فصل: تحريم الميسر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تحريم الميسر:

قد ذكر اللّه الميسر مع الخمر هنا، كما ذكره معها في آية المائدة [90]، فما قلناه في دلالة الآية على تحريم الخمر يقال أيضا في الميسر.
وقد ذكرنا أصل الميسر واشتقاقه، وأنه كان يطلق على ضرب القداح على أجزاء الجزور قمارا، ثم أطلق على النرد وكل ما فيه قمار. ونريد هنا أن نبيّن صفة الميسر عند العرب باختصار.
قد كانت للقداح التي يضربونها على الجزور عشرة، ذوات الحظوظ منها سبعة:
أسماؤها: الفذّ، التّوأم، الرّقيب، الحلس، النافس، المسبل، المعلّى.
والأغفال التي لا حظّ لها ثلاثة، وأسماؤها: السّفيح، المنيح، الوغد.
وكانت القداح ذوات الحظوظ مختلفة الحظوظ، فكان للفذ منها نصيب، وللتوأم نصيبان، وهكذا إلى السابع المعلّى، فله سبعة أنصباء وكانت على كل قدح منها علامة تدلّ عليه وعلى حظه، فعلى الفذّ فرض، وعلى التوأم فرضان، وهكذا.
والفرض: الحز.
وكان الأيسار سبعة على عدد القداح، لكلّ واحد قدح، وكانوا يضعون القداح في خريطة، ويجلجلونها فيها حتى تختلط، ثم يخرج واحد من فم الخريطة، فإن كان الذي خرج الفذّ فلصاحبه نصيب واحد يأخذه، ويعتزل القوم. ثم يجيل ثانية، حتّى منتهى أقسام الجزور. فالفائزون هم من خرجت قداحهم. والغارمون من لم تخرج قداحهم، وهم يغرّمون ثمن البعير على حسب نصيب القداح، وقد حرم اللّه ذلك.
وحرّم النرد وسائر أنواع القمار لما فيها من أكل أموال الناس بالباطل، ومن جلب العداوة والبغضاء، ومن تعويد المقامرين على الكسل. وانتظار الربح من القمار دون كدّ وعمل، ولأنّ المقامرين في قمارهم ليسوا ينتجون للأمة شيئا، فليس ربح الفائز منهم في مقابلة إخراج الموادّ الأولية، ولا صنعها، ولا نقلها، ولا توزيعها، ولا تأدية عمل من الأعمال التي تحتاج إليها الأمة وتستفيد منها، فهم حيوانات طفيلية تستفيد من دم المجموع ولا تفيده.
ولسنا ندري: أكان العرب في زمن التنزيل لا يطلقون اسم الميسر إلا على ما ذكرناه من ضرب القداح على أجزاء الجزور؟ فتكون الآية في ذلك فقط، ويكون تحريم ضروب القمار بالقياس. أم كان اسم الميسر يطلق على ذلك وعلى سائر ضروب القمار؟ فيكون تحريم ضروب القمار بالآيات التي حرّمت الميسر، وأيا ما كان فقد اتفق العلماء على تحريم ضروب القمار.
وقد روي عن أبي موسى عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «اجتنبوا هذه الكعاب الموسومة التي يزجر بها زجرا، فإنّها من الميسر».
وروي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «من لعب بالنّرد فقد عصى اللّه ورسوله».
وذكر العلماء أنّ المخاطرة من القمار، قال ابن عباس: المخاطرة قمار، وأنّ أهل الجاهلية كانوا يخاطرون على المال والزوجة، وقد كان ذلك مباحا، إلى أن ورد تحريمه، وقد خاطر أبو بكر المشركين حين نزلت {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2)} [الروم: 1، 2] وقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: «زد في الخطر وأبعد في الأجل».
ثم حظر ذلك، ونسخ بتحريم القمار.
وقد رخّص في السبق في الدواب والنصال بشروط تطلب من كتب الفروع.
{وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ}.
الْعَفْوَ في كلام العرب: الزيادة. ومن ذلك قوله تعالى: {حَتَّى عَفَوْا} [الأعراف: 95] زادوا، ومنه قول الشاعر:
ولكنّا نعضّ السيف منّا ** بأسوق عافيات الشحم كوم

أي كثيرات الشحوم، والمراد بالعفو هنا: الفضل، أي ما فضل وزاد عن الحاجة، كقولهم: خذ ما عفا لك من أخيك، أي ما فضل عن جهده. قال ابن عباس: العفو: ما فضل عن أهلك، ونقل عن قتادة وعطاء وابن زيد.
