فصل: من فوائد الزمخشري في الآيات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولم يكن صلى الله عليه وسلم يقف في تعليمه لأصحابه- رضوان الله عليهم- عند حد الرحمة بالناس. وقد علم أن رحمة ربه وسعت كل شيء. وأن المؤمنين مأمورن أن يتخلقوا بأخلاق الله؛ وأن الإنسان لا يبلغ تمام إنسانيته إلا حين يرحم كل حي تخلقًا بخلق الله سبحانه، وكان تعليمه لهم بالطريقة الموحية التي عهدناها:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئرًا، فنزل فيها فشرب، ثم خرج، وإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش. فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئر، فملأ خفه ماء، ثم أمسكه بفيه حتى رقي، فسقى الكلب. فشكر الله تعالى له فغفر له. قالوا: يا رسول الله وإن لنا في البهائم لأجرًا؟ قال: في كل كبد رطبة أجر». أخرجه مالك والشيخان.
«وفي أخرى: إن امرأة بغيًا رأت كلبًا في يوم حار يطيف ببئر، قد أدلع (أي أخرج) لسانه من العطش فنزعت له موقها (أي خفها) فغفر لها به».
وعن عبد الرحمن بن عبدالله عن أبيه رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر. فرأينا حمرة (طائر) معها فرخان لها فأخذناهما. فجاءت الحمرة تعرّش (أو تفرش)- (أي ترخي جناحيها وتدنو من الأرض) فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها». ورأى قرية نمل قد أحرقناها فقال: «من أحرق هذه؟» قلنا: نحن. قال: «إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار».. أخرجه أبو داود.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: «قرصت نملة نبيًا من الأنبياء. فأمر بقرية النمل فحرقت. فأوحى الله تعالى إليه: أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح؟». أخرجه الشيخان.
وهكذا علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه هدى القرآن. ليتذوقوا رحمة الله من خلال مزاولتهم للرحمة.. أليس أنهم إنما يتراحمون برحمة واحدة من رحمات الله الكثيرة؟!
وبعد فإن استقرار هذه الحقيقة في تصور المسلم لينشيء في حسه وفي حياته وفي خلقه آثارًا عميقة؛ يصعب كذلك تقصيها؛ ولابد من الاكتفاء بالإشارة السريعة إليها، كي لا نخرج من نطاق الظلال القرآنية، إلى قضية مستقلة!
إن الشعور بهذه الحقيقة على هذا النحو ليسكب في قلب المؤمن الطمأنينة إلى ربه- حتى وهو يمر بفترات الابتلاء بالضراء، التي تزيغ فيها القلوب والأبصار- فهو يستيقن أن الرحمة وراء كل لمحة، وكل حالة، وكل وضع؛ وأن ربه لا يعرضه للابتلاء لأنه تخلى عنه، أو طرده من رحمته. فإن الله لا يطرد من رحمته أحدًا يرجوها. إنما يطرد الناس أنفسهم من هذه الرحمة حين يكفرون بالله ويرفضون رحمته ويبعدون عنها!
وهذه الطمأنينة إلى رحمة الله تملأ القلب بالثبات والصبر، وبالرجاء والأمل، وبالهدوء والراحة.. فهو في كنف ودود، يستروح ظلاله، ما دام لا يُبعد عنه في الشرود!
والشعور بهذه الحقيقة على هذا النحو يستجيش في حس المؤمن الحياء من الله. فإن الطمع في المغفرة والرحمة لا يجرّئ على المعصية- كما يتوهم البعض- إنما يستجيش الحياء من الله الغفور الرحيم. والقلب الذي تجرئه الرحمة على المعصية هو قلب لم يتذوق حلاوة الإيمان الحقيقية! لذلك لا أستطيع أن أفهم أو أسلم ما يجري على ألسنة بعض المتصوفة من أنهم يلجون في الذنب ليتذوقوا حلاوة الحلم، أو المغفرة، أو الرحمة.. إن هذا ليس منطق الفطرة السوية في مقابلة الرحمة الإلهية!
