخاطبتهم حسما لأطماعهم الفارغة. وقل فعل أمر، وإن واسمها، وجملة نهيت خبرها، والجملة في محل نصب مقول القول، وأن وما بعدها في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض، والجار والمجرور متعلقان بنهيت، والمعنى: ونهيت عن عبادة الذين تدعون. والذين اسم موصول في محل نصب مفعول به، وجملة تدعون صلة الموصول، ومن دون اللّه جار ومجرور متعلقان بتدعون {قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} الكلام مستأنف مسوق ليرجع صلى اللّه عليه وسلم إلى مخاطبتهم وكرره مع قرب ذكره زيادة في التأكيد. وجملة لا أتبع أهواءكم في محل نصب مقول القول، وجملة قد ضللت مستأنفة مسوقة منه صلى اللّه عليه وسلم لتأكيد انتهائه عما نهي عنه. وإذن حرف جواب وجزاء، فيه معنى الشرط، والمعنى: إن اتبعت أهواءكم ضللت وما اهتديت. فهي في قوة شرط وجواب، والواو حرف عطف، وما نافية حجازية تعمل عمل ليس، وأنا اسمها، ومن المهتدين جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبرها، وإنما عدل عن الفعلية إلى الاسمية للدلالة على الديمومة والاستمرار.

.[سورة الأنعام: الآيات 57- 58]

{قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)}.

.الإعراب:

{قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} كلام مستأنف لبيان الحق الذي يتبعه النبي صلى اللّه عليه وسلم، وإزهاق الباطل الذي يتبعونه. قل فعل أمر وجملة إني على بينة مقول القول، وإن واسمها، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبرها، ومن ربي جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لبينة {وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} الواو استئنافية، والكلام مستأنف مسوق لاستقباح تكذيبهم، ويجوز أن تكون حالية، فالجملة في محل نصب على الحال، ولابد من تقدير قد عندئذ. وكذبتم فعل وفاعل، وبه متعلقان بتستعجلون، وما نافية، وعندي ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر مقدم، وما اسم موصول في محلّ رفع مبتدأ مؤخر، وجملة تستعجلون صلة الموصول، وبه جار ومجرور متعلقان بتستعجلون، وجملة ما عندي مستأنفة {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ} كلام مستأنف مسوق لبيان أن الحكم هو للّه سبحانه. وإن نافية، والحكم مبتدأ، وإلا أداة حصر، وللّه جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر الحكم، وجملة يقصّ الحق في محل نصب على الحال، والحق مفعول به، وفي قراءة: {يقضي الحق} بالضاد، من القضاء بمعنى الحكم والفصل بالقضاء، ورجّحها ابن جرير قال: لأن الفصل بين المختلفين إنما يكون بالقضاء لا بالقصيص، والحق عندئذ صفة لمصدر محذوف أي: ليقضي القضاء الحق، والواو استئنافية أو حالية، وهو مبتدأ، وخير الفاصلين خبر {قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} الجملة مستأنفة لبيان أن الأمر راجع إلى اللّه تعالى، ولو شرطية. وأن وما في حيزها في محل رفع فاعل لفعل محذوف، تقديره ثبت، والجملة في محل نصب مقول القول، والظرف متعلق بمحذوف خبر أن المقدم، وما اسم موصول في محل نصب اسم أن المؤخر، وجملة تستعجلون صلة الموصول، وبه جار ومجرور متعلقان بتستعجلون، واللام واقعة في جواب لو، وقضي فعل ماض مبني للمجهول. والأمر نائب فاعل، والجملة لا محل لها لأنها جواب لشرط غير جازم، وبيني ظرف مكان متعلق بقضي، وبينكم ظرف أيضا معطوف على الظرف السابق {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} كلام مستأنف، واللّه مبتدأ، وأعلم خبر، وبالظالمين جار ومجرور متعلقان بأعلم.

.[سورة الأنعام: آية 59]

{وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59)}.

.اللغة:

(المفاتح): جمع مفتح بكسر الميم، وهو المفتاح، وقرئ مفاتيح. وقيل: مفاتيح جمع مفتاح، وهو الذي يتوصل به إلى ما في المخازن المتوثّق منها بالإغلاق. وقيل: هو جمع مفتح: بفتح الميم وكسر التاء، وهو المخزن، وزنا ومعنى.

.الإعراب:

{وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ} الكلام مستأنف مسوق لبيان أن الأمور الغيبية مختصة به سبحانه والظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم، ومفاتح الغيب مبتدأ مؤخر، وجملة لا يعلمها في محل نصب على الحال من مفاتح، والعامل فيها الاستقرار الذي تعلق به الظرف، وإلا أداة حصر، وهو فاعل أو تأكيد للفاعل المستتر، ولعله أولى {وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها} الواو استئنافية، وما نافية، ويعلم فعل مضارع، وما اسم موصول في محل نصب مفعول به وفي البر جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة ما والبحر عطف على البر، والواو حرف عطف وما نافية، وتسقط فعل مضارع مرفوع، ومن حرف جر زائد، وورقة مجرور لفظا بمن مرفوع محلا على أنه فاعل تسقط، وإلا أداة حصر، وجملة يعلمها حال من ورقة. وجاء الحال من النكرة لاعتمادها على النفي {وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ} الواو حرف عطف، وحبة معطوفة على ورقة بالجر لفظا، ولو قرئ حبة بالرفع بالعطف على المعنى لجاز، ولا رطب ولا يابس عطف على ورقة أيضا، وإلا أداة حصر، وفي كتاب جار ومجرور وهو تكرار لقوله: إلا يعلمها، على أنه بدل اشتمال، فهو في محل نصب على الحال.

