فصل: (سورة الأنعام: آية 10)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة الأنعام: آية 10]

{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10)}.
{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ} تسلية لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عما كان يلقى من قومه فَحاقَ بهم فأحاط بهم الشيء الذي كانوا يستهزؤن به وهو الحق، حيث أهلكوا من أجل الاستهزاء به.

.[سورة الأنعام: آية 11]

{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)}.
فإن قلت: أي فرق بين قوله: {فَانْظُروا} وبين قوله: {ثُمَّ انْظُرُوا} قلت: جعل النظر مسببًا عن السير في قوله: {فَانْظُروا} فكأنه قيل: سيروا لأجل النظر، ولا تسيروا سير الغافلين. وأما قوله: {سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا} فمعناه إباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع وإيجاب النظر في آثار الهالكين. ونبه على ذلك بثم، لتباعد ما بين الواجب والمباح.

.[سورة الأنعام: آية 12]

{قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12)}.
{لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} سؤال تبكيت، و{قُلْ لِلَّهِ} تقرير لهم، أي هو- اللّه- لا خلاف بيني وبينكم، ولا تقدرون أن تضيفوا شيئا منه إلى غيره {كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} أي أوجبها على ذاته في هدايتكم إلى معرفته، ونصب الأدلة لكم على توحيده بما أنتم مقرون به من خلق السموات والأرض، ثم أوعدهم على إغفالهم النظر وإشراكهم به من لا يقدر على خلق شيء بقوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ} فيجازيكم على إشراككم. وقوله: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} نصب على الذم، أو رفع: أي أريد الذين خسروا أنفسهم، أو أنتم الذين خسروا أنفسهم. فإن قلت: كيف جعل عدم إيمانهم مسببًا عن خسرانهم، والأمر على العكس؟ قلت: معناه: الذين خسروا أنفسهم في علم اللّه: لاختيارهم الكفر. فهم لا يؤمنون. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في البحر المديد:

الإشارة: إذا علم العبد أن الخلق كلهم في قبضة الله، وأمورهم كلها بيد الله، أحاط بهم علمًا وسمعًا وبصرًا، لم يبق له على أحد عتاب، ولا ترتيبُ خطأ ولا صواب، إلاَّ ما أمرت به الشريعةُ على ظاهر اللسان. بل شأنه أن ينظر إلى ما يفعل المالك في ملكه. فيتلقاه بالقبول والرضى، وفي الحِكَم: ما تَركَ من الجهل شيئًا مَن أراد أن يُظهر في الوقت غيرَ ما أظهره الله فيه. هذا شأن أهل التوحيد؛ يدوُرون مع رياح الأقدار حيثما دارت، غيرَ أنهم يتحنَّنون بقلوبهم إلى رحمة الكريم المنان، وينهضون بهمتهم إلى مَظانّ السعادة والغفران، ويرجون منه الجمع عليه في روح وريحان، وجنة ورضوان، بمحض فضل منه وإحسان. جعَلَنَا الله منهم بفضله وكرمه. آمين. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12)}.
سَلْهُم هل في الدار ديار؟ وهل للكوْنِ- في التحقيق- عند الحق مقدار؟ فإنْ بقوا عن جوابٍ يَشْفِي، فَقُلْ: الله في الربوبية يكفي.
قوله: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}: أخبرَ وحَكَمَ وأرادَ على حسب ما عَلِمَ، فَمَنْ تَعلَّقَ بنجاته عِلْمُه سَبَقَ بدرجاته حُكْمُه، ومَنْ عَلِمَهُ في آزاله أنه يَشْقَى فبقدر شقائه في البلاء يبقى. اهـ.

