فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

جملة {الحمد لله} تفيد استحقاق الله تعالى الحمد وحده دون غيره لأنّها تدلّ على الحصر.
واللام لتعريف الجنس، فدلّت على انحصار استحقاق هذا الجنس لله تعالى.
وقد تقدّم بيان ذلك مستوفى في أول سورة الفاتحة.
ثم إنّ جملة {الحمد لله} هنا خبر لفظًا ومعنىً إذ ليس هنا ما يصرف إلى قصد إنشاء الحمد بخلاف ما في سورة الفاتحة لأنّه عقّب بقوله: {إيّاك نعبد} [الفاتحة: 5] إلى آخر السورة، فمن جوّز في هذه أن تكون إنشاء معنى لم يُجد التأمّل.
فالمعنى هنا أنّ الحمد كُلّه لا يستحقّه إلاّ الله، وهذا قصر إضافي للردّ على المشركين الذين حمدوا الأصنام على ما تخيّلوه من إسدائها إليهم نعمًا ونصرًا وتفريج كربات، فقد قال أبو سفيان حين انتصر هو وفريقه يوم أحُد: أعلُ هُبل لنا العُزّى ولا عُزّى لكم.
ويجوز أن يكون قصرًا حقيقيًا على معنى الكمال وأنّ حمد غيره تعالى من المنعمين تسامح لأنّه في الحقيقة واسطة صورية لجريان نعمة الله على يديه، والمقصود هو هو، وهو الردّ على المشركين، لأنّ الأصنام لا تستحقّ الحمد الصوري بله الحقيقي كما قال إبراهيم عليه السلام {لمَ نعْبُدُ ما لا يسمع ولا يُبْصر ولا يُغْني عنك شيئًا}.
ولذلك عقّبت جملة الحمد على عظيم خلق الله تعالى بجملة {ثم الذين كفروا بربّهم يعدلون}.
والموصول، في محلّ الصفة لاسم الجلالة، أفاد مع صلته التذكير بعظيم صفة الخلق الذي عمّ السماوات والأرض وما فيهنّ من الجواهر والأعراض.
وذلك أوجز لفظ في استحضار عظمة قدرة الله تعالى.
وليس في التعريف بالموصولية هنا إيذان بتعليل الجملة التي ذكرت قبله، إذ ليست الجملة إنشائية كما علمت.
والجملة الخبرية لا تعلّل، لأنّ الخبر حكاية ما في الواقع فلا حاجة لتعليله.
فالمقصود من الأوصاف التمهيد لقوله بعدُ {ثم الذين كفروا بربّهم يعدلون}. اهـ.

.قال الفخر:

إنما قال: {الحمد للَّهِ} ولم يقل: أحمد الله، لوجوه: أحدها: أن الحمد صفة القلب وربما احتاج الإنسان إلى أن يذكر هذه اللفظة حال كونه غافلًا بقلبه عن استحضار معنى الحمد والثناء، فلو قال في ذلك الوقت أحمد الله، كان كاذبًا واستحق عليه الذم والعقاب، حيث أخبر عن دعوى شيء مع أنه ما كان موجودًا.
أما إذا قال: الحمد لله، فمعناه: أن ماهية الحمد وحقيقته مسلمة لله تعالى.
وهذا الكلام حق وصدق سواء كان معنى الحمد والثناء حاضرًا في قلبه أو لم يكن، وكان تكلمه بهذا الكلام عبادة شريفة وطاعة رفيعة فظهر الفرق بين هذين اللفظين.
وثانيها: روي أنه تعالى أوحى إلى داود عليه السلام يأمره بالشكر، فقال داود: يا رب وكيف أشكرك؟ وشكري لك لا يحصل إلا أن توفقني لشكرك وذلك التوفيق نعمة زائدة وإنها توجب الشكر لي أيضًا وذلك يجر إلى ما لا نهاية له ولا طاقة لي بفعل ما لا نهاية له.
فأوحى الله تعالى إلى داود: لما عرفت عجزك عن شكري فقد شكرتني.