كذلك فإن الشعور بهذه الحقيقة على هذا النحو يؤثر تأثيرًا قويًا في خلق المؤمن، وهو يعلم أنه مأمور أن يتخلق بأخلاق الله سبحانه وهو يرى نفسه مغمورًا برحمة الله مع تقصيره وذنبه وخطئه- فيعلمه ذلك كله كيف يرحم، وكيف يعفو، وكيف يغفر.. كما رأينا في تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه؛ مستمدًا تعليمه لهم من هذه الحقيقة الكبيرة..
ومن مواضع رحمة الله التي تقررها الآية الكريمة: أن الله كتب ليجمعنهم إلى يوم القيامة:
{قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه...}..
فمن هذه الرحمة المكتوبة، ذلك الجمع الذي لا ريب فيه.. ذلك الجمع الذي يشي بما وراءه من عناية الله سبحانه بعباده من الناس؛ فقد خلقهم لأمر؛ واستخلفهم في هذه الأرض لغاية، ولم يخلقهم عبثًا، ولم يتركهم سدى.
ولكن يجمعهم إلى يوم القيامة- فهذا اليوم هو نهاية المطاف الذي يفيئون إليه كما يفيء الراحل إلى وجهته- فيعطيهم جزاء كدحهم إليه، وينقدهم أجر عملهم في دار الدنيا. فلا يضيع عليهم كدح ولا أجر؛ إنما يوفون أجورهم يوم القيامة.. وفي هذه العناية تتجلى الرحمة في مظهر من مظاهرها.. كما أن ما يتجلى من فضل الله في جزاء السيئة بمثلها، والحسنة بعشرة أمثالها، والإضعاف لمن يشاء، والتجاوز عما يشاء لمن يشاء.. كل أولئك من مظاهر الرحمة التي تتجلى في هذا الجمع أيضًا.
ولقد كان العرب في جاهليتهم- قبل أن يمن الله عليهم بهذا الدين ويرفعهم إلى مستواه الكريم- يكذبون بيوم القيامة- شأنهم في هذا شأن أهل الجاهلية العلمية الحديثة!!! لذلك جاء التعبير في هذه الصيغة المؤكدة بشتى التوكيدات، لمواجهة ذلك التكذيب:
{ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه}..
ولن يخسر في هذا اليوم إلا الذين لم يؤمنوا في الدنيا.. وهؤلاء لن يخسروا شيئًا ويكسبوا شيئًا.. هؤلاء خسروا كل شيء.. فقد خسروا أنفسهم كلها، فلم يعودوا يملكون أن يكسبوا شيئًا. أليس أن الإنسان إنما يكسب لنفسه؟ فإذا خسر نفسه ذاتها فماذا يكسب؟ ولمن يكسب؟!
{الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون}..
لقد خسروا أنفسهم وفقدوها؛ فلم تعد لهم نفس تؤمن!.. هو تعبير دقيق عن حالة واقعة.. إن الذين لا يؤمنون بهذا الدين- مع عمق ندائه وإيحائه للفطرة بموحيات الإيمان ودلائله- هؤلاء لابد أن يكونوا قد فقدوا قبل ذلك فطرتهم! لابد أن تكون أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية في كيانهم معطلة مخربة؛ أو محجوبة مغلفة. فهم في هذه الحالة قد خسروا أنفسهم ذاتها، بفقدانهم أجهزة الاستقبال والاستجابة الفطرية الحية في كيانها، ومن ثم فهم لا يؤمنون.. إذ أنهم لم يعودوا يملكون أنفسهم التي بها يؤمنون.. وهذا هو التفسير العميق لعدم إيمانهم مع توافر دلائل الإيمان وموحياته من حولهم.. وهذا هو الذي يحدد مصيرهم في ذلك اليوم. وهو الخسارة الكبرى المترتبة على خسارتهم من قبل لنفوسهم!
بعد ذلك يمضي السياق يستقصي الخلائق في الزمان- كما استقصاها في الآية السابقة في المكان- ليقرر تفرد الله سبحانه بملكيتها؛ وعلمه سبحانه وسمعه المحيطين بها: {وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم}. اهـ.