المعنى: يسألك أصحابك: ماذا ينفقون؟ قل: أنفقوا ما فضل عن حاجتكم كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، بهذا البيان العجيب الذي تقدّم من أول السورة من حججه، وبيناته، وفرائضه، وحدوده، وما فيه نجاتكم من عذابه: يبين لكم في سائر كتابه: آياته، وحججه، لتتفكّروا في الدنيا والآخرة، فتعلموا زوال الأولى وحقارتها، وبقاء الثانية وجلالها. وقد ورد في معنى الآية أحاديث كثيرة:
روى ابن جرير عن جابر بن عبد اللّه قال: أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم رجل ببيضة من ذهب أصابها في بعض المعادن، فقال يا رسول اللّه: خذ هذه مني صدقة، فو اللّه ما أصبحت أملك غيرها، فأعرض عنه، فأتاه من ركنه الأيمن، فقال له مثل ذلك، فأعرض عنه، ثم قال مثل ذلك، فأعرض عنه، ثم قال مثل ذلك، فقال: «هاتها» مغضبا، فأخذها فحذفه بها حذفة لو أصابه شجه أو عقره، ثم قال: «يجيء أحدكم بماله كلّه يتصدّق به، ويجلس يتكفّف الناس إنّما الصّدقة عن ظهر غنى».
وروي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال: «ارضخ من الفضل، وابدأ بمن تعول، ولا تلام على كفاف».
وعن جابر بن عبد اللّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إذا كان أحدكم فقيرا فليبدأ بنفسه، فإن كان له فضل فليبدأ مع نفسه بمن يعول، ثم إن وجد فضلا بعد ذلك فليتصدّق على غيره».
وقد زعم أناس أن هذه الآية منسوخة، نسختها الزكاة المفروضة، وكأنّهم ظنّوا أنّ الآية تدلّ على وجوب إنفاق ما فضل عن الأهل. والظاهر ما قاله الآخرون من أنها ثابتة الحكم، وليس في الآية ما يدل على وجوب إنفاق الفضل، بل الآية نزلت جوابا لمن سألوا ماذا ينفقون، فبيّن لهم فيه ما فيه للّه رضا من الصدقات، وذكر لهم أنه لا يلزمهم أن ينفقوا الجهد في الصدقة.
قال اللّه تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)}.
العنت: المشقة.
{عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ} [التوبة: 128] ما شق عليكم. وأعنته:
أي صيّره ذا مشقة.
روي في سبب نزول الآية أنّه لما نزلت {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْمًا} [النساء: 10]، تحرّج النّاس عن مخالطتهم في الأموال، واعتزلوهم. فأنزل اللّه هذه الآية.
المعنى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ}.
يعني قصد إصلاح أموالهم خير من اعتزالهم، وإن تخالطوهم ولم تجانبوهم فهم إخوانكم في الدين، والأخ يخالط أخاه ويداخله، ولا حرج في ذلك، فكانت هذه الآية إذنا في المخالطة مع صحة القصد، لا مع قصد أن ينفع نفسه بهذه الخلطة، ويضرّ باليتيم، ولا تجعلوا مخالطتكم إياهم ذريعة إلى أكل أموالهم بغير حق، فاللّه يعلم من خالطهم بقصد أكل أموالهم، وإفسادها عليهم ممن خالطهم، وكان قصده إصلاح أموالهم وتثميرها، ولو شاء اللّه لحرّم ما أحلّه لكم من مخالطة أموالكم بأموال اليتامى، فجهدكم وشقّ عليكم إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ غالب يقدر أن يشقّ على عباده ويحرجهم حَكِيمٌ ولكنه لا يكلفهم إلا ما فيه طاقتهم.
الأحكام:
دلت هذه الآية على جواز التصرف في أموال اليتامى على وجه الإصلاح، فيجوز لولي اليتيم أن يبيع ماله، وأن يشتري له، وأن يقسم له، وأن يدفع مالا له لمن يعمل فيه قراضا ومضاربة، وأن يعمل فيه الوليّ نفسه قراضا، وأن يخلط ماله بماله إذا كان ذلك صلاحا.