.قال في الميزان:

قوله تعالى: {قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله} شروع في البرهنة على المعاد، ومحصله أن الله تعالى مالك ما في السماوات والأرض جميعا له أن يتصرف فيها كيف شاء وأراد، وقد اتصف سبحانه بصفة الرحمة وهى رفع حاجة كل محتاج وإيصال كل شيء إلى ما يستحقه وإفاضته عليه وعدة من عباده ومنهم الإنسان صالحون لحياة خالدة مستعدون لأن يسعدوا فيها فهو بمقتضى ملكه ورحمته سيتصرف فيهم بحشرهم وإعطائهم ما يستحقونه البتة.
فقوله تعالى: {قل لمن ما في السماوات والأرض} الخ، يتضمن إحدى مقدمات الحجة وقوله: {كتب على نفسه الرحمة} يتضمن مقدمة أخرى، وقوله: {وله ما سكن في الليل والنهار} الخ، مقدمة أخرى ثالثة بمنزلة الجزء من الحجة.
فقوله تعالى: {قل لمن ما في السماوات والأرض} ألخ، يأمر النبي صلى الله عليه واله أن يسألهم عمن يملك السماوات والأرض وله التصرف فيها بما شاء من غير مانع يمنعه، وهو الله سبحانه من غير شك لأن غيره حتى الأصنام وأرباب الأصنام التي يدعوها المشركون هي كسائر الخلقة ينتهى خلقها وأمرها إليه تعالى فهو المالك لما في السماوات والأرض جميعا.
ولكون المسئول عنه معلوما بينا عند السائل والمسئول جميعا والخصم معترف به لم يحتج إلى صدور الجواب عن الخصم واعترافه به بلسانه، وأمر النبي صلى الله عليه واله أن يذكر هو الجواب ويتكفل ذلك لتتم الحجة من غير انتظار ما لجوابهم.
والسؤال عن الخصم، ومباشرة السائل بنفسه الجواب كلاهما من السلائق البديعة الدائرة في سرد الحجج، يقول المنعم لمن أنعم عليه فكفر بنعمته: من الذي أطعمك وسقاك وكساك؟ أنا الذي فعل ذلك بك ومن بها عليك وأنت تجازيني بالكفر.
وبالجملة ثبت بهذا السؤال والجواب أن الله سبحانه هو المالك على الإطلاق فله التصرف فيها بما شاء من إحياء ورزق وإماتة وبعث بعد الموت من غير أن يمنعه من ذلك مانع كدقة في العمل وموت وغيبة واختلال وغير ذلك.
وبهذا تمت إحدى مقدمات الحجة فألحقها المقدمة الاخرى وهى قوله: كتب على نفسه الرحمة.
قوله تعالى: {كتب على نفسه الرحمة} الكتابة هو الإثبات والقضاء الحتم، وإذ كانت الرحمة- وهى إفاضة النعمة على مستحقها وإيصال الشيء إلى سعادته التي تليق به- من صفاته تعالى الفعلية صح أن ينسب إلى كتابته تعالى، والمعنى: أوجب على نفسه الرحمة وإفاضة النعم وإنزال الخير لمن يستحقه.
ونظيره في نسبة الفعل إلى الكتابة ونحوها قوله تعالى: {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي} [المجادلة: 21] وقوله: {فو رب السماء والأرض إنه لحق} [الذاريات: 23] وأما صفات الذات كالحياة والعلم والقدرة فلا تصح نسبتها إلى الكتابة ونحوها ألبتة لا يقال: كتب على نفسه الحياة والعلم والقدرة.
ولازم كتابة الرحمة على نفسه- كما تقدم- أن يتم نعمته عليهم بجمعهم ليوم القيامة ليجزيهم بأقوالهم وأعمالهم فيفوز به المؤمنون ويخسر غيرهم.
ولذلك ذيل بقوله وهو كالنتيجة في الحجة: ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه فأكد المعنى بأبلغ التأكيد: لام القسم ونون التأكيد وقوله لا ريب فيه.
ثم أشار إلى أن الربح في هذا اليوم للمؤمنين والخسران على غيرهم فقال: {الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون}.
والحجة التي أقيمت في هذه الآية على المعاد غير ما أقيمت من الحجتين عليه في قوله تعالى: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار} [ص: 28] فإن الآيتين تقيمان الحجة على المعاد من جهة أن فعله تعالى ليس بباطل بل له غاية، ومن جهة أن التسوية بين المؤمن والكافر والمتقي والفاجر ظلم لا يليق به تعالى، وهما في الدنيا لا يتميزان فلابد من نشأة أخرى يتميزان فيها بالسعادة والشقاوة، وهذا غير ما في هذه الآية من السلوك إلى المطلوب من طريق الرحمة. اهـ.

