فصل: سبب تحريم الربا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.سبب تحريم الربا:

1- إنّه يقتضي أخذ مال الإنسان من غير عوض، وهو شنيع ممنوع، لأنّ المال شقيق الروح، فكما يحرم إزهاق الروح من غير حقّ، يحرم أخذ المال من غير حق.
2- إنّه يفضي إلى امتناع الناس عن تحمّل المشاقّ في الكسب والتجارة والصناعة، وهو يؤدي إلى أنقطاع مصالح الخلق.
3- إنّه يفضي إلى أنقطاع المعروف بين الناس من القرض الحسن، ويمكّن الغني من أخذ مال الفقير الضعيف من غير مقابل، وهو لا يجوز برحمة الرحيم.
ولا وجه للتمسك بما يقال: إن رأس المال لو بقي في يد صاحبه لاستفاد منه ربحا بسبب التجارة فيه، فما تركه في يد المدين لم يكن هناك بأس في أن يدفع إلى ربّ المال مالا زائدا عوضا عن انتفاعه بماله، لأنّه يمكن دفعه بأن الذي يذكرونه أمر موهوم، قد يحصل وقد لا يحصل، والمال الزائد ملك للفقير على وجه اليقين، فتفويت المتيقّن لأمر موهوم إضرار بالضعيف، وهو لا يجوز.
المعنى: الذين يأخذون الربا ويقتطعونه من أموال الناس بغير حق لا يقومون من القبور يوم القيامة إلا قياما كقيام الشخص الذي يضربه الشيطان على غير اعتدال، بسبب المسّ، أي الجنون الذي أصابه، وهذا التمثيل وارد على ما يزعم العرب من أنّ الشيطان يخبط الإنسان فيصرعه، ويمسّه يختلط عقله، وذلك السوء الذي يعتريهم عند قيامهم بسبب أنهم تعاملوا بالربا، وبالغوا في استباحته حتى قالوا: إنما البيع مثل الربا، قد اعتبروا الربا أصلا في الإباحة يقاس عليه البيع: فيجوز بيع درهم بدرهمين، كما يجوز بيع ما قيمته درهم بدر همين، مع وضوح الفرق بينهما، فإنّ أحد الدرهمين في الأول ضائع حتما، والثاني منجبر بالاحتياج إلى السلعة، أو يتوقّع رواجها.
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} لما في الأول من وجوه الجابر، وفي الثاني: من الإضرار المحتّم.
{فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} أي تذكرة يذكّره فيها بحكمه تعالى فاتعظ بلا تراخ، واتبع النهي الوارد، فله ما تعامل به فيما سلف، ولا يستردّ منه، وأمر جزائه موكول إلى اللّه.
{وَمَنْ عادَ} إلى استحلاله {فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ} ماكثون أبدا.
{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ} بالغ اللّه تعالى- في هذه الآية- في الزجر عن الربا، وكان قد بالغ في الآيات السابقة في الأمر بالصدقات، وكان النّاس يرون بحسب الظاهر أن الربا يوجب زيادة الخيرات، وأنّ الصدقات توجب نقصان الخيرات، فأراد سبحانه وتعالى أن يدفع هذه الشبهة، وبيّن أنه تعالى كفيل بعكس ذلك، وأنّ الربا وإن كان زيادة في المال ظاهرا، إلا أنه نقصان في الحقيقة، وأنّ الصدقات وإن كانت نقصانا في المال إلا أنها زيادة في المعنى، فاللائق بالمسلم أن يعوّل على ما ندبه إليه الشارع، فإنّه بذلك يضمن خيري الدنيا والآخرة، وهو المشار إليه بقوله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ}.
وإرباء الصدقات يكون في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فلما يأتي:
أولا: يزداد جاهه وذكره الجميل، وميل القلوب إليه، واطمئنان النفوس إليه، وفي ذلك من أسباب تيسير أموره ما يشهد به كلّ خبير.
ثانيا: إنّ محبة الناس له تجرّ إلى معاونته في كثير من معاملاته. وقضاء مصالحه، فتفتح له أبواب الخيرات، وتتسع أرزاقه.
ثالثا: من كان للّه كان اللّه له. وقد روي في الحديث الشريف: «أنّ ملكا ينادي كلّ يوم: اللّهم يسّر لكلّ منفق خلفا، ولممسك تلفا».
