فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والمقصود الإنكار على الذين عبدوا غيره واتّخذوهم أولياء، كما يقول القائل بمحضر المجادل المكابر (لا أجحد الحقّ) لدلالة المقام على أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم لا يصدر منه ذلك، كيف وقد علموا أنّه دعاهم إلى توحيد الله من أول بعثته، وهذه السورة ما نزلت إلاّ بعد البعثة بسنين كثيرة، كما استخلصناه ممّا تقدّم في صدر السورة.
وقد ذكر ابن عطية عن بعض المفسّرين أنّ هذا القول أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم ليجيب المشركين الذين دعوه إلى عبادة أصنامهم، أي هو مثل ما في قوله تعالى: {قل أفغير الله تأمروني أعبد أيّها الجاهلون} [الزمر: 64]، وهو لعمري ممّا يشعر به أسلوب الكلام وإن قال ابن عطية: إنّ ظاهر الآية لا يتضمّنه كيف ولابد للاستئناف من نكتة.
والاستفهام للإنكار.
وقدّم المفعول الأول ل {أتّخذ} على الفعل وفاعله ليكون مواليًا للاستفهام لأنّه هو المقصود بالإنكار لا مطلق اتّخاذ الوليّ.
وشأن همزة الاستفهام بجميع استعمالاته أن يليها جزء الجملة المستفهم عنه كالمنكر هنا، فالتقديم للاهتمام به، وهو من جزئيات العناية التي قال فيها عبد القاهر أن لابد من بيان وجه العناية، وليس مفيدًا للتخصيص في مثل هذا لظهور أنّ داعي التقديم هو تعيين المراد بالاستفهام فلا يتعيّن أن يكون لغرض غير ذلك.
فمن جعل التقديم هنا مفيدًا للاختصاص، أي انحصار إنكار اتّخاذ الولي في غير الله كما مال إليه بعض شرّاح الكشاف فقد تكلّف ما يشهد الاستعمال والذوق بخلافه، وكلام الكشاف بريء منه بل الحقّ أنّ التقديم هنا ليس إلاّ للاهتمام بشأن المقدّم ليليَ أداة الاستفهام فيعلم أن محلّ الإنكار هو اتّخاذ غير الله وليًّا، وأما مّا زاد على ذلك فلا التفات إليه من المتكلم.
ولعلّ الذي حداهم إلى ذلك أنّ المفعول في هذه الآية ونظائرها مثل {أفغير الله تأمروني أعبد} [الزمر: 64] {أغير الله تدعون} [الأنعام: 40] هو كلمة {غير} المضافة إلى اسم الجلالة، وهي عامّة في كلّ ما عدا الله، فكان الله ملحوظًا من لفظ المفعول فكان إنكار اتّخاذ الله وليًّا لأنّ إنكار اتّخاذ غيره وليًّا مستلزمًا عدم إنكار اتّخاذ الله وليًّا، لأنّ إنكار اتّخاذ غير الله لا يبقى معه إلاّ اتّخاذ الله وليًّا؛ فكان هذا التركيب مستلزمًا معنى القصر وآئلًا إليه وليس هو بدالّ على القصر مطابقة، ولا مفيدًا لما يفيده القصر الإضافي من قلب اعتقاد أو إفراد أو تعيين، ألا ترى أنّه لو كان المفعول خلاف كلمة (غير) لما صحّ اعتبار القصر، كما لو قلت: أزيدًا أتتّخذ صديقًا، لم يكن مفيدًا إلاّ إنكار اتّخاذ زيد صديقًا من غير التفات إلى اتّخاذ غيره، وإنّما ذلك لأنّك تراه ليس أهلًا للصداقة فلا فرق بينه وبين قولك: أتتّخذ زيدًا صديقًا، إلاّ أنّك أردت توجّه الإنكار للمتّخذ لا للاتّخاذ اهتمامًا به.
والفرق بينهما دقيق فأجد فيه نظرك.
ثم إن كان المشركون قد سألوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يتّخذ أصنامهم أولياء كان لتقديم المفعول نكتة اهتمام ثانية وهي كونه جوابًا لكلام هو المقصود منه كما في قوله: {أفغير الله تَأمُرُونيَ أعْبُدُ أيّها الجاهلون} [الزمر: 64] وقوله: {قالوا يا موسى اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة} إلى قوله: {قال أغير الله أبغيكم إلهًا} [الأعراف: 12].
وأشار صاحب الكشاف في قوله: {أغير الله أبغي ربًّا} الآتي في آخر السورة إلى أنّ تقديم {غير الله} على {أبغي} لكونه جوابًا عن ندائهم له إلى عبادة آلهتهم.
قال الطيبي: لأنّ كل تقديم إمّا للاهتمام أو لجواب إنكار.
والوليّ: الناصر المدبّر، ففيه معنى العلم والقدرة.
يقال: تولّى فلانًا، أي اتّخذه ناصرًا.
وسمّي الحليف وليًّا لأنّ المقصود من الحلف النصرة.
ولمّا كان الإله هو الذي يرجع إليه عابده سمّي وليًّا لذلك.
ومن أسمائه تعالى الولي.
والفاطر: المبدع والخالقُ.
وأصله من الفطر وهو الشقّ.
وعن ابن عباس: ما عرفت معنى الفاطر حتى اختصم إليّ أعرابيات في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتُها.
وإجراء هذا الوصف على اسم الجلالة دون وصف آخر استدلال على عدم جدارة غيره لأن يتّخذ وليًّا، فهو ناظر إلى قوله: في أول السورة {الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربّهم يعدلون} [الأنعام: 1].
وليس يغني عنه قوله قبله {قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله} [الأنعام: 12] لأنّ ذلك استدلال عليهم بالعبودية لله وهذا استدلال بالافتقار إلى الله في أسبَاب بقائهم إلى أجل. اهـ.