.من فوائد الزمخشري في الآيات:

قال رحمه الله:
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
سورة الأنعام مكية إلا الآيات 20 و23 و91 و93 و114 و141 و151 و152 و153 فمدنية، وعن ابن عباس: غير ست آيات، وآياتها 165 نزلت بعد الحجر.

.[سورة الأنعام: آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)}.
{جَعَلَ} يتعدّى إلى مفعول واحد إذا كان بمعنى أحدث وأنشأ، كقوله: {وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ} وإلى مفعولين إذا كان بمعنى صير، كقوله: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثًا} والفرق بين الخلق والجعل: أن الخلق فيه معنى التقدير وفي الجعل معنى التضمين، كإنشاء شيء من شيء، أو تصيير شيء شيئا، أو نقله من مكان إلى مكان. ومن ذلك: {وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها}، {وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ}: لأن الظلمات من الأجرام المتكاثفة، والنور من النار {وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجًا}، {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهًا واحِدًا}. فإن قلت: لم أفرد النور؟ قلت: للقصد إلى الجنس، كقوله تعالى: {وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها} أو لأن الظلمات كثيرة، لأن ما من جنس من أجناس الأجرام إلا وله ظل، وظله هو الظلمة، بخلاف النور فإنه من جنس واحد وهو النار. فإن قلت: علام عطف قوله: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}؟ قلت: إما على قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} على معنى أن اللّه حقيق بالحمد على ما خلق، لأنه ما خلقه إلا نعمة، ثم الذين كفروا به يعدلون فيكافرون نعمته وإما على قوله: {خَلَقَ السَّماواتِ} على معنى أنه خلق ما خلق مما لا يقدر عليه أحد سواه، ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شيء منه. فإن قلت: فما معنى ثم؟ قلت: استبعاد أن يعدلوا به بعد وضوح آيات قدرته، وكذلك {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} استبعاد لأن يمتروا فيه بعد ما ثبت أنه محييهم ومميتهم وباعثهم.

.[سورة الأنعام: آية 2]

{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)}.
{ثُمَّ قَضى أَجَلًا} أجل الموت {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} أجل القيامة. وقيل: الأجل الأوّل:
ما بين أن يخلق إلى أن يموت. والثاني: ما بين الموت والبعث وهو البرزخ. وقيل: الأوّل النوم.
والثاني: الموت. فإن قلت: المبتدأ النكرة إذا كان خبره ظرفا وجب تأخيره فلم جاز تقديمه في قوله: {وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ}؟ قلت: لأنه تخصص بالصفة فقارب المعرفة، كقوله: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ}. فإن قلت: الكلام السائر أن يقال: عندي ثوب جيد، ولى عبد كيس، وما أشبه ذلك، فما أوجب التقديم؟ قلت: أوجبه أن المعنى: وأى أجل مسمى عنده تعظيما لشأن الساعة، فلما جرى فيه هذا المعنى وجب التقديم.

.[سورة الأنعام: آية 3]

{وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (3)}.
{فِي السَّماواتِ} متعلق بمعنى اسم اللّه، كأنه قيل وهو المعبود فيما. ومنه قوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ} أو هو المعروف بالإلهية أو المتوحد بالالهية فيها، أو هو الذي يقال له- اللّه- فيها لا يشرك به في هذا الاسم. ويجوز أن يكون {اللَّهُ فِي السَّماواتِ} خبرًا بعد خبر، على معنى: أنه اللّه- وأنه في السموات والأرض، بمعنى: أنه عالم بما فيهما لا يخفى عليه منه شيء، كأن ذاته فيهما. فإن قلت: كيف موقع قوله: {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ}؟ قلت: إن أردت المتوحد بالإلهية كان تقريرًا له، لأن الذي استوى في علمه السر والعلانية هو- اللّه- وحده، وكذلك إذا جعلت في السموات خبرًا بعد خبر، وإلا فهو كلام مبتدأ بمعنى: هو يعلم سركم وجهركم. أو خبر ثالث {وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ} من الخير والشر، ويثبت عليه، ويعاقب.

