فصل: الجزء الثاني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



تأملات في سورة الأنعام:
للشيخ صالح المغامسي

.الجزء الثاني:

الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين وإله الآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله آخر الأنبياء في الدنيا عصرا وأرفعهم وأجلهم يوم القيامة شأنا وذكرا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الآيات التي سنقف عندها اليوم قول الله عز وجل: {وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين} [75] سورة الأنعام، إلى ما بعدها من آيات ثم ننتقل إلى قول الله عز وجل: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله...} [93] سورة الأنعام.
ثم نقول مستعينين بالله عز وجل:
إنه لما كانت السورة تتكلم عن العقيدة تتكلم عن عقيدة التوحيد التي بها بعث الله الرسل ومن أجلها أنزل الكتب ذكر الله جل وعلا في هذه السورة إمام الموحدين خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
فإبراهيم عليه الصلاة والسلام أبو الأنبياء وشيخ الحنفاء ونسب الله جل وعلا الملة إليه في كتابه قال الله تبارك وتعالى: {ملة أبيكم إبراهيم}. وهذا النبي الكريم مر معنا كثيرا الثناء والمدح عليه من الله جل وعلا، وهو أهل لكل مدح فهو أرفع الأنبياء قدرا بعد نبينا صلى الله عليه وسلم. ومع اتفاق المسلمين على أن إبراهيم بعد نبينا عليه الصلاة والسلام وعلى أن نبينا صلى الله عليه وسلم أرفع العباد قدرا إلا أنه ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما دخل مكة عام الفتح أمر أن يخرج ما في الكعبة من صور حتى يستطيع دخولها فكان مما أخرج صورة فيها صورة إبراهيم وهو يستقسم بالأزلام جعلها المشركون له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قاتلهم الله» يقصد كفار قريش «قاتلهم الله والله لقد علموا ما استقسم شيخنا بها قط». موضع الشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى إبراهيم شيخه، ولم يسم النبي صلى الله عليه وسلم أحدا من الأنبياء بأنه شيخه إلا إبراهيم.
وهذه يجب أن تحفظ وتحرر فهي من فرائد العلم الذي يستبينه طالب العلم لنفسه:
أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى هذا النبي الصالح سماه شيخه مع الاتفاق على أن النبي عليه الصلاة والسلام أفضل من إبراهيم. وفي ليلة المعراج لما عرج به صلى الله عليه وسلم قابله إخوانه من النبيين فلما مر على إبراهيم قال إبراهيم لنبينا: «السلام عليك أيها النبي الصالح والابن الصالح» لأن الله جل وعلا جعل كل نبي بعد إبراهيم من ذرية إبراهيم، قال العلماء ما أنزل كتاب بعد إبراهيم من السماء على نبي من الأنبياء وإلا ذلك النبي من ذرية إبراهيم وسيأتي هذا إن شاء الله تعالى.
المقصود: هذا جملة ما يمكن أن يقال عن إمام الحنفاء أبينا إبراهيم عليه السلام، الله جل وعلا هنا يخبر أن إبراهيم كان يدعو الناس جميعا من أهل عصره الذين بعث فيهم وفي مقدمتهم أبوه وهو هنا يدعو أباه قال الله جل وعلا: {وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر} أهل التاريخ يقولون إن اسم أبي إبراهيم تارح وليس آزر وحجتهم في هذا اتفاق كثير من النسابة على أن والد إبراهيم اسمه تارح وعلى أنه هذا المذكور في التوراة.
لكنه في مثل يقول: «إذا جاء سيل الله بطل سيل معقل»، وقلنا ونحن نؤصل في الدروس السابقة أن الإنسان يستمسك بأصل ثم إذا جاءت شبهات وعوارض على هذا الأصل يبقي على الأصل ويترك العوارض، فلو أجمعوا أهل النسب على أن اسم والد إبراهيم اسمه تارح هذا مردود لأن الآية لا تحتمل أكثر من النص الصريح الله يقول: {وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة} فالله أسماه آزر فلا معدل عما سماه الله جل وعلا به.
قالوا هذا عمه، قالوا هذا لقب لأبيه، قالوا عدة أمور يخرجون بها المقصود فنبقى على المقصود الذي هو أصل لأنه لا يوجد ما يعارضه ويقاومه.
{وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة}.
(اتخذ) فعل يتعدى إلى مفعولين:
مفعوله الأول هنا أصنام ومفعوله الثاني آلهة، {أتتخذ أصناما آلهة}.
ويمكن أن تقول معنى الآية: تتخذ آلهة أصناما وكلا المعنى صحيح، لكن القرآن نزل: {أتتخذ أصناما آلهة}.