وأما في الآخرة فلما ورد: «إنّ اللّه، يقبل الصّدقة، ويأخذها بيمينه، فيربّيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره، حتّى إنّ اللقمة لتصير مثل أحد».
ولما ورد في القرآن الكريم {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ} [البقرة: 261]. ومحق الرّبا يكون في الدنيا والآخرة:
أما في الدنيا فلما يأتي:
أولا: لأنّ الغالب في المرابي وإن كثر ماله أن تؤول عاقبته في الفقر والدمار، كما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «الرّبا وإن كثر فإنّ عاقبته تصير إلى قلّ».
ثانيا: أن الذين تؤخذ أموالهم بسبب الربا يبغضون المرابي، ويقصدونه بالأذى عند غفلته، ويسلبون أمواله عند التمكن، وكل ذلك يؤدّي إلى المحق والدمار وإن طال الزمان.
ثالثا: أنه يحبب إليه التعامل بالمقامرات وأنواع المعاملات الخطرة، وفي الغالب يؤول أمره إلى المحق والدمار.
وأما الآخرة فلما يأتي:
أولا: لما روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال: معنى هذا المحق أنّ اللّه تعالى لا يقبل منه صدقة ولا جهادا ولا حجا ولا صلة رحم.
ثانيا: لأنّ مال الدنيا لا يبقى عند الموت، وتبقى التبعات والعقوبات، وهذه هي الخسارة الكبرى.
{وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ} أي لا يرضى عن كلّ من يصرّ على تحليل- أي ارتكاب- المحرمات {أَثِيمٍ} منهمك في ارتكاب المعاصي التي توجب الإثم. فالآية في المسلمين الذين يرتكبون المعاصي وهاهنا أمور:
الأول: التخبط- مصدر يتخبط بوزن تفعّل- غير متعد، ولكنّه عداه هنا نظرا لأنّ تفعّل يأتي كثيرا بمعنى فعل، نحو تقسّم المال: أي قسمه.
الثاني: قوله: {مِنَ الْمَسِّ} يصح تعلّقه بقوله: {يَقُومُونَ} أو بقوله: {يَقُومُ} وهو علة لما تعلق.
الثالث: هذه الآية ظاهرة في أنّ الشيطان يتخبط الإنسان ويضربه ويمسّه ويصرعه، وبذلك قال أهل السنة، وهو مبنيّ على أنه لا يوجد مانع من القول بأن الشيطان جسم كثيف.
وقيل: إن الشيطان ضعيف لا قدرة له على الضرب والصرع والأعمال الشاقة، لأنه جسم لطيف كالهواء، ليس فيه صلابة ولا قوة، فيمتنع أن يكون قادرا على أن يضرب الإنسان ويصرعه، ولأن القرآن الكريم يدل على أنه ليس للشيطان قدرة على الصّرع والقتل والإيذاء، حيث يقول حكاية عن الشيطان: {وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم: 22] فأفسد أحوالهم، وأفشى أسرارهم وأزال عقولهم، وكل ذلك باطل.
وأما ما ورد في القرآن الكريم: من أنهم كانوا يعملون لسليمان بن داود عليهما السلام ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات، فإنما كان بإقدار من اللّه على هذه الأفعال معجزة لسليمان عليه السلام.
وتأوّل أصحاب هذا القول التخبط والمسّ في هذه الآية بوسوسة الشيطان المؤذية التي يحدث عندها الصرع.
وإنما تحدث الوسوسة الصرع بسبب ضعف الطباع وغلبة السوداء على الإنسان، فيعتريه من الخوف والذّعر عند الوسوسة ما يصرعه، كما يصرع الجبان في الموضع الخالي بسبب وسوسته، ولهذا يوجد هذا المعنى فيمن به نقص في المزاج، وخلل في الدماغ، ولا يوجد عند أهل الكمال والفضل والحزم والعقل. ويستأنس لذلك بما يظهر من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)} [الأعراف: 201] فأهل التقوى والقلوب المطمئنة إذا وسوس لهم الشيطان تذكّروا أوامره ونواهيه، فتستنير قلوبهم، وتندفع عنهم الوساوس الشيطانية، ولم يكن للشيطان عليهم سلطان.