.قال مجد الدين الفيروزابادي:

الرَّحمة سبب واصل بين الله وبين عباده، بها أَرسل إِليهم رُسُله، وأَنزل عليهم كُتُبه، وبها هداهم، وبها أَسكنهم دار ثوابِه، وبها رزقهم وعافاهم.
وقد ورد الرّحمة في القرآن على عشرين وجهًا:
الأَوّل: بمعنى منشور القرآن: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ}.
الثانى: بمعنى سيّد الرُسُل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}، وقال صلىَّ الله عليه وسلَّم: «إِنَّما أَنَا رَحْمَة مُهْدَاة».
الثالث: بمعنى توفيق الطَّاعة والإِحسان: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ}.
الرَّابع: بمعنى بنوّة المرسلين: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ}.
الخامس: بمعنى الإِسلام والإِيمان: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ}.
السّادس: بمعنى نعمة العِرفان: {وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ} أي معرفة.
السّابع: بمعنى العصمة من العصيان: {إِلاَّ مَن رَّحِمَ}.
الثامن: بمعنى أَرزاق الإِنسان والحيوان: {لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي}.
التاسع: بمعنى فَطَرَات ماءِ الغِيثان: {وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ}.
العاشر: بمعنى العافية من الابتلاءِ والامتحان: {أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ}.
الحادى عشر: بمعنى النجاة من عذاب النيران: {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ}.
الثانى عشر: بمعنى النُصْرَةِ على أهل العدوان: {أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً}.
الثالث عشر: بمعنى اللأُلْفة والموافقة بين أَهل الإِيمان: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً}.
الرابع عشر: بمعنى الكتاب المنزل على موسى بن عمران: {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً}.
الخامس عشر: بمعنى الثناء على إِبراهيم والوِلدان: {رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ}.
السّادس عشر: بمعنى إِجابة دعوة زكريا مبتهلا إِلى الله المَنَّان: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا}.
السّابع عشر: بمعنى العفو عن ذوى العصيان: {لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ}.
الثامن عشر: بمعنى فتح أَبواب الرَّوْحِ والرَّيْحان: {مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا}.
التاسع عشر: بمعنى الجنَّةِ دار السّلام والأَمان: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ}.
العشرون: بمعنى صفة الرّحيم الرحمن: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}. اهـ.

.من فوائد الثعلبي في الآية:

قال رحمه الله:
{قُلْ} يا محمد لهؤلاء المكذبين المستهزئين {سِيرُواْ} سافروا في الأرض معتبرين {ثُمَّ انظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين} أي آخر أمرهم وكيف أورثهم الكفر والكذب الهلاك والعذاب، يخوّف كفار أهل مكة عذاب الأمم الماضية {قُل لِّمَن مَّا فِي السماوات والأرض} فإن أجابوك وإلاّ {قُل للَّهِ} يقول يفتنكم بعدد الأيام لا [...] والأصنام ثم قال: {كَتَبَ} ربكم أي قضى وأوجب فضلًا وكرمًا {على نَفْسِهِ الرحمة}.
وذكر النفس هاهنا عبارة عن وجوده وتأكيد وحد وارتفاع الوسائط دونه وهذا استعطاف منه تعالى للمتولين عنه إلى الإقبال إليه وإخبار بإنه رحيم بعباده لا يعجل عليهم بالعقوبة ويقبل منهم الإنابة والتوبة.
هشام بن منبه قال: حدثنا أبو عروة عن محمد رسول صلى الله عليه وسلم قال: لما قضى اللّه الخلق كتب في كتاب وهو عنده فوق العرش «إن رحمتي سبقت غضبي».
وقال عمر لكعب الأحبار: ما أول شيء ابتدأه اللّه من خلقه؟ فقال كعب: كتب اللّه كتابًا لم يكتبه بقلم ولا مداد ولكنّه كتب بإصبعه يتلوها الزبرجد واللؤلؤ والياقوت: إني أنا اللّه لا إله إلاّ أنا سبقت رحمتي غضبي.
وقال سلمان وعبدالله بن عمر: إن للّه تعالى مائة رحمة كل رحمة منها طباق ما بين السماء والأرض فاهبط منها رحمة واحدة إلى أهل الدنيا فيها يتراحم الإنس والجان وطير السماء وحيتان الماء وما بين الهواء والحيوان وذوات الأرض وعنده مائة وسبعين رحمة، فإذا كان يوم القيامة أضاف تلك الرحمة إلى ما عنده.
ثم قال: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} اللام فهي لام القسم والنون نون التأكيد، مجازه: واللّه ليجمعنكم {إلى يَوْمِ القيامة} يعني في يوم القيامة إلى يعني في، وقيل: معناه ليجمعنكم في غيركم إلى يوم القيامة {لاَ رَيْبَ فِيهِ الذين خسروا} غلبوا على أنفسهم والتنوين في موضع نصب مردود على الكاف والنون من قوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ} ويجوز أن يكون رفعًا بالإبتداء وخبره فهم لا يؤمنون، فأخبر اللّه تعالى أن الجاحد للآخرة هالك خاسر. اهـ.

.من فوائد القاسمي في الآية:

قال رحمه الله:
{قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: خلقًا وملكًا، وهو سؤال تبكيت وتقريع {قُلْ لِلَّهِ} تقرير للجواب، نيابة عنهم. أي: هو الله، لا خلاف بيني وبينكم، ولا تقدرون أن تضيفوا شيئًا منه إلى غيره. ففيه تنبيه على تعينه للجواب اتفاقًا، كما في قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}. ومن المقرر أن أمر السائل بالجواب إنما يحسن في موضع يكون فيه الجواب قد بلغ من الظهور إلى حيث لا يقدر على إنكاره منكر، ولا على دفعه دافع، كما هنا. قيل: وفيه إشارة إلى أنهم تثاقلوا في الجواب، مع تعينه، لكونهم محجوجين.
وقوله تعالى: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} جملة مستقلة داخلة تحت الأمر، ناطقة بشمول رحمته الواسعة لجميع الخلق، شمول ملكه وقدرته للكل، مسوقة لبيان أنه تعالى رؤوف بعباده، لا يعجل عليهم بالعقوبة، ويقبل منهم التوبة والإنابة، وأن ما سبق ذكره، وما لحق من أحكام الغضب، ليس من مقتضيات ذاته تعالى، بل من جهة الخلق. كيف لا؟ ومن رحمته أن خلقهم على الفطرة السليمة، وهداهم إلى معرفته وتوحيده، بنصب الآيات الأنفسية والآفاقية، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب المشحونة بالدعوة إلى موجبات رضوانه، والتحذير عن مقتضيات سخطه. وقد بدلوا فطرة الله تبديلًا، وأعرضوا عن الآيات بالمرة، وكذبوا بالكتب، واسهزؤوا بالرسل {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف: 76]. ولولا شمول رحمته لسلك بهؤلاء أيضًا مسلك الغابرين. ومعنى: كتب الرحمة على نفسه أنه تعالى أوجبها وقضاها بطريق التفضل والإحسان على ذاته المقدسة، بالذات، لا بتوسط شيء أصلًا. وفي التعبير عن الذات بالنفس حجة على من ادعى أن لفظ النفس لا يطلق على الله تعالى. وإن أُريد به الذات، إلا مشاكلة لما ترى من انتفاء المشاكلة هاهنا- أفادة أبو السعود-.