فصل: مقدمة نظام الدين النيسابوري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مقدمة نظام الدين النيسابوري:

قال عليه الرحمة:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إلى الله الكريم أرغب في إبداع غرائب القرآن، وبفضله العميم أتأهب لإيداع رغائب الفرقان، فإليه منتهى الأمل والسؤال، وهذا حين أفتتح فأقول: الحمد لله الذي جعلنا ممن شرح صدره للإسلام فهو على نور من ربه وجبلني ذا نفس أبيه وهمة عليه لا تكاد تستأنس إلا بذكر حبه. أعاف سفساف الأمور، وأخاف الموبقات الموجبات للثبور. أميل عن زخرف الدنيا وزبرجها، وأكبح النفس أن تحوم حول مخرجها ومولجها.
هي النفس ما حملتها تتحمل إن أرسلت استرسلت وإن قدعت انقدعت في الأول. ولله در السلف الشرر العيون إلى الأماني الفارغة الفانية، والأضيل المهية المنبية عن السعادات الباقية. تاقت قلوبهم إلى الكرامات الدائمات واشتاقت أرواجهم إلى اللذات الحقيقات، وتاهت ضمائرهم في بيداء عظمة الملك والملكوت وتلاشت سرائرهم في دأماء ديمومية العزة والجبروت، فخلصوا من الناسوت ووصلوا إلى اللاهوت، وفنوا بشهوده وبقوا بوجوده ورضى كل منهم بقضاء معبوده، فتجلت لهم الذات واتحدت عندهم المختلفات فطابت لهم الغدوات واعتدلت لهم العشيات، ولم تطمح أعينهم إلا إلى تحصيل ما يقرب إلى الله زلفى وما جرت ألسنتهم إلا بذكر الحق طوبى لهم وبشرى. أسألك اللهم الاقتداء بأولئك، والتوفيق لشكر ما أسبغت علي من عطائك وأتممت من نعمائك، وأعوذ بك أن أزل أو أضل فيما آتى وأذر، وأن أركن إلى الذين ظلموا فتمسني النار يوم العرض الأكبر. ثبت أقدام أقلامي على الصدق، ولا تقض أن ينطق فمي بكلام سوى الحق، واجعلني بفضلك ممن لا ينظر إلا إليك ولا يرغب إلا فيما لديك. بريتني من غير سابقة علمٍ مني، وربيتني من غير حق يوجب ذلك عليك، فإن افتخرت فيما أنعمت علي وقد أمرت: {وأما بنعمة ربك فحدث} [الضحى: 11]، وإن استغفرت فمما أسرفت على نفسي وقد قلت: {ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيما} [النساء: 110].
فيا من لا يوجد في جوده شوب غرض ولا علة، شرفني في الآخرة بالعزة، واحرسني في دنياي من الذلة، ولا تؤاخذني بالنقصان الإمكاني ولا تعاقبني بالنسيان الإنساني حتى يكون لك الفضل في الآخرة والأولى، والثناء في المبدأ والمحمدة في العقبى. أدعوك دعاء البائس الفقير المستعين، وأتضرع إليك تضرع الذليل المهين المستكين الماثل بين يدي مولاه الآيس بالكلية عمن سواه؛ فاسمع فإنك سميع الدعاء؛ وأجب فإنك قادر على ما تشاء. والصلاة والسلام على عبيدك، المخصوصين بتأييدك، المنزهين عن الأدناس الجسمية، المطهرين عن الأرجاس النفسية، الفائزين بأشراف مراتب الأنس، الواصلين إلى أعلى مدارج الأنس، الضاربين في أرقى القدس، ولاسيما المصطفى محمد الذي أشرق في سماه النبوة بدرًا، وأشرف على بساط الرسالة صدرًا، سيد الثقلين وسند الخافقين، إمام المتقين ورسول رب العالمين الكائن نبيا وآدم بين الماء والطين، المعفر له جباه الأملاك، المشرف بلولاك لما خلقت الأفلاك، صلى الله عليه وعلى آله مفاتيح الجنة وأصحابه مصابيح الدحنة وسلم تسليمًا كثيرًا.
