فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فهذا من ذكر الخاصّ بعد العامّ لتقرير عموم الملك لله تعالى بأنّ مِلكه شمل الظاهرات والخفيّات، ففي هذا استدعاء ليوجّهوا النظر العقلي في الموجودات الخفيّة وما في إخفائها من دلالة على سعة القدرة وتصرّفات الحكمة الإلهية.
و{في} للظرفية الزمانية، وهي ظرف مستقرّ، لأنّ فعل السكون لا يتعدّى إلى الزمان تعدية الظرف اللغو كما يتعدّى إلى المكان لو كان بمعنى حلّ واستقرّ وهو ما لا يناسب حمل معنى الآية عليه.
والكلام تمهيد لسعة العلم، لأنّ شأن المالك أن يعلم مملوكاته.
وتخصيص الليل بالذكر لأنّ الساكن في ذلك الوقت يزداد خفاء، فهو كقوله: {ولا حَبَّةٍ في ظلمات الأرض} [الأنعام: 59].
وعطف النهار عليه لقصد زيادة الشمول، لأنّ الليل لمّا كان مظنّةً الاختفاء فيه قد يظنّ أنّ العالِم يقصد الاطّلاع على الساكنات فيه بأهميّة ولا يقصد إلى الاطّلاع على الساكنات في النهار، فذكر النهار لتحقيق تمام الإحاطة بالمعلومات.
وتقديم المجرور للدلالة على الحصر، وهو حصر الساكنات في كونها له لا لغيره، أي في كون ملكها التامّ له، كماتقدّم في قوله: {قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله} [الأنعام: 12].
وقد جاء قوله: {وهو السميع العليم} كالنتيجة للمقدمة، لأنّ المقصود من الإخبار بأنّ الله يملك الساكنات التمهيد لإثبات عموم علمه، وإلاّ فإنّ مِلك المتحرّكات المتصرّفات أقوى من ملك الساكنات التي لا تبدي حَراكًا، فظهر حسن وقع قوله: {وهو السميع العليم} عقب هذا.
والسميع: العالم العظيم بالمسموعات أو بالمحسوسات.
والعليم: الشديد العلم بكلّ معلوم. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)}.
الحادثاتُ للهِ مِلْكًا، وباللهِ ظهورًا، ومِنْ اللهِ بدءًا، وإلى اللهِ رجوعًا. وهو {السَّمِيعُ} لأنين المشتاقين، {العَلِيمُ} بحنين الواجدين. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)}.
إن من عظمة الموجود الأعلى الواجب الوجود أنه يتكلم عن نفسه بضمير الغيب وهو سبحانه القائل في أول بعض الآيات: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ}.
و{قل} هي أمر، فكأن الحق حين يقول: {هو} فلا يمكن أن تطلق {هو} إلا على الله ولا تنصرف إلا الله. {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الليل والنهار} وكلمة {سكن} هي من مادة السين والكاف والنون، وتأتي لمعان متعددة؛ فتكون من السكنى أي الاستيطان، وتكون من السكون الذي هو ضد الحركة. والمثال على الاستيطان هو قول الله لآدم: {اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ} [البقرة: 35].
إن الحق سبحانه يقول هنا: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الليل والنهار} فكأن الليل والنهار ظرف، وكل الوجود مظروف فيه. وظرفية الليل والنهار تأتي على ظرفية المكان وهو الأرض. وكل مكان في الأرض يأتي عليه الليل والنهار. فإن أردنا الاستيطان في السكن فهي موجودة، وإن أردناها من السكون- وهو ضد الحركة- فهي موجودة؛ ذلك أن كل متحرك يؤول إلى ساكن، والإنسان سيد الحركة ثم يموت أو يسكن في الأرض. وهكذا نرى أن الجنس الأعم الذي يشملهما معًا هو {مَا سَكَنَ} ولذلك قال الحق: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الليل والنهار وَهُوَ السميع العليم} [الأنعام: 13].
