فصل: (سورة الأنعام: آية 151)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة الأنعام: آية 151]

{قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)}

.اللغة:

(تعال) من الخاصّ الذي صار عاما، وأصله أن يقوله من كان في مكان عال لمن هو أسفل منه، ثم كثر واتسع حتى عم. وهو فعل أمر مفتوح الآخر دائما، ومن ثم لحنوا أبا فراس الحمداني بقوله:
أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا ** تعالي أقاسمك الهموم تعالي

.الإعراب:

{قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} كلام مستأنف مسوق لأمره صلى اللّه عليه وسلم بأن يتلو عليهم ما حرم ربهم عليهم حقيقة لا ظنا، ويقينا لا حدسا. وجملة تعالوا في محل نصب مقول القول، وهو فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعل، وأتل فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب، وابن هشام يؤثر أن يقال: إنه جواب الشرط مقدّر، وما اسم موصول في محل نصب مفعول به، وجملة حرم عليكم لا محلّ لها لأنها صلة الموصول، والعائد محذوف، أي: الذي حرّمه. ويجوز أن تكون ما مصدرية، أي: اتل تحريم ربكم. والتحريم لا يتلى، ولكنه مصدر واقع موقع المفعول به.
وربكم فاعل حرم، وعليكم جار ومجرور متعلقان بحرم أو بأتل، على أن المسألة من باب التنازع {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا} في أن أوجه عديدة، والمختار منها وجهان: أولهما أنها مفسرة، لأنه تقدمها ما هو معنى القول دون حروفه، ولا ناهية، وتشركوا فعل مضارع مجزوم بها، والجملة لا محل لها لأنها مفسّرة. والوجه الثاني أنها مصدرية، وهي وما في حيزها بدل من {ما حرم}، وبه جار ومجرور متعلقان بتشركوا، وشيئا مفعول به أو بمعنى المصدر، فهي مفعول مطلق. وقد تقدمت الإشارة إلى مثيله. وبالوالدين جار ومجرور متعلقان بفعل المصدر المحذوف، أي أحسنوا بالوالدين، وإحسانا مفعول مطلق للفعل المحذوف، وسيأتي بحث هام لابن هشام في إعراب هذه الآية في باب الفوائد {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} الواو عاطفة، ولا ناهية، وتقتلوا فعل مضارع مجزوم بلا، وأولادكم مفعول به، ومن إملاق جار ومجرور متعلقان بتقتلوا، أي: لأجل الإملاق، فمن سببية، ولم ينصب المفعول لأجله لاختلال شرطه، لأن الإملاق مصدر غير قلبي، وسيأتي مزيد بحث عنه في باب البلاغة. ونحن مبتدأ وجملة نرزقكم خبر، وجملة نحن نرزقكم مستأنفة لتعليل النهي قبله، وإياهم عطف على الضمير في نرزقكم، وقدم المخاطبين على ضمير الأولاد بعكس آية الإسراء لسرّ بلاغي، سيأتي في باب البلاغة {وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ} الواو حرف عطف، ولا ناهية، وتقربوا فعل مضارع مجزوم بلا، والواو فاعل، والفواحش مفعول به، وما اسم موصول في محل نصب بدل من الفواحش، وهو بدل اشتمال، وجملة ظهر لا محل لها لأنها صلة الموصول، ومنها جار ومجرور متعلقان بظهر، وما بطن عطف على ما ظهر {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} عطف على ما تقدم، داخل في حيزه، لاستيفاء المحرمات، وهي عشرة أشياء.
ولا ناهية، وتقتلوا فعل مضارع مجزوم بلا، والنفس مفعول به، والتي اسم موصول في محل نصب صفة، وجملة حرم اللّه لا محل لها لأنها صلة الموصول، وإلا أداة حصر، والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال، أي: لا تقتلوها في حال من الأحوال إلا حال ملابستكم بالحق، فالباء للملابسة، وهي ومجرورها متعلقان بمحذوف حال من الواو في {تقتلوا} ويجوز أن يكون الاستثناء المفرّغ من الفعل نفسه، فيكون الجار والمجرور مفعولا مطلقا، أي: إلا القتل الملتبس بالحق: كالقود وحدّ الرّدّة ورجم المحصن {ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} اسم الاشارة مبتدأ، والجملة مستأنفة مسوقة للاشارة إلى ما تقدم، وجملة وصاكم خبر ذلكم، وبه جار ومجرور متعلقان بوصاكم، ولعلكم تعقلون لعل واسمها وخبرها، وجملة الرجاء حالية، أي: لعلكم تستعملون عقولكم التي تعقل نفوسكم، وتحبسها عن اجتراح هذه المنهيّات.