قال أبو بكر الرازي: وقوله: {وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ} يدل على أن لولي اليتيم أن يخالط اليتيم بنفسه في الصهر والمناكحة، وأن يزوّجه بنته، أو يزوج اليتيمة بعض ولده، فيكون قد خلط اليتامى بنفسه وعياله، واختلط هو بهم.
وإذا كانت الآية قد دلّت على جواز خلط مال اليتيم بماله في مقدار ما يظن أن اليتيم يأكله على ما روي عن ابن عباس: فقد دلّت على جواز المناهدة التي يفعلها الناس في الأسفار، فيخرج كلّ واحد منهم شيئا معلوما فيخلطونه ثم ينفقونه، وقد يختلف أكل الناس.
وقد دل قوله: {إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} على أن التجارة في مال اليتيم وتزويجه ليس بواجب على الوصي، لأنّ ظاهر اللفظ يدلّ على أنّ مراده الندب والإرشاد.
قال اللّه تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)}.
المعنى: ولا تتزوجوا أيها المؤمنون المشركات حتى يؤمن باللّه وباليوم الآخر، ولأمة مؤمنة باللّه ورسوله أفضل من حرّة مشركة وإن كرم أصلها، وإن أعجبتكم المشركة في الجمال والحسب والمال. ولا تزوّجوا المشركين من نسائكم المؤمنات حتى يؤمنوا باللّه ورسوله، ولأن تزوجوهنّ من عبد مؤمن باللّه ورسوله خير لكم من أن تزوجوهنّ من حر مشرك وإن أعجبكم في الحسب والنسب والشرف.
هؤلاء الذين حرّمت عليكم مناكحتهم من الرجال المشركين والنساء المشركات يدعونكم إلى العمل بما يودّي بكم إلى النار، فلا تخالطوهم، ولا تصاهروهم، إذ المصاهرة توجب المداخلة والنصيحة، وهؤلاء لا يألونكم خبالا، واللّه يدعو إلى العمل الذي يوجب الجنة وستر الذنوب بإعلامه إياكم السبيل الحق، ويوضّح حججه وأدلته للناس ليتذكّروا فيميّزوا بين الخير والشر.
وقد اختلف العلماء في هذه الآية، فذهب بعضهم إلى أن لفظ المشركات يعمّ كلّ مشركة، سواء أكانت وثنية أم يهودية أم نصرانية، ولم ينسخ أو يخصّ منها شيء، فيكنّ جميعا قد حرّم على المسلم زواجهنّ.
وذهب بعضهم على أن المراد بالمشركات من لا كتاب لهنّ من المجوس والعرب دون الكتابيات، وذهب بعضهم إلى أن المراد بالمشركات عامّ في جميع من ذكرن، إلا أنه نسخ بقوله: {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5].
وسبب الخلاف أنّ كلّ كافر بالحقيقة مشرك، ولذلك يروى عن ابن عمر رضي اللّه عنهما أنه كره نكاح اليهودية والنصرانية، وقال: أيّ شرك أعظم ممّن يقول: عيسى اللّه، أو ولد اللّه؟ تعالى اللّه عمّا يقولون علوا كبيرا.
والعرف قد خصص المشرك بمن لا كتاب له من الوثنيين والمجوس. وقال اللّه: {ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} وقال: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ} [البينة: 1] وقد ورد في سورة المائدة: {وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] فبعضهم حمل لفظ المشركات على عمومه، فحرّم كلّ مشركة ولو كتابية.
وزعم أنّ قوله تعالى: {وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} مقيّد بقيد وهو إذا آمنّ، وبعضهم حمل المشركات على عمومه وقال: آية المائدة مخصّصة، وقال بعضهم: هي ناسخة، لأنّها أخرجت الكتابيات من الحرمة.
وبعضهم حمله على العرف الخاص، فقال: لا نسخ ولا تخصيص. وهذه الآية أفادت حكما، وهو حرمة نكاح الوثنيات والمجوسيات، وآية المائدة أفادت حكما آخر، وهو حلّ نكاح الكتابيات، فلم تتعارضا.
وممّن روي عنه القول بحرمة الكتابيات عمر بن الخطاب.
فقد أخرج ابن جرير عن شهر بن حوشب. قال: سمعت عبد اللّه بن عباس يقول: نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن أصناف النساء إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات كل ذات دين غير الإسلام.
وقال اللّه تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5].