إذا عرفت هذا فنقول: لو قال العبد أحمد الله كان دعوى أنه أتى بالحمد والشكر فيتوجه عليه ذلك السؤال.
إنما لو قال: الحمد لله فليس فيه ادعاء أن العبد أتى بالحمد والثناء، بل ليس فيه إلا أنه سبحانه مستحق للحمد والثناء سواء قدر على الإتيان بذلك الحمد أو لم يقدر عليه فظهر التفاوت بين هذين اللفظين من هذا الوجه، وثالثها: أنه لو قال أحمد الله كان ذلك مشعرًا بأنه ذكر حمد نفسه ولم يذكر حمد غيره.
أما إذا قال: الحمد لله، فقد دخل فيه حمده وحمد غيره من أول خلق العالم إلى آخر استقرار المكلفين في درجات الجنان ودركات النيران، كما قال تعالى: {وآخردعواهم فِيهَا سبحانك اللهم وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} [يونس: 10] فكان هذا الكلام أفضل وأكمل. اهـ.
قال الفخر:
اعلم أن هذه الكلمة مذكورة في أول سور خمسة.
أولها: الفاتحة، فقال: {الحمد للَّهِ رَبّ العالمين} [الفاتحة: 2] وثانيها: في تأويل هذه السورة، فقال: {الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السموات والارض} [الأنعام: 1] والأول أعم لأن العالم عبارة عن كل موجود سوى الله تعالى، فقوله: {الحمد لله ربّ العالمين} يدخل فيه كل موجود سوى الله تعالى.
أما قوله الحمد لله ربّ العالمين يدخل فيه كل موجود سوى الله تعالى.
أما قوله: {الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السموات والأرض} لا يدخل فيه إلا خلق السموات والأرض والظلمات والنور، ولا يدخل فيه سائر الكائنات والمبدعات، فكان التحميد المذكور في أول هذه السورة كأنه قسم من الأقسام الداخلة تحت التحميد المذكور في سورة الفاتحة.
وتفصيل لتلك الجملة.
وثالثها: سورة الكهف، فقال: {الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب} [الكهف: 1] وذلك أيضًا تحميد مخصوص بنوع خاص من النعمة وهو نعمة العلم والمعرفة والهداية والقرآن، وبالجملة النعم الحاصلة بواسطة بعثة الرسل، ورابعها: سورة سبأ وهي قوله: {الحمد للَّهِ الذي لَهُ مَا في السموات وَمَا فِي الارض} [سبأ: 1] وهو أيضًا قسم من الأقسام الداخلة تحت قوله: {الحمد للَّهِ رَبّ العالمين} وخامسها: سورة فاطر، فقال: {الحمد للَّهِ فَاطِرِ السموات والأرض} [فاطر: 1] وظاهر أيضًا أنه قسم من الأقسام الداخلة تحت قوله: {الحمد للَّهِ رَبّ العالمين} فظهر أن الكلام الكلي التام هو التحميد المذكور في أول الفاتحة وهو قوله: {الحمد للَّهِ رَبّ العالمين} وذلك لأن كل موجود فهو إما واجب الوجود لذاته، وإما ممكن الوجود لذاته.
وواجب الوجود لذاته واحد وهو الله سبحانه وتعالى وما سواه ممكن وكل ممكن فلا يمكن دخوله في الوجود إلا بإيجاد الله تعالى وتكوينه والوجود نعمة فالإيجاد إنعام وتربية، فلهذا السبب قال: {الحمد للَّهِ رَبّ العالمين} وأنه تعالى المربي لكل ما سواه والمحسن إلى كل ما سواه.
فذلك الكلام هو الكلام الكلي الوافي بالمقصود.
أما التحميدات المذكورة في أوائل هذه السور فكان كل واحد منها قسم من أقسام ذلك التحميد ونوع من أنواعه.
فإن قيل: ما الفرق بين الخالق وبين الفاطر والرب؟ وأيضًا لم قال هاهنا {خَلَقَ السموات والأرض} بصيغة فعل الماضي؟ وقال في سورة فاطر {الحمد للَّهِ فَاطِرِ السموات والأرض} بصيغة اسم الفاعل.