.قال الفخر:

{وهو يطعم ولا يطعم} أي وهو الرازق لغيره ولا يرزقه أحد.
فإن قيل: كيف فسرت الإطعام بالرزق؟ وقد قال تعالى: {ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون} [الذاريات: 57] والعطف يوجب المغايرة.
قلنا لا شك في حصول المغايرة بينهما، إلا أنه قد يحسن جعل أحدهما كناية عن الآخر لشدة ما بينهما من المقاربة والمقصود من الآية: أن المنافع كلها من عنده، ولا يجوز عليه الانتفاع.
وقرئ {ولا يطعم} بفتح الياء، وروى ابن المأمون عن يعقوب {وهو يطعم ولا يطعم} على بناء الأول للمفعول والثاني للفاعل، وعلى هذا التقدير: فالضمير عائد إلى المذكور في قوله: {أغير الله} وقرأ الأشهب {وهو يطعم ولا يطعم} على بنائهما للفاعل.
وفسر بأن معناه: وهو يطعم ولا يستطعم.
وحكى الأزهري: أطعمت بمعنى استطعمت.
ويجوز أن يكون المعنى: وهو يطعم تارة لا يطعم أخرى على حسب المصالح كقوله: وهو يعطي ويمنع، ويبسط ويقدر، ويغني ويفقر.
واعلم أن المذكور في صدر الآية هو المنع من اتخاذ غير الله تعالى وليًا.
واحتج عليه بأنه فاطر السماوات والأرض وبأنه يطعم ولا يطعم.
ومتى كان الأمر كذلك امتنع اتخاذ غيره وليًا.
أما بيان أنه فاطر السماوات والأرض، فلأنا بينا أن ما سوى الواحد ممكن لذاته، والممكن لذاته لا يقع موجودًا إلا بإيجاد غيره، فنتج أن ما سوى الله فهو حاصل بإيجاده وتكوينه.
فثبت أنه سبحانه هو الفاطر لكل ما سواه من الموجودات.
وأما بيان أنه يطعم ولا يطعم فظاهره لأن الإطعام عبارة عن إيصال المنافع، وعدم الاستطعام عبارة عن عدم الانتفاع.
ولما كان هو المبديء تعالى وتقدس لكل ما سواه، كان لا محالة هو المبديء لحصول جميع المنافع.
ولما كان واجبًا لذاته كان لا محالة غنيًا ومتعاليًا عن الانتفاع بشيء آخر فثبت بالبرهان صحة أنه تعالى فاطر السماوات والأرض، وصحة أنه يطعم ولا يطعم، وإذا ثبت هذا امتنع في العقل اتخاذ غيره وليًا لأن ما سواه محتاج في ذاته وفي جميع صفاته وفي جميع ما تحت يده.
والحق سبحانه هو الغني لذاته الجواد لذاته، وترك الغني الجواد، والذهاب إلى الفقير المحتاج ممنوع عنه في صريح العقل.
وإذا عرفت هذا فنقول: قد سبق في هذا الكتاب بيان أن الولي معناه الأصلي في اللغة: هو القريب.
وقد ذكرنا وجوه الاشتقاقات فيه.
فقوله: {قل أغير الله أتخذ وليًا} يمنع من القرب من غير الله تعالى.
فهذا يقتضي تنزيه القلب عن الالتفات إلى غير الله تعالى، وقطع العلائق عن كل ما سوى الله تعالى. اهـ.