.[سورة الأنعام: الآيات 4- 5]

{وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (5)}.
{مِنْ} في {مِنْ آيَةٍ} للاستغراق. وفي {مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ} للتبعيض. يعنى: وما يظهر لهم دليل قط من الأدلة التي يجب فيها النظر والاستدلال والاعتبار، إلا كانوا عنه معرضين: تاركين للنظر لا يلتفتون إليه ولا يرفعون به رأسًا، لقلة خوفهم وتدبرهم للعواقب {فَقَدْ كَذَّبُوا} مردود على كلام محذوف، كأنه قيل: إن كانوا معرضين عن الآيات، فقد كذبوا بما هو أعظم آية وأكبرها وهو الحق {لَمَّا جاءَهُمْ} يعني القرآن الذي تحدّوا به على تبالغهم في الفصاحة فعجزوا عنه {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ} الشيء الذي {كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} وهو القرآن، أي أخباره وأحواله، بمعنى: سيعلمون بأى شيء استهزءوا. وسيظهر لهم أنه لم يكن بموضع استهزاء، وذلك عند إرسال العذاب عليهم في الدنيا أو يوم القيامة، أو عند ظهور الإسلام وعلوّ كلمته.

.[سورة الأنعام: آية 6]

{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْرارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)}.
مكن له في الأرض: جعل له مكانا فيها. ونحوه: أرّض له. ومنه قوله: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ} {أَوَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ} وأمّا مكنته في الأرض فأثبته فيها. ومنه قوله: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} ولتقارب المعنيين جمع بينهما في قوله: {مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} والمعنى لم نعط أهل مكة نحو ما أعطينا عادًا وثمود وغيرهم، من البسطة في الأجسام، والسعة في الأموال والاستظهار بأسباب الدنيا. والسماء المظلة، لأن الماء ينزل منها إلى السحاب، أو السحاب أو المطر. والمدرار: المغزار. فإن قلت: أي فائدة في ذكر إنشاء قرن آخرين بعدهم؟ قلت: الدلالة على أنه لا يتعاظمه أن يهلك قرنا ويخرب بلاده منهم؟ فإنه قادر على أن ينشئ مكانهم آخرين يعمر بهم بلاده، كقوله تعالى: {وَلا يَخافُ عُقْباها}.

.[سورة الأنعام: الآيات 7- 9]

{وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتابًا فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكًا لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9)}.
{كِتابًا} مكتوبا {فِي قِرْطاسٍ} في ورق {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} ولم يقتصر بهم على الرؤية، لئلا يقولوا سكرت أبصارنا، ولا تبقى لهم علة. لقالوا: {إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} تعنتا وعنادًا للحق بعد ظهوره {لَقُضِيَ الْأَمْرُ} لقضى أمر إهلاكهم {ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ} بعد نزوله طرفة عين. إما لأنهم إذا عاينوا الملك قد نزل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في صورته وهي آية لا شيء أبين منها وأيقن، ثم لا يؤمنون كما قال: {وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى} لم يكن بدّ من إهلاكهم، كما أهلك أصحاب المائدة. وإما لأنه يزول الاختيار الذي هو قاعدة التكليف عند نزول الملائكة فيجب إهلاكهم. وإما لأنهم إذا شاهدوا ملكا في صورته زهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون. ومعنى ثُمَّ بعد ما بين الأمرين: قضاء الأمر، وعدم الإنظار. جعل عدم الإنظار أشدّ من قضاء الأمر، لأنّ مفاجأة الشدّة أشدّ من نفس الشدّة {وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكًا} ولو جعلنا الرسول ملكا كما اقترحوا لأنهم كانوا يقولون: لولا أنزل على محمد ملك. وتارة يقولون: {ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}، {لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً}، {لَجَعَلْناهُ رَجُلًا} لأرسلناه في صورة رجل، كما كان ينزل جبريل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في أعلم الأحوال في صورة دحية لأنهم لا يبقون مع رؤية الملائكة في صورهم {وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ} ولخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حينئذ، فإنهم يقولون. إذا رأوا الملك في صورة إنسان: هذا إنسان وليس بملك، فإن قال لهم: الدليل على أنى ملك أنى جئت بالقرآن المعجز، وهو ناطق بأنى ملك لا بشر- كذبوه كما كذبوا محمدًا صلى اللّه عليه وسلم، فإذا فعلوا ذلك خذلوا كما هم مخذولون الآن، فهو ليس اللّه عليهم. ويجوز أن يراد: {وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ} حينئذ مثل ما يلبسون على أنفسهم الساعة في كفرهم بآيات اللّه البينة: وقرأ ابن محيصن: {ولبسنا عليهم}، بلام واحدة. وقرأ الزهري: وللبسنا عليهم ما يلبسون، بالتشديد.