.البلاغة:

اشتملت هذه الآية على ضروب من البلاغة نلخصها فيما يلي:
1- الاستعارة التصريحية في قوله: {مفاتح الغيب}، كأن للغيب مفاتيح بيده تعالى يكشف بها ما غمض على الناس.
2- الاستعارة التصريحية في قوله: {ظلمات} لشدائد البر والبحر وأهوالهما التي تبطل الحواس وتدهش العقول، لأن الظلمات تبطل حاسة البصر، ومن ثم قيل لليوم الشديد العصيب: يوم مظلم، ويوم ذو كواكب، لأن الكواكب لا تظهر إلا في الظلمة، على طريق الاستعارة التصريحية.
3- الطباق بين البر والبحر، والرطب واليابس، فهي مقابلة.
4- التكرير في قوله: {إلا يعلمها}، وفي قوله: {إلا في كتاب مبين}، لأنه بمثابة {إلا يعلمها}، وفائدة هذا التكرير التطرية لما بعد عهده، لأنه لما عطف على {ورقة} بعد أن سلب الإيجاب المقصود للعلم في قوله: {إلا يعلمها} وكانت هذه المعطوفات داخلة في إيجاب العلم، وهو المقصود، وبعد ارتباط آخرها بالإيجاب السالف، كان ذلك جديرا بتجديد العهد بالمقصود، ثم كان اللائق بالبلاغة المألوفة في القرآن التجديد بعبارة أخرى، ليتلقّاها السامع غضّة جديدة غير مملولة بالتكرير.
5- حصر الجزئي وإلحاقه بالكلي: وهو أن يأتي المتكلم إلى نوع ما فيجعله بالتعظيم له جنسا بعد حصر أقسام الأنواع منه والأجناس، فإنه سبحانه بعد أن أخبر بأن عنده مفاتيح كلّ غيب، إذ اللام للجنس هاهنا مجملا في القول، تمدّح بأنه يعلم ما في البر والبحر من أصناف الحيوان والنبات والجماد، وحاصر الكليات المولدات، ورأى سبحانه أن الاختصار على ذلك لا بكمل به معنى التمدح لاحتمال أن يظنّ ضعيف أنه يعلم الكليات دون الجزئيات، فإن المولدات الثلاث- وإن كانت جزئيات بالنسبة إلى العالم- فكل واحد منها كليّ بالنسبة إلى ما تحته من الأجناس المتوسطة والأنواع وأصنافها، فقال لكمال التّمدّح: {وما تسقط من ورقة إلا يعلمها}، وعلم أن علم ذلك قد يشاركه فيه من مخلوقاته كل من خلق له إدراكا وهداه إلى طريق ذلك. فشارك فيه فتمدح بما لا يشارك فيه بقوله: {ولا حبة في ظلمات الأرض}، ثم ألحق هذه الجزئيات بعد حصرها بالكليات حيث قال: {ولا رطب ولا يابس} لأن جميع المولّدات وعناصرها التي تولدت منها- ما كان منها في باطن الأرض وما خرج إلى ظاهرها- لا يخرج عن هذين القسمين. وألغى ذكر المعتدل فإنه ممتزج من هذين القسمين. فاستغنى بذكر الأصل عن الفرع. ثم قال: {إلا في كتاب مبين} إشارة إلى أن علمه بذلك علم من معلومه مفيد في كتاب مبين. فهو يأمن الضلال والنسيان.
نماذج شعرية:
وقال أبو الطّيّب المتنبي رامقا هذه السّماء العالية من البيان:
هي الغرض الأقصى ورؤيتك المنى ** ومنزلك الدنيا وأنت الخلائق

فقد قصد تعظيم ممدوحه، فجعل منزلة الّذي هو الجزئي كلّيّا.
وهو الدنيا، وجعل ذاته التي هي جزئية كلية، وهي الخلائق، فجعل الجزئيّ كلّيّا. وأما حصر أقسام الجزئيّ فلان العالم إما حيوان بجسمه وعرضه، والمنزل شامل لهما، ومثله لأبي الفرج الببغا:
ما بأرض لم تبد فيها صباح ** ما بدار حللت فيها ظلام

وإذا ما أقمت في بلد فهـ ** ـي جميع الدّنيا وأنت الأنام

فقد حصر جميع أقسام الجزئيّ بالطّريقة التي ذكرناها، وألحقه بالكليّ. وقال أبو الحسن السّلاميّ:
إليك طوى عرض البسيطة جاعل ** قصارى المطايا أن يلوح لها القصر

فكنت وعزمي والظّلام وصارمي ** ثلاثة أشباه كما اجتمع النسر

فسرت بآمالي لملك هو الورى ** ودار هي الدّنيا ويوم هو الدهر

والبيت الأخير هو المراد، فقد أراد الشاعر تعظيم ممدوحه، وتفخيم أمر داره التي قصده فيها، وتبجيل يومه الذي لقيه، فجعل الممدوح جميع الورى، وجعل داره التي قصده فيها كل الدنيا، وجعل يومه الذي لقيه فيه جملة الدهر، فجعل الجزئي كلّيّا بعد حصر أقسام الجزئي. أما جعله الجزئيّ كلّيّا فإن الممدوح جزء من الورى، وداره جزء من الدنيا، ويوم لقائه جزء من الدهر. وأما حصر أقسام الجزئي فلأن العالم عبارة عن أجسام وظروف زمان وظروف مكان، وقد حصر ذلك كلّه في ذكر الممدوح، وذكر داره، وذكر يوم لقائه. وأما الحاق الجزئي بالكلّيّ فلكونه ألحق الممدوح بجميع الورى في كونه جعله وزن جميع الورى، على حدّ قول أبي نواس:
ليس على اللّه بمستنكر ** أن يجمع العالم في واحد