وحينما يقول: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الليل والنهار}، فهو يتكلم عن الزمان، واحتوائية الزمان للزمانيات، أي للأشياء التي تحدث في هذا الزمان. والإنسان كما نعلم حدث. وكل ما يطرأ عنه حدث، وكل ما في الكون حدث، وقد أحدثه الحق الواجب الوجود.
وما دام الحدث قد وُجد فلابد له من زمان ولابد له من مكان. أما مكان الحدث فهو السماء والأرض، وما بينهما. وأما زمان الحدث فهو الليل والنهار.
إذن فالحق قد تكلم عن خلق الزمان من بعد أن أعلن لنا أنه خالق المكان. {قُل لِّمَن مَّا فِي السماوات والأرض قُل للَّهِ} [الأنعام: 12].
وهكذا نعلم أن الزمان والمكان قد وُجِدا عندما شاء الله أن يحدث هذا الكون. ولا تقل أبدًا أيها الإنسان: أين كان الله قبل أن يخلق الكون؟ لأن أين هي بحث عن مكان، ومتى هي بحث عن زمان. وأين ومتى إنما وجدتا بعد وجود الحدث في الكون. والكون هو ظرف قار أي شيء ثابت. والزمان هو ظرف غير قار، لأنه يكون مرة ماضيًا، ومرة يكون حاضرًا أو مستقبلًا.
والحق سبحانه عندما قال: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الليل والنهار} أي أن له الظرفين: القار وغير القار.. أي له سبحانه الساكن وكذلك له ما يتحرك في الكون؛ لأن كل متحرك يؤول أمره إلى سكون.
أو أن قوله الحق: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الليل والنهار} أي ما حل في الليل والنهار، أي له سبحانه ما حل في الليل والنهار متحركًا كان أو ساكنًا.
والحق يذيل هذه الآية بقوله: {وَهُوَ السميع العليم} فالسمع متعلق بالمسموع أي الذي له حركة، والعلم متعلق بالمسموع والمنظور والمشموم وكل شيء من آلات الإدراك؛ لذا جاء قوله سبحانه: {وَهُوَ السميع العليم} ليشمل المتحرك والساكن، فسبحانه لا يعزب ولا يغيب عنه شيء.
ونعلم أنه إذا أخبر الحق عن نفسه بصفة من صفات يوجد مثلها في البشر فنحن نأخذها في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. فأنت أيها الإنسان لك سمع فيقال عنك: سميع. ولك علم فيقال: عليم. ولك بصر فيقال: مبصر. ولك قدرة فيقال: قادر. وقد تكون ذا مال وفير فيقال: غني. ولك وجود فيقال: موجود. وأنت حي فيقال حي.
لكن أهذه الصفات التي فيك هي عين الصفات التي في الله؟ لا؛ لأن صفات الله إنما نأخذها في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. ونحن نشاهد ذلك في أنفسنا؛ فالإنسان منا له حال حياة، وحال موت. وفي حال الحياة له حالتان: حالة يقظة، وحالة نوم. وفي حالة اليقظة نحن نرى بقانون البصر، ولهذا البصر حدود؛ فهو محكوم بقانون الضوء، وكذلك السمع محكوم بقانون الصوت والموجة والذبذبة.
ومع ذلك فالإنسان ينام ويغمض عينيه ويرى رؤيا فيها ألوان حمراء وخضراء وغيرها، فبأي شيء أدركت الألوان وعينك مغمضة؟ إذن فما دام في البشر رؤيا بدون عين فلا تقل عن رؤيا الله لنا إن له عيونًا مثل عيوننا، بل هو يرى في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. إنه سبحانه وتعالى قيوم يحكم عبادَه في الزمان والمكان في حالة يقظتهم وفي حالة نومهم.
ومثال من حياتنا اليومية، نحن نجد الرجل وزوجه ينامان في فراش واحد، وقد يرى الرجل في المنام أنه يواجه أعداءه، وترى الزوجة نفسها محاطة بسعادة الأبناء والأحفاد، ويستقيظ كل منهما ليحكي ما رأى في أكثر من ساعة، على الرغم من أن مخ الإنسان لا يعمل في أثناء النوم إلا لسبع ثوان.