فنقول في الجواب عن الأول: الخلق عبارة عن التقدير وهو في حق الحق سبحانه عبارة عن علمه النافذ في جميع الكليات والجزئيات الواصل إلى جميع ذوات الكائنات والممكنات وأما كونه فاطرًا فهو عبارة عن الإيجاد والإبداع، فكونه تعالى خالقًا إشارة إلى صفة العلم، وكونه فاطرًا إشارة إلى صفة القدرة، وكونه تعالى ربًا ومربيًا مشتمل على الأمرين، فكان ذلك أكمل.
والجواب عن الثاني: أن الخلق عبارة عن التقدير وهو في حق الله تعالى عبارة عن علمه بالمعلومات، والعلم بالشيء صح تقدمه على وجود المعلوم.
ألا ترى أنه يمكننا أن نعلم الشيء قبل دخوله في الوجود.
أما إيجاد الشيء، فإنه لا يحصل إلا حال وجود الأثر بناء على مذهبنا أن القدرة إنما تؤثر في وجود المقدور حال وجود المقدور.
فلهذا السبب قال: {خَلَقَ السموات} والمراد أنه كان عالمًا بها قبل وجودها، وقال: {فَاطِرَ السموات والأرض} والمراد أنه تعالى إنما يكون فاطرًا لها وموجدًا لها عند وجودها.
قال الفخر:
في قوله: {الحمد للَّهِ} قولان:
الأول: المراد منه احمدوا الله تعالى، وإنما جاء على صيغة الخبر لفوائد: إحداها: أن قوله: {الحمد للَّهِ} يفيد تعليم اللفظ والمعنى، ولو قال: احمدوا لم يحصل مجموع هاتين الفائدتين.
وثانيها: أنه يفيد أنه تعالى مستحق الحمد سواء حمده حامد أو لم يحمده.
وثالثها: أن المقصود منه ذكر الحجة فذكره بصيغة الخبر أولى.
والقول الثاني: وهو قول أكثر المفسرين معناه قولوا الحمد لله.
قالوا: والدليل على أن المراد منه تعليم العباد أنه تعالى قال في أثناء السورة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وهذا الكلام لا يليق ذكره إلا بالعباد.
والمقصود أنه سبحانه لما أمر بالحمد وقد تقرر في العقول أن الحمد لا يحسن إلا على الإنعام، فحينئذ يصير هذا الأمر حاملًا للمكلف على أن يتفكر في أقسام نعم الله تعالى عليه.
ثم إن تلك النعم يستدل بذكرها على مقصودين شريفين: أحدهما: أن هذه النعم قد حدثت بعد أن كانت معدومة فلابد لها من محدث ومحصل وليس ذلك هو العبد لأن كل أحد يريد تحصيل جميع أنواع النعم لنفسه، فلو كان حصول النعم للعبد بواسطة قدرة العبد واختياره، لوجب أن يكون كل واحد واصلأً إلى جميع أقسام النعم إذ لا أحد إلا وهو يريد تحصيل كل النعم لنفسه، ولما ثبت أنه لابد لحدوث هذه النعم من محدث وثبت أن ذلك المحدث ليس هو العبد، فوجب الاقرار بمحدث قاهر قادر، وهو الله سبحانه وتعالى.
والنوع الثاني: من مقاصد هذه الكلمة أن القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها فإذا أمر الله تعالى العبد بالتحميد، وكان الأمر بالتحميد مما يحمله على تذكر أنواع نعم الله تعالى، صار ذلك التكليف حاملًا للعبد على تذكر أنواع نعم الله عليه، ولما كانت تلك النعم كثيرة خارجة عن الحد والاحصاء، صار تذكر تلك النعم موجبة رسوخ حب الله تعالى في قلب العبد.
فثبت أن تذكيرالنعم يفيد هاتين الفائدتين الشريفتين.
إحداهما: الاستدلال بحدوثها عن الاقرار بوجود الله تعالى.
وثانيهما: أن الشعور بكونها نعمًا يوجب ظهور حب الله في القلب، ولا مقصود من جميع العبادات إلا هذان الأمران.