.البلاغة:

اشتملت هذه الآية على أفانين عجيبة من البلاغة، تستلزم التطويل، ولكنه التطويل غير المملول، فحديث الجمال يطول، وكلما طال ازداد حسنا، كالجمال نفسه كلما أمعنت النظر فيه ازدادت معالم حسنه:
يزيدك وجهه حسنا ** إذا ما زدته نظرا

1- التوهيم:
فالفن الأول في هذه الآية هو فن التوهيم وقد سبقت الاشارة إليه في سورة آل عمران، ونجدد العهد به هنا فنقول: هو أن يأتي المتكلم بكلمة يوهم ما بعدها من الكلام أن المتكلم أراد تصحيفها، وهو يريد غير ذلك، وذلك في قوله: {أن لا تشركوا به شيئا}.
فإن ظاهر الكلام يدل على تحريم نفي الشرك، وملزومه تحليل الشرك، وهذا محال، وخلاف المعنى المراد، والتأويل الذي يحلّ الإشكال هو أن في الوصايا المذكورة في سياق الآية وما بعدها ما حرّم عليهم وما هم مأمورون به فإن الشرك باللّه، وقتل النفس المحرمة، وأكل مال اليتيم، مما حرّم ظاهرا وباطنا، ووفاء الكيل والميزان بالقسط والعدل في القول، فضلا عن الفعل والوفاء بالعهد واتباع الصراط المستقيم من الأفعال المأمور بها أمر وجوب، ولو جاء الكلام بغير لا لانبتر واختل وفسد معناه، فإنه يصير المعنى حرّم عليكم الشرك، والإحسان للوالدين، وهذا ضد المعنى المراد. ولهذا جاءت الزيادة التي أوهم ظاهرها فساد المعنى ليلجأ إلى التأويل الذي يصح به عطف بقية الوصايا على ما تقدم.
2- التّغاير:
والفنّ الثاني فيها هو التغاير، وذلك في قوله: {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق}. وحدّه تغاير المذهبين، إما في المعنى الواحد بحيث يمدح إنسان شيئا أو يذمه، أو يذم ما مدحه غيره، وبالعكس، ويفضل شيئا على شيء، ثم يعود فيجعل المفضول فاضلا. ومن التغاير تغاير المعنى لمغايرة اللفظ، مثل قوله: {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم} فإن ذلك غير قوله في هذا المعنى عينه في بني إسرائيل: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم} فقدّم في آية الأنعام للفقراء بدليل قوله تعالى: {من إملاق}، فاقتضت البلاغة تقديم وعدهم- أعني الآباء المملقين- بما يغنيهم من الرزق، واقتضت البلاغة تكميل المعنى بعدة الأبناء بعد عدة الآباء ليكمل سكون الأنفس. وفي بني إسرائيل الخطاب للأغنياء، بدليل قوله تعالى: {خشية إملاق}، فإنه لا يخشى الفقر إلا الغني، أما الفقير ففقره حاصل. فاقتضت البلاغة تقديم وعد الأبناء بالرزق ليشير هذا التقديم إلى أنه سبحانه هو الذي يرزق الأبناء ليزول ما توهم الأغنياء من أنهم بإنفاقهم على الأبناء يصيرون إلى الفقر بعد الغنى، ثم كمل هذا الطمأنينة بعدتهم بالرزق بعد عدة أبنائهم. فسبحان قائل هذا الكلام!
التّغاير في الشّعر العربيّ:
هذا وقد افتنّ الشعراء في هذا المعنى وتلاعبوا به وسلكوا به كل واد، وسنورد لك فيما يلي طائفة مختارة مما تمّ به التغاير، ومدح الشعراء ما هو مشتهر بالذّم، وذمّوا ما من حقه المدح. وأول من أشار إلى ذلك عنترة بن شداد الشاعر العبسي والفارس المشهور عند ما اشتهى تقبيل السيوف لأنها التمعت كبارق ثغر من يهواها، فقال بيتيه المشهورين:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل ** منّي وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها ** لمعت كبارق ثغرك المتبسّم

وما أجمل قول أبي فراس الحمدانيّ وقد سلك مسلكا آخر فقال:
مسيء محسن طورا وطورا ** فما أدري عدّوي أم حبيبي