إذن، ففي النوم تُلغى المعية وكذلك الزمن، والمكان. فإذا كانت تلك هي القوانين التي تحكم الإنسان، فعلينا أن نعرف أن خالق كل القوانين وهو الحق لا يمكن إدراك صفاته، وعلينا أن نأخذها في إطار: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. اهـ.

.قال صاحب الميزان:

قوله تعالى: {وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم} السكون في الليل والنهار هو الوقوع في ظرف هذا العالم الطبيعي الذي يدبر أمره بالليل والنهار، ويجرى نظامه بغشيان النور الساكب من شمس مضيئة، وعمل التحولات النورية فيه بالقرب والبعد والكثرة والقلة والحضور والغيبة والمسامتة وغيرها.
فالليل والنهار هما المهد العام يربى فيه العناصر الكلية ومواليدها تربيه تسوق كل جزء من أجزائها وكل شخص من أشخاصها إلى غايته التي قدرت له، وتكملها روحا وجسما.
وكما أن للمسكن عاما وخاصا دخلا تاما في كينونة الساكن كالإنسان مثلا يسكن أرضا فيطوف بها في طلب الرزق، ويرتزق مما يخرج منها من حب وفاكهة وما يتربى فيها من حيوان، ويشرب من مائها، ويستنشق من هوائها، ويفعل وينفعل من كيفيات منطقتها، وينمو جميع أجزاء جسمه على حسب تقديرها كذلك الليل والنهار لهما الدخل التام في تكون عامة ما يتكون فيهما.
والإنسان من الأشياء الساكنة في الليل والنهار تكون بمشية الله من ائتلاف أجزاء بسيطة ومركبة على صورة خاصة يمتاز وجوده حدوثا وبقاءا بحياة تقوم على شعور فكرى وإرادة يتهيان له من قوى له باطنية عاطفية تأمره بجذب المنافع ودفع المضار، وتدعوه إلى إيجاد مجتمع متشكل فيه ما نراه من تفاصيل التفاهم باللغات والتبانى على اتباع السنن والقوانين والعادات في المعاشرات والمعاملات، واحترام الاراء والعقائد العامة في الحسن والقبح والعدل والظلم والطاعة والمعصية والثواب والعقاب والجزاء والعفو.
وإذا كان الله سبحانه هو الخالق لليل والنهار وما سكن فيهما المتفرد بإيجادها فله ما سكن في الليل والنهار، وهو المالك الحق لجميع الليل والنهار وسكانهما وما يستعقب وجودها من الحوادث والأفعال والأقوال، وله النظام الجارى فيها على عجيب سعته فهو السميع لأقوالنا من أصوات وإشارات، والعليم بأعمالنا وأفعالنا بما لها من صفتي الحسن والقبح، والعدل والظلم والاحسان والاساءة وما تكتسبه النفوس من سعادة وشقاء.
وكيف يمكنه الجهل بذلك وقد نشأ الجميع في ملكه وبإذنه؟ ونحو وجود هذا النوع من الأمور أعنى الحسن والقبح والعدل والظلم والطاعة والمعصية، وكذا اللغات الدالة على المعاني الذهنية كل ذلك أمور علمية لا تحقق لها في غير ظرف العلم، ولذلك نرى أن الفعل لا يقع منا حسنا ولا قبيحا ولا طاعة ولا معصية، والصوت المؤلف لا يسمى كلاما إلا إذا علمنا به وقصدنا وجهه.
وكيف يمكن أن يملك شيء علمي في نفسه من حيث كونه كذلك ثم يجهله مالكه، ولا يعلم به؟ (أجد التأمل فيه).
والله سبحانه هو الذي أوجد هذا العالم على عجيب سعته في أجزائه البسيطة والعنصرية والمركبة على نظام يدهش اللب، ثم خلقنا وأسكننا الليل والنهار ثم كثرنا وأجرى بيننا نظام الاجتماع الإنساني ثم هدانا إلى وضع اللغات، واعتبار السنن ووضع الاعتبارات، ولم يزل يصاحبنا ويصاحب سائر الأسباب خطوة خطوة، ويجارينا وإياها في مسير الليل والنهار لحظة لحظة وساق حوادث لا نحصيها حادثة بعد حادثة.