وقد نكح طلحة بن عبيد اللّه يهودية، ونكح حذيفة بن اليمان نصرانية، فغضب عمر بن الخطاب غضبا شديدا، حتى همّ بأن يسطو عليهما، فقالا: نحن نطلّق يا أمير المؤمنين، ولا تغضب، فقال: لئن حلّ طلاقهنّ لقد حلّ نكاحهنّ، ولكن أنتزعن عنكما حقرة قمئة.
وقد قال ابن جرير بعد ذلك: وأما القول الذي روى شهر بن حوشب عن ابن عباس عن عمر رضي اللّه عنه من تفريقه بين طلحة وحذيفة وامرأتيهما اللتين كانتا كتابيتين فقول لا معنى له، لمخالفته ما الأمة مجمعة على تحليله بكتاب اللّه- تعالى ذكره- وخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه من القول بخلاف ذلك ما هو أصحّ منه إسنادا، وروى بسنده عن عمر: المسلم يتزوج المسلمة، وإنما كره عمر لطلحة وحذيفة رضي اللّه عنهما، نكاح اليهودية والنصرانية حذرا من أن يقتدي بهما الناس، فيزهدوا في المسلمات. أو غير ذلك من المعاني.
ورحم اللّه عمر بن الخطاب. فقد كان ينظر إلى مصالح المسلمين، نسائهم ورجالهم، ويسوسهم بالنظر والمصلحة، وما أحوجنا إلى مثل هذه السياسة، فإنّ كثيرا من الشباب المسلمين في مصر رغبوا عن الزواج من المحصنات المسلمات إلى الزواج بالكتابيات الأجنبيات.
قال اللّه تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)}.
المحيض: هنا الحيض، كالمعيش: أي العيش. قال رؤبة:
إليك أشكو شدّة المعيش ** ومرّ أعوام نتفن ريشي

أَذىً الأذى ما يؤذي به من مكروه فيه، وسمي المحيض أذى لنتنه وقذره ونجاسته، وقال السدي وقتادة: أذى قذر.
سبب نزول هذه الآية:
قال قتادة: إنّ أهل الجاهلية كانوا لا تساكنهم حائض في بيت، ولا تؤاكلهم في إناء، فسألوا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية.، فحرّم فرجها ما دامت حائضا، وأحلّ ما سوى ذلك أن تصبغ رأسك. وتؤاكلك، وأن تضاجعك في فراشك إذا كان عليها إزار محتجزة به دونك.
فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ اختلف أهل العلم فيما يجب على الرجل اعتزاله من المرأة وهي حائض على أقوال:
1- إن الذي يجب اعتزاله جميع بدن المرأة، وحجتهم في ذلك أن اللّه أمر باعتزال النساء، ولم يخصّص من ذلك شيئا دون شيء.
2- الذي يجب اعتزاله موضع الأذى، وذلك مخرج الدم.
أخرج ابن جرير عن مسروق بن الأجدع قال: قلت لعائشة: ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضا؟ قالت: كلّ شيء إلا فرجها، وحجتها ما ثبت في الأخبار أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يباشر نساءه وهنّ حيّض. فعلم من ذلك أن الذي طلب اعتزاله بعض جسدها دون بعض.
ولما أجمعوا على حرمة الجماع، واختلفوا في غيره، أخذوا بالمجمع عليه، وتركوا المختلف فيه.
3- إن الذي أمر باعتزاله ما بين السرة إلى الركبة، وله ما فوق ذلك ودونه.
وحجتهم ما ثبت عن عائشة قالت: كانت إحدانا إذا كانت حائضا أمرها النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أن تأتزر، ثم يباشرها.
وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ في هذه المسألة ثلاثة أقوال:
1- قال أبو حنيفة: يجب أن تؤتى المرأة إذا انقطع دم الحيض ولو لم تغتسل بالماء. إلا أنه إذا انقطع دمها لأكثر الحيض حلّت حينئذ، وإن انقطع دمها لأقل الحيض لم تحل حتّى يمضي وقت صلاة كامل.
2- قال مالك، والزهري، والليث، وربيعة، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: لا تحل حتى ينقطع الحيض، وتغتسل بالماء غسل الجنابة.
3- يكفي في حلها أن تتوضأ للصّلاة. قاله طاوس، ومجاهد.