يقلّب مقلة ويدير طرفا ** به عرف البريء من المريب

وبعض الظالمين وإن تناهى ** شهيّ الظلم مغتفر الذنوب

وولع البحتريّ بهذا الفن فقال:
عيّرتني بالشيب من بدآته ** في عذاري بالهجر والإجتناب

لا تريه عارا فما هو بالشـ ** ـيب ولكنه جلاء الشباب

وبياض البازيّ أصدق حسنا ** إن تأمّلت من سواد الغراب

وقال في المعنى نفسه وأجاد:
عذلتنا في عشقها أمّ عمرو ** هل سمعتم بالعاذل المعشوق؟

ورأت لمّة ألمّ بها الشّيـ ** ـب فريعت من ظلمة في شروق

ولعمري لولا الأقاحي لأبصر ** ت أنيق الرياض غير أنيق

ومزاج الصهباء بالماء أولى ** بصبوح مستحسن وغبوق

وسواد العيون لو لم يكمّل ** ببياض ما كان بالموموق

أيّ ليل يبهى بغير نجوم؟ ** وسماء تندى بغير بروق؟

ووصف البحتري يوم الفراق بالقصر وقد أجمع الناس على طوله حيث قال:
ولقد تأمّلت الفراق فلم أجد ** يوم الفراق على امرئ بطويل

قصرت مسافته على متزوّر ** منه لدهر هن صبابة وغليل

أما ابن الرومي فقد سما على المتقدمين والمتأخرين في ذمّ ما تواضع الناس على مدحه، فقال يهجو البدر:
لو أراد الأديب أن يهجو البد ** ر رماه بالخطة الشنعاء

قال: يا بدر أنت تغدر بالسا ** ري وتغري بزائر الحسناء

يعتريك المحاق في كل شهر ** فترى كالقلامة الحجناء

نمش في بياض وجهك يحكي ** كلفا فوق وجنة برصاء

لا لأجل المديح بل خيفة الهجر أخذنا جوائز الخلفاء وقال الشريف الرضي يهجو الشمس:
في خلقة الشمس وأخلاقها ** شتى عيوب ستة تذكر

رمداء عمشاء إذا أصبحت ** عمياء عند الليل لا تبصر

ويغتدي البدر لها كاسفا ** وجرمه من جرمها أصغر

حرورها في القيظ لا يتّقى ** ودفؤها في القر مستحقر

وخلقها خلق الملول الذي ** ينكث للعهد ولا يبصر

ليست بحسناء وما حسن من ** يحسر منه الطرف إذ ينظر

ولو أردنا الاستفاضة لملأنا الكتاب كله من هذا الشعر المستطاب الفريد، ولكن حسبنا من القلادة ما أحاط بالجيد.
3- المجاز المرسل:
في قوله تعالى: {من إملاق} فهو جار مجرى الكناية، لأنه إذا خرج ماله من يده ركبه الفقر فاستعمل لفظ السبب في موضع المسبب، قال في أساس البلاغة: ومن المجاز أملق الدهر ماله: أذهبه وأخرجه من يده، وأملق الرجل: أنفق ماله حتى افتقر، ورجل مملق. وقال أعرابي: قاتل اللّه النساء كيف يمتلقن العلل لكأنها تخرج من تحت أقدامهن، أي: يستخرجنها.

.الفوائد:

لابن هشام كلام مطوّل في هذه الآية قال: وقوله تعالى: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا} فقيل: إن لا نافية، وقيل: ناهية، وقيل: زائدة، والجميع محتمل. وحاصل القول في الآية أن {ما} خبرية بمعنى الذي، منصوبة ب {أتل} وحرم ربكم: صلة، وعليكم متعلقة بحرم. هذا هو الظاهر. وأجاز الزجاج كون {ما} استفهامية منصوبة بحرم، والجملة محكية ب {أتل} لأنه بمعنى أقول، ويجوز أن يعلق {عليكم} ب {أتل}، ومن رجح إعمال أول المتنازعين- وهم الكوفيون- رجحه على تعلقه بحرّم. وفي أن وما بعدها أوجه: أن يكونا في موضع نصب بدلا من {ما}، وذلك على أنهما موصولة لا استفهامية، إذ لم يقترن البدل بهمزة الاستفهام. الثاني أن يكونا في موضع رفع خبر ل {هو} محذوفا، أجازهما بعض المعريين. وعليهما ف {لا} زائدة، قال ابن الشجري: والصواب أنها نافية على الأول، وزائدة على الثاني.
والثالث أن يكون الأصل: بيّن لكم ذلك لئلا تشركوا، وذلك لأنهم إذا حرم عليهم رؤساؤهم ما أحله اللّه سبحانه تعالى فأطاعوهم أشركوا، لأنهم جعلوا غير اللّه بمنزلته. والرابع أن الأصل: أوصيكم بأن لا تشركوا، بدليل أن وبالوالدين إحسانا، معناه وأوصيكم بالوالدين، وإن في آخر الآية: {ذلكم وصّاكم به}، وعلى هذين الوجهين فحذفت الجملة وحرف الجر. والخامس أن التقدير: أتل عليكم أن لا تشركوا، مدلولا عليه بما تقدم. وأجاز هذه الأوجه الثلاثة الزجاج. والسادس أن الكلام تم عند {حرم ربكم} ثم ابتدئ عليكم أن لا تشركوا وأن تحسنوا بالوالدين إحسانا وأن لا تقتلوا ولا تقربوا، فعليكم على هذا اسم فعل بمعنى الزموا، وأن في الأوجه الستة مصدرية، ولا في الأوجه الأربعة الأخيرة نافية. والسابع أنّ أن مفسرة بمعنى أي، ولا ناهية، والفعل مجزوم لا منصوب، وكأنه قيل: أقول لكم لا تشركوا به شيئا وأحسنوا بالوالدين إحسانا. وهذان الوجهان أجازهما ابن الشجري.
وقال ابن هشام في موضع آخر من المغني: وأما قول بعضهم في: {قل تعالوا أتل ما حرم عليكم ربكم أن لا تشركوا به شيئا} إن الوقف قبل {عليكم}، وإن {عليكم} إغراء، فحسن، ويتخلص من إشكال ظاهر في الآية محوج للتأويل.
وإنما أطلنا في الاقتباس لأن الآية كثر فيها الخوض، فتدبر واللّه يعصمك.

.[سورة الأنعام: الآيات 152- 153]

{وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)}

.اللغة:

(الأشد): يقال: بلغ فلان أشدّه: أي قوّته، بمعنى الإدراك والبلوغ. وهو ما بين الثماني عشرة إلى الثلاثين من العمر، وهو جمع لا واحد له. أو واحد جاء على بناء الجمع، هذا ما يتلخص من القاموس.
وقال غيره: والأشدّ قيل: هو اسم مفرد لفظا ومعنى. وقيل: هو اسم جمع. وعلى هذا فمفرده: شدّة، كنعمة، أو شدّ ككلب، أو شدّ كضر، أقوال ثلاثة في مفرده ويمكن أن يقال فيه: هو استحكام قوة الشباب والسنّ حتى يتناهى في الشباب إلى حد الرجال.
{الْكَيْلَ} هي الآلة التي يكال فيها، وأصله مصدر أطلق على الآلة.
{الْمِيزانَ} في الأصل: مفعال، من الوزن، وقد تقدم إعلاله في:
ميقات، بالبقرة، من الوزن، فأصله مصدر نقل إلى الآلة. ومثله المصباح والمقياس، لما يستصبح به ويقاس.

.الإعراب:

{وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}
الواو عاطفة، ولا ناهية، وتقربوا فعل مضارع مجزوم بلا، والواو فاعل، ومال اليتيم مفعوله، وإلا أداة حصر، وبالتي اسم الموصول نعت لمصدر محذوف، والجار والمجرور متعلقان بتقربوا. أي: إلا بالخصلة التي هي أحسن. وهي مبتدأ، وأحسن خبره، والجملة الاسمية لا محل لها لأنها صلة الموصول، وأتى بصيغة اسم التفضيل تنبيها على أن يتحرى في ذلك غاية التحرّي ويفعل الأحسن. وحتى حرف غاية وجر، ويبلغ فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى، والجار والمجرور متعلقان بتقربوا، وأشده مفعول به {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ}
الجملة معطوفة وأوفوا الكيل فعل وفاعل ومفعول به والميزان مفعول به معطوف على الكيل، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال من فاعل أوفوا، أي: مقسطين عادلين، ويجوز أن يكون حالا من المفعول به، أي: تامّين {لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَها}
الجملة معترضة بين المتعاطفين لا محل لها، للتنبيه على أن أمر الكيل والميزان ومراعاة العدل فيهما يتطلب دقة ومغالبة للهوى. ولا نافية، ونكلف فعل مضارع مرفوع، ونفسا مفعول به، وإلا أداة حصر، ووسعها مفعول به ثان، كأنه قيل: اعملوا كل ما في وسعكم وطاقتكم {وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} الواو عاطفة، وإذا شرطية ظرفية، وجملة قلتم في محل جر بالإضافة، والفاء رابطة، واعدلوا فعل أمر مبني على حذف النون، والواو حالية، ولو شرطية غير جازمة، وكان فعل ماض ناقص، واسمها ضمير مستتر، وذا قربى خبرها، وبعهد اللّه جار ومجرور متعلقان بأوفوا، وأوفوا فعل أمر مبني على حذف النون {ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
تقدم إعراب نظيرها {وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} عطف على ما تقدم، وأن واسمها، وصراطي خبرها، ومستقيما حال مؤكدة من صراطي، والعامل فيها معنى الإشارة، والفاء الفصيحة، واتبعوه فعل أمر وفاعل ومفعوله، والجملة لا محل لها، والمعنى إذا أردتم الفوز والنجاة من مهاوي البدع ومساقط الضلالات. واتبعوه فعل أمر وفاعل ومفعول به، والجملة لا محل لها {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} الواو عاطفة، ولا ناهية، وتتبعوا فعل مضارع مجزوم بلا، والواو فاعل، والسبل مفعول به، فتفرّق الفاء السببية، وتفرق أصله تتفرق فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد الفاء في جواب النهي، وبكم جار ومجرور متعلقان بتفرق، وعن سبيله جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال، أي: متنائية عن سبيله. {ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} تقدم إعرابها.

.[سورة الأنعام: الآيات 154- 157]

{ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَمامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (157)}

.اللغة:

{دِراسَتِهِمْ}: مصدر درس العلم، من باب قتل، ودرسا أيضا، وهذا المعنى هو المراد هنا. ولهذه المادة معان عجيبة، يقال: درس الحنطة دراسا: داسها. ودرس الناقة راضها وأذلها. ورجل مدرّس ودرس الكتاب للحفظ كرّر قراءته، درسا ودراسة. ودرس المرأة نكحها. ودرست المرأة حاضت. ودرس الثوب: أخلق، فهو درس ودريس. وبسط دريسا أي: ثوبا وبساطا خلقا. وقتل رجل في مجلس النعمان بن المنذر رجلا فأمر بقتله، فقال الرجل: أيقتل الملك جاره؟ ويضيع ذماره؟ قال: نعم إذا قتل جليسه، وخضب دريسه.
أي: بساطه. وطريق مدروس: كثر مشي الناس فيه حتى ذلّلوه.
وربع دارس ومدروس. فأنت ترى أنها تشير إلى معنى الرياضة والتذليل والتعبيد بجميع معانيها، وهذا من الدقة بمكان.
{صَدَفَ}: أعرض، ويستعمل لازما في الأكثر، وقد استعمل هنا لازما. وفي القاموس: صدف عنه: أعرض، وبابه ضرب أو جلس، وصدف فلانا: صرفه كأصدفة، ومن هنا يتبين الخطأ في استعمال صدفة بمعنى المصادفة.

.الإعراب:

{ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَمامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} الأصل في ثم أن تكون للترتيب مع المهلة والتراخي في الزمان، ومن ثم توقف المفسرون والنحاة في حقيقة العطف بها هنا، ولم أجد فيما قالوه مقنعا، وسأنقل ما قالوه أولا ثم أشير إلى ما هو أولى بالأرجحية. فقال بعضهم: إن ثمّ تأتي للترتيب في الإخبار، كأن هذا القائل أراد تفادي سبق موسى عليه السلام في الزمان. وزعم الأخفش: أن ثم قد تتخلف عن التراخي، بدليل قولك: أعجبني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت أمس أعجب. لأن ثم في ذلك لترتيب الإخبار ولا تراخي بين الإخبارين. وجعل ابن مالك من ذلك قوله تعالى: {ثم آتينا موسى الكتاب} وقال في المغني: والظاهر أن ثمّ واقعة موقع الفاء وقد نصّ النحاة على أن ثم توضع موضع الفاء كقول أبي دواد جارية بن الحجاج:
كهزّ الرّدينيّ تحت العجاج ** جرى في الأنابيب ثم اضطرب