حتى تكلم الواحد منا بكلام فوضع المعنى في قلبه بإلهامه، وأجرى اللفظ في لسانه بتعريفه، وأسمع الصوت لمخاطبة بإسماعه، وسار بمعناه إلى ذهنه بحفظه، وفهم المعنى لمفكرته بتعليمه، ثم بعثه لموافقه ما ألقاه إليه المتكلم أو صده عن ذلك بإرادة باعثة له إليه أو كراهة دافعة له عنه، وهو في جميع هذه المراحل التي تعجز عن الانعقاد عليها أنامل العد والاحصاء قائد وسائق وهاد وحفيظ ورقيب! فكيف يسع لقائل إلا أن يقول: إنه تعالى سميع عليم، وما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم.
وكذا إذا عمل الواحد منا بعمل حسنة كان أو سيئة فهو مولود من أب وأم يولدانه تحت مراقبه الاختيار والإرادة، وقد انتقل إليهما بعد ما قطع طريقا بعيدا وأمدا مديدا في أصلاب أسباب فاعلة وأرحام علل أخرى منفعلة إلى أن ينتهى بما الله أعلم به، ولم يزل سبحانه ينقله بإرادته من حجر إلى حجر، والأرض قبضته والسموات بيمينه حتى نزل منزل الاختيار فصاحبه منزلا بعد منزل بإذنه حتى طلع من أفق العين، وأخذ موضعه من مسكن الليل والنهار ثم لا يزال يجرى فيما يتأثر منه من أجزاء الكون كأحد الأسباب الجارية، والله سبحانه عليه شهيد وبه محيط فكيف يمكن أن يغفل سبحانه عما هذا شأنه؟ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.
ومما تقدم يظهر أن قوله تعالى: {وهو السميع العليم} بمنزلد النتيجة لقوله: {وله ما سكن في الليل والنهار}.
والسمع والعلم وإن كان معدودين من صفاته تعالى الذاتية التي هي عين الذات المتعالية من غير أن يتفرع على أمر غيرها لكن من العلم وكذا السمع والبصر ما هو صفة فعلية خارجة عن الذات وهى التي يتوقف ثبوتها على تحقق متعلق غير الذات المقدسة كالخلق والرزق والإحياء والإماتة المتوقفة على وجود مخلوق ومرزوق وحى وميت.
والأشياء لما كانت بأنفسها وأعيانها مملوكة محاطة له تعالى فهى إن كانت أصواتا سمع ومسموعة له تعالى، وإن كانت أنوار ألوانا بصر ومبصرة له تعالى، والجميع كائنة ما كانت علم ومعلومة له تعالى، وهذا النوع من العلم من صفاته الفعلية التي تتحقق عند تحقق الفعل منه تعالى لا قبل ذلك، ولا يلزم من ثبوتها بعد ما لم تكن تغير في ذاته تعالى وتقدس لانها لا تعدو مقام الفعل، ولا يدخل في عالم الذات فالاية في استنتاجها العلم من الملك تريد إثبات العلم الفعلى، فافهم ذلك.
والآية أعنى قوله: {وله ما سكن في الليل والنهار} الخ، كإحدى مقدمات الحجة المبينة بالآية السابقة فإن الحجة على المعاد وإن تمت بقوله: {قل لمن ما في السموات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة} لكن النظر الابتدائي الساذج ربما غفل عن كون ملكه تعالى للاشياء مستلزما لعلمه بها وسمعه بما يسمع منها كالأصوات والأقوال.
ولذلك نبه عليه بتكرار ملك السموات والأرض، وتفريع السمع والعلم عليه فقال: {وله ما سكن في الليل والنهار} وهو في معنى قوله: {له ما في السماوات والأرض وهو السميع العليم} فكانت هذه الآية لذلك بمنزلة مقدمة متممة للحجة المسرودة في الآية السابقة.
والآية- على أنا لم نستوف حقها ولن يستوفى- من أرق الآيات القرآنية معنى وأدقها إشارة وحجة، وأبلغها منطقا. اهـ.