وسبب الخلاف بين الأولين أن اللّه قال: حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ الأولى بالتخفيف، والثانية بالتشديد، وطهر يستعمل فيما لا كسب فيه للإنسان، وهو انقطاع دم الحيض. وأما تطهّر فيستعمل فيما يكتسبه الإنسان، وهو الاغتسال بالماء.
فحمل أبو حنيفة {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} على انقطاع دم الحيض، وقوله: {فَإِذا تَطَهَّرْنَ} على معنى: فإذا انقطع دم الحيض، فاستعمل المشدّد بمعنى المخفف.
وقالت المالكية بالعكس، إنه استعمل المخفّف بمعنى المشدّد، والمراد: ولا تقربوهن حتى يغتسلن بالماء، فإذا اغتسلن فأتوهنّ، بدليل قراءة بعضهم {حَتَّى يَطَّهَّرنَ} بالتشديد، وبدليل قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} أو يستعمل كل واحدة في معناها، ويؤخذ من مجموع الكلامين أنّ اللّه علّق الحلّ على شيئين:
انقطاع الدم. والتطهر بالماء، كقوله: {وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ} [النساء: 6] فعلّق الحكم وهو جواز دفع المال على شرطين:
أحدهما: بلوغ النكاح.
والثاني: إيناس الرشد.
ورجع الحنفية ما ذهبوا إليه بأنّ استعمال المشدّد بمعنى المخفّف لا يحتاج إلى إضمار شيء. أما مذهب المالكية فيحتاج إلى إضمار بالماء.
وقالوا على الثاني: إنّ ما ذهبتم إليه يخل بحكم الغاية، أمّا ما ذهبنا إليه فيحفظ حكم الغاية، ويقرها على أصلها، ويوافق ما يفهمه العرب من مثله، فإذا قلت: لا تعط زيدا حتى يدخل الدار، فإذا دخل الدار فأعطه درهما. كان المفهوم منه أن ما ذكر في الشرط هو المذكور في الغاية، وليس ذلك تجديد شرط زائد.
{فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} بالنكاح لا بالسفاح، وقيل: من حيث أحلّ لكم الإتيان لا صائمات ولا محرمات ولا معتكفات. وقيل: من حيث أمركم اللّه باعتزالهن، وهذا الأمر للإباحة. لا للوجوب، لأنّه بعد الحظر، وقد اختلف فيه، والحق أنه لا يقتضي الوجوب، وذهب ابن حزم إلى أنه يجب غشيانهن بعد الطهر.
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}.
محبة اللّه: هي إرادته ثواب العبد.
والتوبة: هي رجوع العبد عن حالة المعصية عن إتيان النساء في غير موضع الحرث، وقيل: هم الذين لا ينقضون التوبة، طهّروا أنفسهم بعدم الرّجوع إلى المعصية، والأول هو المنعطف على سابق الآية. المنتظم معها.
قال اللّه تعالى: {نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)} حَرْثٌ: الحرث في اللغة الزرع. وهو على حذف مضاف، أي موضع حرثكم، أو الحرث بمعنى المحترث والمزدرع وإنما كانت النساء محترثا ومزدرعا، لأنّهنّ مكان نبات الولد.
المعنى: نساؤكم مزدرع لكم، تثمر لكم الأولاد، فأتوا هذا المزدرع، {أَنَّى شِئْتُمْ} على أي وجه شئتم مقبلة، أو مدبرة مضطجعة أو قائمة أو منحرفة، بعد أن يكون المأتى في موضع الحرث.
وقد روى مجاهد قال: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته، أو قفه عند كل آية، وأسأله عنها، حتى انتهى إلى هذه الآية: {نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} فقال ابن عباس: إنّ هذا الحيّ من قريش كانوا يشرحون النساء بمكة، ويتلذذون بهنّ مقبلات ومدبرات. فلما قدموا المدينة تزوّجوا في الأنصار، فذهبوا يفعلون بهنّ كما كانوا يفعلون بالنساء بمكة، فأنكرن ذلك، وقلن: هذا شيء لم نكن نؤتى عليه: فانتشر الحديث حتى انتهى إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فأنزل في ذلك: {نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} إن شئت فمقبلة، وإن شئت فمدبرة، وإن شئت فباركة، وإنما يعني بذلك موضع الولد للحرث، يقول: ائت الحرث حيث شئت.