فلهذا السبب وقع الابتداء في هذا الكتاب الكريم بهذه الكلمة، فقال: {الحمد للَّهِ رَبّ العالمين}.
واعلم أن هذه الكلمة بحر لا ساحل له، لأن العالم اسم لكل ما سوى الله تعالى، وما سوى الله إما جسم أو حال فيه أو لا جسم ولا حال فيه، وهو الأرواح.
ثم الأجسام إما فلكية، وإما عنصرية.
أما الفلكيات فأولها العرش المجيد، ثم الكرسي الرفيع.
ويجب على العاقل أن يعرف أن العرش ما هو، وأن الكرسي ما هو، وأن يعرف صفاتهما وأحوالهما، ثم يتأمل أن اللوح المحفوظ، والقلم والرفرف، والبيت المعمور، وسدرة المنتهى ما هي، وأن يعرف حقائقها، ثم يتفكر في طبقات السموات وكيفية اتساعها وأجرامها وأبعادها، ثم يتأمل في الكواكب الثابتة والسيارة، ثم يتأمل في عالم العناصر الأربعة والمواليد الثلاثة وهي المعادن والنبات والحيوان، ثم يتأمل في كيفية حكمة الله تعالى في خلقه الأشياء الحقيرة والضعيفة كالبق والبعوض، ثم ينتقل منها إلى معرفة أجناس الأعراض وأنواعها القريبة والبعيدة، وكيفية المنافع الحاصلة من كل نوع من أنواعها، ثم ينتقل منها إلى تعرف مراتب الأرواح السفلية والعلوية والعرشية والفلكية، ومراتب الأرواح المقدسة عن علائق الأجسام المشار إليها بقوله: {وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأنبياء: 19] فإذا استحضر مجموع هذه الأشياء بقدر القدرة والطاقة، فقد حضر في عقله ذرة من معرفة العالم، وهو كل ما سوى الله تعالى.
ثم عند هذا يعرف أن كل ما حصل لها من الوجود وكمالات الوجود في ذواتها من صفاتها وأحوالها وعلائقها، فمن إيجاد الحق ومن جوده ووجوده، فعند هذا يعرف من معنى قوله: {الحمد للَّهِ رَبّ العالمين} ذرة، وهذا بحر لا ساحل له، وكلام لا آخر له والله أعلم. اهـ.
قال الفخر:
إنا وإن ذكرنا أن قوله: {الحمد للَّهِ رَبّ العالمين} أُجري مجرى قوله قولوا: الحمد لله ربّ العالمين فإنما ذكرناه لأن قوله في أثناء السورة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} لا يليق إلا بالعبد فلهذا السبب افتقرنا هناك إلى هذا الإضمار.
أما هذه السورة وهي قوله: {الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السموات والأرض} فلا يبعد أن يكون المراد منه ثناء الله تعالى به على نفسه.
وإذا ثبت هذا فنقول: إن هذا يدل من بعض الوجوه، على أنه تعالى منزّه عن الشبيه في اللذات والصفات والأفعال وذلك لأن قوله: {الحمد للَّهِ} جار مجرى مدح النفس وذلك قبيح في الشاهد، فلما أمرنا بذلك دلّ هذا على أنه لا يمكن قياس الحق على الخلق، فكما أن هذا قبيح من الخلق مع أنه لا يقبح من الحق، فكذلك ليس كل ما يقبح من الخلق وجب أن يقبح من الحق.
وبهذا الطريق وجب أن يبطل كلمات المعتزلة في أن ما قبح منا وجب أن يقبح من الله.
إذا عرفت بهذا الطريق أن أفعاله لا تشبه أفعال الخلق، فكذلك صفاته لا تشبه صفات الخلق، وذاته لا تشبه ذوات الخلق، وعند هذا يحصل التنزيه المطلق والتقديس الكامل عن كونه تعالى مشابهًا لغيره في الذات والصفات والأفعال، فهو الله سبحانه واحد في ذاته، لا شريك له في صفاته، ولا نظير له واحد في أفعاله لا شبيه له تعالى وتقدس والله أعلم. اهـ.