وقال الزّجّاج: هو معطوف على {أتل}، تقديره. أتل ما حرّم ثم أتل ما آتينا.
وقال الزمخشري: فإن قلت: علام عطف قوله: {ثم آتينا موسى الكتاب}؟ قلت: على {وصّاكم به}. فإن قلت: كيف صحّ عطفه عليه ب {ثم} والإيتاء قبل التوصية بزمن طويل؟ قلت: هذه التوصية قديمة، ولم تزل توصاها كل أمة على لسان نبيهم، فكأنه قيل:
ذلكم وصّيناكم به يا بني آدم قديما وحديثا، ثم أعظم من ذلك أنّا آتينا موسى الكتاب. ولعل هذا أقرب ما يقال فيه. وآتينا موسى الكتاب فعل وفاعل ومفعولاه، وتماما مفعول لأجله، أي: لأجل تمام النعمة والكرامة، ويجوز أن يكون مصدرا نصب على المفعولية المطلقة، لأنه بمعنى آتيناه إيتاء تمام لا نقصان، أو مصدرا نصب على الحالية من فاعل آتينا، أي: متممين، أو من الكتاب، أي: حال كونه تماما.
وعلى الذي جار ومجرور متعلقان ب {تماما}، أي: على من أحسن القيام به، وجملة أحسن صلة لا محل لها، وتفصيلا عطف على تماما، ولكل شيء جار ومجرور متعلقان ب {تفصيلا} {وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} هدى ورحمة معطوفان على تماما وتفصيلا، ولعل واسمها، وجملة الرجاء حالية، وبلقاء ربهم جار ومجرور متعلقان بيؤمنون، وجملة يؤمنون خبر لعل {وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} الواو استئنافية، والجملة مستأنفة مسوقة لتعظيم شأن القرآن، وهذا مبتدأ، وكتاب خبره، وجملة أنزلناه صفة أولى، ومبارك صفة ثانية، فاتبعوه الفاء الفصيحة، أي: إذا أردتم أن تنتفعوا ببركته، فهي لترتيب ما بعدها على ما قبلها، واتبعوه فعل وفاعل ومفعول به، والجملة لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم، واتقوا عطف على فاتبعوه، وجملة الرجاء حالية {أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا} أن وما في حيزها في تأويل مصدر مفعول لأجله، على حذف مضاف، أي: كراهية أن تقولوا، وإنما كافة ومكفوفة، وأنزل فعل ماض مبني للمجهول، والكتاب نائب فاعل، وعلى طائفتين جار ومجرور متعلقان بأنزل، والمراد بهما اليهود والنصارى، والجملة في محل نصب مقول القول، ومن قبلنا جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لطائفتين {وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ} الواو حالية، وإن مخففة من الثقيلة، وهي مهملة، وقد تقدم بحثها، وكان واسمها، وعن يحة، لأنها جواب محذوف معلل به، أي: لا تعتذروا فقد فاتتكم أسباب العذر.
فقد جاءكم: قد حرف تحقيق، وجاءكم فعل ومفعول به مقدم وبينة فاعل، ويجوز أن يكون المحذوف شرطا، أي: إذا صدقتم فيما تمنون به أنفسكم من وعود مزيفة وأحلام طائشة، ومن ربكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لبينة أو بجاءكم، وهدى ورحمة معطوفان على بينة، وكلا الوجهين جميل سائغ {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها} الفاء عاطفة لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فإن نزول القرآن- مشتملا على جميع عوامل الهدى والرحمة- يقتضي أن يكون من يكذب به ويشيح بوجهه عنه أظلم الناس. ومن استفهامية متضمنة معنى النفي، أي: لا أحد، وهي في محل رفع مبتدأ، وأظلم خبر، وممن جار ومجرور متعلقان بأظلم، وجملة كذب صلة الموصول، وبآيات اللّه جار ومجرور متعلقان بكذّب، وصدف عنها عطف على كذب {سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ} الجملة مستأنفة مسوقة لتقرير الجزاء المترتب على هذا الموقف المتعنت، ونجزي فعل مضارع، وفاعله مستتر، والذين مفعوله، وجملة يصدفون صلة الموصول، وسوء العذاب منصوب على أنه مفعول به ثان لنجزي، أو منصوب بنزع الخافض، وإضافة السوء إلى العذاب من إضافة الصفة للموصوف، أي: العذاب السيّء {بِما كانُوا يَصْدِفُونَ} الباء حرف جر، وما مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر مجرور بالباء، والجار والمجرور متعلقان بنجزي، وكان واسمها، وجملة يصدفون خبرها، أي: بسبب صدوفهم وإعراضهم.