وبعد، فإن المفتقر إلى عفو ربه الكريم الحسن بن محمد القمي المشتهر بنظام النيسابوري نضر الله أحواله في أولاه وأخراه يقول: من المعلوم عند ذوي الأفهام أم كلام الملوك ملوك الكلام، وبقدر البون بين الواجب الذات والممكن الذات يوجد التفاوت بين كلام الله تعالى وكلام المخلوقات. ولاسيما إذا وقع في معرض التحدي الذي يظهر النبي هنالك من المتنبي، وهذا شأن القرآن العظيم والفرقان الكريم الذي أخرس شقاشق المناطق، قضهم بقضيضهم، وأوقر مسامع المصاقع فيما بين أوجهم رحضيضهم حتى اختاروا المقارعة بالسيوف على المعارضة بالحروف، والمقاتلة بالأسنة على المقاولة بالألسنة، والملاكمة باللهاذم على المكالمة باللهازم، ومبارزة الأقران على الإتيان بأقصر سورة من القرآن. قال الله تعالى: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله} [الإسراء: 88] وقال تعالى: {أم يقولون افتراه قل فاتوا بعشر سور مثله مفتريات} [هود: 13] وقال تعالى: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله} [البقرة: 23]. درج لهم الأمر فأوقع التحدي على القرآن جملة ثم على عشر سورة ثم على سورة، فاضطرهم التعجيز إلى إيثار الأصعب من الأسهل؛ فتبين أن الأسهل في النظر هو الأصعب في نفس الأمر، وذلك من اذل دليل على حقية المنزل وصدق المنزل عليه وكيف لا وفيه نبأ الأولين وخبر الآخرين وحكم ما بين الخلائق أجمعين؟ قال في وصفه: «هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمة الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، هو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه. هو الذي لم ينته الجن إذ سمعته حتى قالوا: إنا سمعنا قرآنا عجبًا يهدي إلى الرشد فآمنا به. من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن ناظر به فلج، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم».
ولقد انتصب جم غفير وجمع كثير من الصحابة والتابعين ثم من العلماء الراسخين والفضلاء المحققين والأئمة المتقنين في كل عصر وحين، للخوض في تيار بحاره والكشف عن أستار أسراره والفحص عن غرائبه والاطلاع على رغائبه نقلا وعقلا وأخذا واجتهادا، فتباينت مطامح هماتهم، وتباعدت مواقع نياتهم، وتشعبت مسالك أقدامهم وتفننت مقاطر أقلامهم؛ فمن بين وجيز وأوجز ومطنب وملغز، ومن مقتصر على حل الألفاظ، ومن ملاحظ مع ذلك حظ المعاني والبيان ونعم اللحاظ، فشكر اله تعالى مساعيهم وصان عن إزراء القادح معاليهم. ومنهم من أعرض عن التفسير وأقبل على التأويل، وهو عندي ركون إلى الأضاليل وسكون على شفا جرف الأباطيل إلا من عصمه الله وإنه لقليل، ومنهم من مرج البحرين وجمع بين الأمرين. فللراغب الطالب أن يأخذ العذب الفرات ويترك الملح الأجاج، ويلقط الدر ويسقط السبج والزجاج.
وإذ وفقني الله تعالى لتحريك القلم في أكثر الفنون المنقولة والمعقولة كما اشتهر بحمد الله تعالى ومنه فيما بين أهل الزمان. وكان علم التفسير من العلوم بمنزلة الإنسان من العين والعين من الإنسان. وكان قد رزقني الله تعالى من إبان الصبا وعنفوان الشباب حفظ لفظ القرآن وفهم معنى الفرقان.
وطالما طالبني بعض أجلة الإخوان وأعزة الأخدان ممن كنت مشارًا إليه عندهم بالبنان في البيان- والله المنان يجاريهم عن حسن ظنونهم ويوفقنا لإسعاف سؤلهم وإنجاح مطلوبهم- أن أجمع كتابًا في علم التفسير مشتملًا على المهمات مبنيًا على ما وقع إلينا من نقل الأثبات وأقوال الثقات، من الصحابة والتابعين ثم من العلماء الراسخين والفضلاء المحققين المتقدمين والمتأخرين- جعل الله تعالى سعيهم مشكورًا وعلمهم مبرورا- فاستعنت بالمعبود وشرعت في المقصود، معترفا بالعجز والقصور في هذا الفن وفي سائر الفنون، لا كمن هو بابنه وبشعره مفتون. كيف وقد قال عز من قائل: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} [الإسراء: 85]،: {ومن أصدق من الله قليلا} [النساء: 122]: {وكفى بالله وليا} [النساء: 45]: {وكفى بالله وكيلا} [النساء: 81، 132، 171؛ والأحزاب: 3، 48]