.قال الثعلبي:

{وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ} أي وهو يرزق ولا يرزق وإليه قوله عز وجل: {مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 57].
وقرأ عكرمة والأعمش: ولا يَطعم بفتح الياء أي وهو يرزق ولا يأكل.
وقرأ أشهب العقيلي: وهو يُطعِم ولا يُطعَم كلاهما بضم الياء، وكسر العين.
قال الحسن بن الفضل: معناه هو القادر على الإطعام وترك الإطعام كقوله: {يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقَدِرُ} [الرعد: 26].
وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا منصور الأزهري بهراة يقول: معناه وهو يطعم ولا يستطعم، يقول العرب: أطعمت غيري بمعنى استطعمت.
وأنشد:
إنّا لنطعم من في الصيف مطعمًا ** وفي الشتاء إذا لم يؤنس القرع

أي استطعمنا وقيل: معناه وهو يطعم يعني اللّه ولا يطعم يعني الولي. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وهو يطعم ولا يطعم} أي يرزق ولا يرزق كقوله: {ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون} والمعنى أن المنافع كلها من عند الله، وخص الإطعام من بين أنواع الانتفاعات لمس الحاجة إليه كما خص الربا بالأكل وإن كان المقصود الانتفاع بالربا.
وقرأ مجاهد وابن جبير والأعمش وأبو حيوة وعمرو بن عبيد وأبو عمرو وفي رواية عنه {ولا يطعم} بفتح الياء والمعنى أنه تعالى منزه عن الأكل ولا يشبه المخلوقين.
وقرأ يمان العماني وابن أبي عبلة {ولا يطعم} بضم الياء وكسر العين مثل الأول فالضمير في {وهو يطعم} عائد على الله وفي {ولا يطعم} عائد على الولي.
وروى ابن المأمون عن يعقوب {وهو يطعم ولا يطعم} على بناء الأول للمفعول والثاني للفاعل والضمير لغير الله، وقرأ الأشهب: {وهو يطعم ولا يطعم} على بنائهما للفاعل وفسر بأن معناه وهو يطعم ولا يستطعم، وحكى الأزهري أطعمت بمعنى استطعمت.
قال الزمخشري: ويجوز أن يكون المعنى وهو يطعم تارة ولا يطعم أخرى على حسب المصالح، كقولك هو يعطي ويمنع ويبسط ويقدر ويغني ويفقر، وفي قراءة من قرأ باختلاف الفعلين تجنيس التشكيل وهو أن يكون الشكل فرقًا بين الكلمتين وسماه أسامة بن منقذ في بديعته تجنيس التحريف، وهو بتجنيس التشكيل أولى. اهـ.