وأنّى في كلام العرب للسؤال عن الوجوه والمذاهب، يقال: أنّى لك هذا المال، أي من أيّ الوجوه والمذاهب؟ فيقال: من وجه كذا وكذا، قال اللّه تعالى: {أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 37].
وقال الشاعر:
أنّى ومن أين نابك الطّرب ** من حيث لا صبوة ولا ريب

وقد تجرّد عن معنى الاستفهام ككيف، ويبقى لها معنى الوجوه والمذاهب، ولا يصحّ أن يفهم غير هذا، وقد وردت أحاديث تؤيّد هذا الفهم، وتبطل ما عداه، فقد ورد عن عكرمة قال: جاء رجل إلى ابن عباس، وقال: كنت آتي امرأتي في دبرها، وسمعت قول اللّه: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ فظننت أنّ ذلك لي حلال؟
فقال: يا لكع وإنما قوله: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} قائمة وقاعدة ومقبلة ومدبرة، في أقبالهن. لا تعدو ذلك إلى غيره.
وروي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «الذي يأتي المرأة في دبرها هي اللوطية الصغرى».
وروى الإمام أحمد وأهل السنن أيضا عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «من أتى حائضا، أو امرأة في دبرها، أو كاهنا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمّد».
{وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ} الخير، والصالح من الأعمال، عدّة لكم يوم الحساب {وَاتَّقُوا اللَّهَ} في معاصيه أن تقربوها، وفي حدوده أن تضيّعوها، {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ} فيجازي المحسن بإحسانه. والمسيء بإساءته {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} بالفوز والكرامة في الدنيا والآخرة.
قال اللّه تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)}.
{عُرْضَةً} ع ر ض يتصرّف على معان مرجعها إلى المنع، لأنّ كل شيء اعترض فقد منع. ويقال للحساب: عارض، لأنه منع من رؤية السماء والقمرين والكواكب.
وقد يقال: هذا عرضة لك، أي: عدّة، فتبتذله في كل ما يعنّ لك. قال الشاعر:
ولا تجعلوني عرضة للّوائم

وكان الرجل يحلف على أن لا يفعل بعض الخير: من صلة رحم، أو إصلاح بين الناس، أو إحسان، أو عبادة. ثم يقول: أخاف اللّه إن حنثت في يميني، فقيل: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ} أي لا تجعلوا اللّه مجازا ومانعا لما حلفتم عليه من البر والتقوى والإصلاح بين الناس، فيكون المراد بالأيمان المحلوف عليه، وسمّي يمينا لتلبّسه باليمين، ويكون أَنْ تَبَرُّوا بدلا من أيمانكم، ويكون حاصل المعنى:
ولا تجعلوا اللّه مانعا من البر والتقوى إذا حلفتم به. بل افعلوا البر والتقوى، وكفّروا عن أيمانكم ويكون هذا في معنى قوله صلى الله عليه وسلّم لعبد الرحمن بن سمرة: «إذا حلفت على يمين، ورأيت غيرها خيرا منها، فأت الذي هو خير، وكفّر عن يمينك».
ومعنى الآية على المعنى الآخر لعرضة: ولا تجعلوا اللّه معرضا لأيمانكم، تبتذلونه بكثرة الحلف به. ويكون أَنْ تَبَرُّوا علة للنهي، أي إرادة أن تبروا وتتقوا وتصلحوا، لأنّ الحلّاف مجترئ على اللّه، غير معظّم له، فلا يكون برا متقيا، ولا يثق به الناس، فلا يدخلونه في وساطتهم، وإصلاح ذات بينهم، ويكون ذلك نهيا عن كثرة الحلف باللّه، وابتذاله في الأيمان، قال اللّه تعالى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10)} [القلم: 10] فذمّ كثرة الحلف.
قال اللّه تعالى: {لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)}.
اللغو الساقط الذي لا يعتدّ به: كلاما كان أو غيره، أما وروده في الساقط من الكلام فكقوله تعالى: {وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص: 55] وقوله: {لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا (25)} [الواقعة: 25] وقوله: {لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11)} [الغاشية: 11].
وأما وروده في الساقط من غير الكلام فكقول جرير:
يعدّ الناسبون بني تميم ** بيوت المجد أربعة كبارا

ويخرج منهم المرئي لغوا ** كما ألغيت في الدّية الحوارا

وكانوا يقولون لما لا يعتدّ به من أولاد الإبل: لغو.