ولما كان التفسير الكبير المنسوب إلى الإمام الأفضل والهمام الأمثل، الحبر النحرير والبحر الغزير، الجامع بين المعقول والمنقول الفائز بالفروع والأصول، أفضل المتأخرين فخر الملة والحق والدين محمد بن عمر بن الحسين الخطيب الرازي تغمده الله برضوانه وأسكنه بحبوحة جنانه، اسمه مطابق لمسماه وفيه من اللطائف والبحوث ما لا يحصى، ومن الزوائد والغثوث ما لا يخفي، فإنه قد بذل مجهوده ونثل موجودة حتى عسر كتبه على الطالبين وأعوز تحصيله على الراغبين، فحاذيت سياق مرامه، وأوردت حاصل كلامه، وقربت مسالك أقدامه، والتقطت عقود نظامه، من غير إخلال بشيء من الفرائد أو إهمال لما يعد من اللطائف والفوائد، وضممت إليه ما وجدت في الكشاف وفي سائر التفاسير من اللطائف المهمات، أو رزقني الله تعالى من البضاعة المزجاة، وأثبت القراءات المعتبرات والوقوف المعللات، ثم التفسير المشتمل على المباحث اللفظيات والمعنويات، مع إصلاح ما يجب إصلاحه وإتمام ما ينبغي إتمامه من المسائل الموردة في التفسير الكبير والاعتراضات، ومع حل ما يوجد في الكشاف من المواضع المعضلات سوى الأبيات المعقدات، فإن ذلك يوردها من ظن أن تصحيح القراءات وغرائب القرآن إنما يكون بالأمثال والمستشهدات؛ كلا، فإن القرآن حجة على غيره وليس غيره حجة عليه، فلا علينا أن نقتصر في غرائب القرآن على تفسيرها بالألفاظ المشتهرات وعلى إيراد بعض المتجانسات التي تعرف منها أصول الاشتقاقات. وذكرت طرفا من الإشارات المقنعات والتأويلات الممكنات والحكايات المبكيات والمواعظ الرادعة عن المنهيات الباعثة على أداء الواجبات، والتزمت إيراد لفظ القرآن الكريم أولا مع ترجمته على وجه بديع وطريق منيع مشتمل على إبراز المقدرات وإظهار المضمرات وتأويل المتشابهات وتصريح الكنايات وتحقيق المجازات والاستعارات؛ فإن هذا النوع من الترجمة مما تسكيب فيه العبرات وترن المترجمون هنالك إلى العثرات، وقلما يفطن له الناشئ الواقف على متن اللغة العربية فضلا عن الدخيل القاصر في العلوم الأدبية. واجتهدت كل الاجتهاد في تسهيل سبيل الرشاد، ووضعت الجميع على طرف التمام ليكون الكتاب كالبدر في التمام وكالشمس في إفادة الخاص والعام، من غير تطويل يورث الملام ولا تقصير يوعر مسالك السالك ويبدد نظام الكلام، فخير الكلام ما قل ودل وحسبك من الزاد ما بلغك المحل. والتكلان في الجميع على الرحمن المستعان والتوفيق مسئول ممن بيده مفاتيح الفضل والإحسان وخزائن البر. اهـ.
وقال في آخر كتابه ما نصه: قال الضعيف مؤلف الكتاب، أحوج خلق الله إلى رحمته ورضاه، الحسن بن محمد بن الحسين المشتهر بنظام النيسابوري نظم الله أحواله خلق الله إلى رحمته ورضاه، الحسن المعروف باعتلاء عرائك المجد، المشغوف باقتناء سبائك الحمد، الكامل شوقه إلى فهم غرائب القرآن والقرآن كله غرائب، الباذل طوقه في درك وغائب الفرقان والفرقان بأسره رغائب، عقائل مسائل جهزتها فطنة من مشايد الشدائد خامدة، وفرائد فوائد نظمتها قريحة من صنوف الصروف جامده، وقد نطفت بها عين خرساء بادٍ شحوبها وتحركت بها لأجلي ولاء طالما عقر حوبها، على أنها مع سواد ما سقط من سنها بيضاء الخلال ومع مرارة مذاق ما بين لحييها حلوة المباني مليحة المقال.
والذي قد مج فوها عفوصة ما فيها عذبة على العذبات سلسة على الأسلات يبكي ويضحك، ويملك ويهلك، ويفقر ويثري، ويريش ويبري، ويمنع ويعطي، ولولا الله لذكرت أنه يميت ويحيى.
وفي رقتها دقة، ومع طلاوتها حلاوة، فإن شئت فيراعة فيها براعة، وأنبوب فيه من الحكم أسلوب وأيّ أسلوب، وكيف لا وقد اشتملت على مطاوي ما رسمه على فحاوى كتاب الله الكريم، واحتوت مباني ما رقمه على معاني الفرقان العظيم، الذي أخرس شقاشق الفصحاء حين أرادوا معارضته لعجزهم لا للخلل في أدمغتهم، وأوقر مسامع أولي العناد من العباد في البلاد بجهلهم لا لصمم في أصمختهم، صحيفة يلوح عنها أثر الحق، ولطيمة يفوح منها عبق الصدق، بضاعة يحملها أهل النهي في سفر الروح إلى مكانها، وتجارة أرباحها جنات النعيم، وإجارة أعواضها الفوز بلقاء رب العرش العظيم.
وقد تضمن كتابي هذا حاصل التفسير الكبير الجامع لأكثر التفاسير جل كتاب الكشاف الذي رزقه له القبول من أساتذة الأطراف والأكناف، واحتوى مع ذلك على النكت المستحسنة الغريبة، والتأويلات المحكة العجيبة مما لم يوجد في سائر تفاسير الأصحاب، أو وجدت متفرقة الأسباب أو مجموعة طويلة الذيول والأذناب.