.قال القرطبي:

{وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ} كذا قراءة العامة، أي يَرزُق ولا يُرزَق؛ دليله قوله تعالى: {مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 57].
وقرأ سعيد بن جُبَير ومجاهد والأعمش: وهو يُطْعِمُ وَلاَ يَطْعَمُ، وهي قراءة حسنة؛ أي أنه يرزق عباده، وهو سبحانه غير محتاج إلى ما يحتاج إليه المخلوقون من الغذاء.
وقرئ بضم الياء وكسر العين في الفِعلين، أي إن الله يُطعِم عباده ويرزقهم والوليّ لا يُطعِم نفسه ولا من يتخذه.
وقرئ بفتح الياء والعين في الأوّل أي الوليّ {وَلاَ يُطْعِمُ} بضم الياء وكسر العين.
وخص الإطعام بالذكر دون غيره من ضروب الإنعام؛ لأن الحاجة إليه أمسُّ لجميع الأنام. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ} أي يرزق ولا يرزق كما أخرجه ابن جرير وغيره عن السدي، فالمراد من الطعم الرزق بمعناه اللغوي وهو كل ما ينتفع به بدليل وقوعه مقابلًا له في قوله تعالى: {مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 57] وعبر بالخاص عن العام مجازًا لأنه أعظمه وأكثره لشدة الحاجة إليه، ويحتمل أنه اكتفى بذكره عن ذكره لأنه يعلم من ذلك نفي ما سواه فهو حقيقة، والجملة في محل نصب على الحالية، وعن أبي عمرو والأعمش وعكرمة أنهم قرأوا {وَلاَ يُطْعَمُ} بفتح الياء والعين أي ولا يأكل والضمير لله تعالى، ومثله قراءة أبي عبلة بفتح الياء وكسر العين، وقرأ يعقوب بعكس القراءة الأولى أعني بناء الأول للمفعول والثاني للفاعل، والضمير حينئذٍ في الفعلين لغير الله تعالى أي أتخذ من هو مرزوق غير رازق وليًا، والكلام وإن كان مع عبدة الأصنام إلا أنه نظر إلى عموم غير الله تعالى وتغليب أولي العقول كعيسى عليه الصلاة والسلام لأن فيه إنكار أن يصلح الأصنام للألوهية من طريق الأولى، وقد يقال: الكلام كناية عن كونه مخلوقًا غير خالق كقوله تعالى: {لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [النحل: 20 والفرقان: 3] ويحمل الفعل على معنى النفع لا يرد شيء رأسًا، وقرأ الأشهب {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ} ببنائهما للفاعل، ووجهت إما بأن أفعل بمعنى استفعل كما ذكره الأزهري أي وهو يطعم ولا يستطعم أي لا يطلب طعامًا ويأخذه من غيره أو بأن المعنى يطعم تارة ولا يطعم أخرى كقوله سبحانه وتعالى: {يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} [البقرة: 245] والضميران لله تعالى، ورجوع الضمير الثاني لغير الله تعالى تكلف يحتاج إلى التقدير. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {وهو يُطعم} جملة في موضع الحال، أي يُعطي الناس ما يأكلونه ممّا أخرج لهم من الأرض: من حبوب وثمار وكلأ وصيد.
وهذا استدلال على المشركين بما هو مسلّم عندهم، لأنّهم يعترفون بأنّ الرازق هو الله وهو خالق المخلوقات وإنّما جعلوا الآلهة الأخرى شركاء في استحقاق العبادة.
وقد كثر الاحتجاج على المشركين في القرآن بمثل هذا كقوله تعالى: {أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون} [الواقعة: 63،] 64.
وأمّا قوله: {ولا يُطْعَمْ} بضم الياء وفتح العين فتكميل دالّ على الغنى المطلق كقوله تعالى: {وما أريد أن يطعِمونِ} [الذاريات: 57].
ولا أثر له في الاستدلال إذ ليس في آلهة العرب ما كانوا يطعمونه الطعام.
ويجوز أن يراد التعريض بهم فيما يقدّمونه إلى أصنامهم من القرابين وما يهرقون عليها من الدماء، إذ لا يخلو فعلهم من اعتقاد أنّ الأصنام تنعم بذلك. اهـ.