فهذا إبراهيم عليه السلام يعيب على أبيه أن يعبد الأصنام ويترك عبادة الله الواحد القهار {أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين} وهذا الخطاب الذي قاله إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأبيه جاء مبينا في سور عدة في آيات أخر بين الله جل وعلا فيها الأسلوب الدعوي الذي كان يخاطب به إبراهيم أباه، {قال سلام عليك} كما جاء في سورة مريم، كلها دلالة على أن الإنسان يجب أن يعلم وهذا ما تبينه الآيات التي تليها أننا نحن المسلمون ندعو إلى شيء واحد هو توحيد الله ودين الإسلام فلا يختلف ما ندعو إليه لكن ما الذي يختلف؟ طرائق الدعوة، فالإنسان يدعو ويتغير أسلوبه بحسب حال المدعو، أما ما تدعو إليه هذا شيء ثابت لا يتغير نحن ندعو إلى الله إلى ما أمر الله به وما أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، هذه دعوة الأنبياء ونحن مجرد متبعون، والأنبياء تنوعت طرائق الدعوة وتتنوع طرائق الدعوة من لديهم. فخطاب إبراهيم لأبيه ليس كخطابه لقومه كما سيأتي.
ثم قال الله جل وعلا: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين} [75] سورة الأنعام.
فضل الله جل وعلا على هذا العبد الصالح لا يعد ولا يحصى ومنه أن الله أراه ملكوت السماوات والأرض، وملكوت هذه التاء زائدة للمبالغة.
التاء في {ملكوت} زائدة للمبالغة والمعنى:
أن هناك ملك وهناك ملكوت فالملك ما تشاهده بعينك والملكوت ما وراء ما تشاهده بعينيك.
فالله جل وعلا من على إبراهيم بأن أراه ملكوت السماوات والأرض قد يكون رؤيا بصرية تؤدي إلى يقين قلبي، وقد تكون مجرد يقين قلبي في صدر إبراهيم، والمقصود أن الإنسان ينظر إلى ما حوله.
والناظرون إلى ما حولهم ينقسمون إلى قسمين:
قوم ينظرون نظر إبصار وقوم ينظرون نظر اعتبار.
بالطبع نظر الاعتبار خير من نظر الإبصار لأن الإبصار يشترك فيه كل من يبصر ولكن نظر الاعتبار يختلف عن نظر الإبصار، ثم ليس كل من نظر نظر اعتبار يوفق إلى المقصود.
حتى الذين ينظرون نظر اعتبار ينقسمون إلى قسمين:
مهتدون وغير مهتدين، فمثلا يوجد من النصارى من القسيسين والذين يتأملون في السماوات يتأملون في الأرض يتأملون في الناس ويكتبون ويدونون من ينظرون نظر اعتبار لكنهم لم يحصلوا على المقصود فهؤلاء وإن نظروا نظر اعتبار إلا إنه لم يحصلوا على المقصود.
فالهداية من الله، ونظر الاعتبار لا يتعدى كونه وسيلة من وسائل الحصول على الهداية، وإلا الهداية يا أخي من الله، فمن رام شيئا يطلبه من ربه. الله جل وعلا رب كل شيء كما سيأتي.
الله جل وعلا يقول: {أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض} [185] سورة الأعراف، هنا يقول الله تعالى: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين} واليقين درجة عالية من أحوال المؤمنين، ولا شك أن إبراهيم عليه السلام من أعظم الموقنين.
هذه {وليكون من الموقنين} تبقى أصل وإلا فرع؟ الأصل، لأن الله قالها نصا: {وليكون من الموقنين} سيأتي الحديث عنها الآن.
ثم قال الله جل وعلا بعدها: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون} [76- 78] سورة الأنعام.
قبل أن نشرع في التفسير نقول:
لا يمكن أبدا أن يصدق قول من قال من المفسرين أن إبراهيم قال هذا على الحقيقة، أن إبراهيم قال هذا على الحقيقة وأن هذا قاله في طفولته، هذا أمر لا يمكن أن يعقل لماذا؟ لأن الله سمى إبراهيم في كتابه أنه إمام للحنفاء وقال عنه أنه من الموقنين وأن القرآن والسنة تواترت على أن هذا العبد الصالح من أعظم من أيقن بالله، فكيف ينسب له الشرك في مرحلة من مراحل عمره لا يعقل! لكن القضية أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام قال هذا كله في موضع المناظرة والمحاجة مع قومه.
{فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي} كان كوكب الزهرة لم يقصد أن يقول أنه ربه يقينا يستحيل أن يطبق هذا على إبراهيم عليه السلام.
وقلنا من القواعد:
تأخذ أصلا ثم ما جاء من شبهات وعوارض تفندها بثباتك على الأصل فالتفنيد يكون بأننا نقول إن إبراهيم عليه السلام قال هذا في موضع المناظرة والمحاجة إلى قومه، وقد قلنا إن طرائق الدعوة تختلف مع الناس فكان ثلة من قومه لا يعبدون الأصنام يعبدون الكواكب يعبدون المشتري والشمس والقمر وفريق يعبدون الأصنام تعامل مع كل فريق بطريقة معينة أهل الأصنام ذهب إلى الأصنام وهدمها، أما أهل الكواكب ليس له سبيل على الكواكب حتى يهدمها فتعامل معهم بعقلياتهم قال الله جل وعلا: {فلما جن عليه الليل} جن بمعنى غشاه ولذلك سميت الجنة جنة وسمي الطفل في بطن أمه جنينا وسميت الجن جن لأنها لا ترى بالأعين، كل ما غاب واستتر وتغطى يدخل في مادة جن.
هنا الله يقول: {فلما جن عليه الليل رأى كوكبا} والكواكب لا ترى في النهار فلما رأى كوكبا قال لمن حوله بأسلوب يبين له أنه يريد أن يصل معهم إلى الحق: {قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين} وبالطبع إبراهيم رأى الكواكب مائة مرة قبل هذا اليوم كل يوم يرى الكواكب تأفل ويرى القمر يأفل ويرى الشمس تأفل لكن هو الآن يتعامل مع ناس هذه عقلياتهم.
{فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي}، يقال إنه الزهرة الذي يعنينا أنه كوكب، {فلما أفل قال لا أحب الآفلين} يعني يقول لهم لا يصلح أن يكون رب يسير ويؤمر ويحرك من مكان إلى مكان.
{فلما رأى القمر بازغا} طبعا في اليوم التالي {قال هذا ربي فلما أفل} هم ينظرون كيف ردة فعل إبراهيم هو يريد أن يشعرهم أنه واحد منهم يبحث عن الحق حتى يشعروا أنه غير متسلط عليهم {قال هذا ربي فلما أفل} ما قال لا أحب الآفلين لأن هذه مرت جاب شيء جديد قال: {لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين} حتى يبين لهم أنه متعطش أعظم العطش والظمأ إلى الهداية.
{لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين} جاء اليوم الثالث مع الصبح ظهرت الشمس {فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر} حتى يهيئهم للجواب {فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون} ولم يقل ابرؤوا مما تشركون قال: {إني بريء مما تشركون}.
ولم يقل ابرؤوا مما تشركون والسبب:
أن الإنسان لا يقبل الناس منه شيء في الغالب حتى يطبقه على نفسه فالناس يأخذون علم من يرونه يأخذ بالعلم على نفسه وإن كان هذا ليس فيه حجة للناس، لكن الناس إنما يتبعون في الغالب من يرون أنه يطبق ما يدعوهم إليه كما قال شعيب عليه السلام: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} [88] سورة هود، وقال غيره ذلك متكرر في القرآن، فالمقصود انه قال: {إني بريء مما تشركون} فالآن برئ مما يشرك به قومه وهم الأصنام.
أصبح الناس ينتظرون منه، إذن أنت تبرأت مما نشرك ستعبد من؟
قال: {إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين} [79] سورة الأنعام، {وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض} لم يقل عليه السلام وجهت وجهي لمن خلق الشمس والقمر والنجوم التي كان يحاج بها وإنما شمل كل المخلوقات أدرجها لأن الله رب المخلوقات جميعا قال: {إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين} فهو عليه السلام كما قلنا إمام الحنفاء وشيخ الأنبياء وإليه تنسب الملة.
تنسب إليه الملة وكان شيخ الحنفاء لأربعة أمور:
أولها: أنه جعل ماله للضيفان.
الثاني: أنه جعل بدنه للنيران.
الثالث: أنه جعل ولده للقربان.
الرابع: أنه جعل قلبه للرحمن.
والثلاثة الأولى مندرجة في الأخير.
نقول ثم قال: {وما أنا من المشركين} مع هذا كله لم يقتنع قومه. قال الله جل وعلا: {وحآجه قومه} أخذوا يحاجونه فيما يقول: {وحآجه قومه} فرد عليهم {قال أتحاجوني في الله وقد هدان} أي كيف يعقل أن أقبل أقوالكم الباطلة وآراءكم الفاسدة والله جل وعلا قد من علي بالهداية. وأصلا العاقل لا يترك الحق من أجل الباطل ولا يترك الشيء البين الواضح من أجل الشيء المختلط الفاسد هذا لا يفعله صغار العقلاء فما بالك بشيخ الأنبياء عليه السلام؟
قال الله جل وعلا: {وحآجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون} [80] سورة الأنعام، وهذه {أفلا تتذكرون} لوحدها تدل على بلاغة القرآن.