وأما الضعفاء: أهل القلوب التي لم تكن مطمئنة، فيدعوهم الشيطان إلى طلب اللذات والشهوات، وللاشتغال بغير اللّه تعالى تارة، ويدعوهم باعث الحق والدين إلى الدين والعمل الصالح تارة أخرى فتحدث عندهم حركات مضطربة، وأفعال مختلفة، وهذا بعينه هو الخبط الحاصل بفعل الشيطان.
فآكل الربا لا شك أنه متهالك على حب الدنيا ولذاتها وشهواتها، فإذا مات على ذلك، وجاء يوم البعث خرج الناس من الأجداث سراعا إلا أكلة الربا، فإنهم يتخبّطون، يقومون ويسقطون، كالذي يتخبطه الشيطان من أجل المسّ.
الأحكام:
يؤخذ من الآية ما يأتي:
أولا: حرمة الرّبا الذي كان معروفا بين العرب في الجاهلية، وهو ربا النسيئة.
ثانيا: حرمة ربا الفضل، كأن يبيع منّا من الحنطة بمنوين منها.
ثالثا: حرمة الصلح على خمسمائة حالّة مثلا مع من عليه ألف مؤجلة، فإنّ هذا في معنى ربا الجاهلية الذي كان قرضا مؤجلا بزيادة مشروطة، فكانت الزيادة بدلا من الأجل، فأبطله اللّه بتحريم الربا.
وفي مسألة الصلح على قرض مؤجّل صالحه ربّ المال على بعض منه معجّل، فالدائن قد انتفع بباقي الدين مقابل إسقاط الأجل، والمدين قد انتفع بفضل من المال دون عوض مالي، وجزئيات الربا كثيرة، يعلم حكمها من انطباق ضابطه عليها.
قال اللّه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)}.
سنة اللّه في كتابه الكريم أنّه مهما ذكر وعيدا ذكر بعده وعدا، فلما بالغ هاهنا في وعيد المرابي أتبعه بهذا الوعد فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا أي صدّقوا باللّه ورسوله، وبما جاءهم به وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ حال كونه عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من مكروه يصيبهم وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ من أجل محبوب يفوتهم.
وإنما خصّ الصلاة والزكاة بالذكر مع اندراجهما في الصالحات، للإشعار بأنّ لهما من المنزلة في الإسلام ما ليس لغيرهما، ولذلك ورد ذكرهما في القرآن مرّات عديدة كما جاءت الآثار بفضلهما، وتفوقهما على غيرهما.
قال اللّه تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281)}.
يبين اللّه تعالى في الآية السابقة أن من انتهى عن الربا فله ما سلف، فربما يظنّ أنّه لا فرق بين المقبوض منه، وبين الباقي في ذمة القوم، فقال اللّه تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} أي اتخذوا وقاية من عذاب بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا أي ما كان لكم في ذمة القوم من الزيادة المحرمة إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي متّصفين بالإيمان الذي الشأن فيمن اتّصف به الانقياد والاستسلام. أي إن كنتم عاملين بمقتضى إيمانكم.
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ما أمرتكم به من الاتقاء، وترك ما بقي من الربا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أي عقاب شديد من نوع الحروب، فإنّ الإصرار على عمل الربا إن كان من شخص يقدر الإمام عليه قبض عليه وأجري عليه حكم اللّه: من التعزير والحبس، إلى أن تظهر منه التوبة.
وإن كان له عسكر وشوكة حاربه الإمام كما يحارب الفئة الباغية، وكما حارب أبو بكر رضي اللّه عنه مانعي الزكاة، ولا عجب في ذلك، فإنّ الفقهاء نصوا على أنه لو اجتمع أهل بلد على ترك الأذان أو ترك دفن الموتى: فإنه يحاربهم الإمام. وقد روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال: من عامل بالربا يستتاب. فإن تاب وإلا ضربت عنقه.
قيل: التعبير بالحرب للتهديد والتخويف بعقابه الشديد، فإنّه قد عهد التعبير بالحرب في معنى العقاب الشديد، كما ورد «من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة».
وقوله: {فَأْذَنُوا} فاعلموا وأيقنوا بحرب: من أذن يأذن. من باب طرب.
{وَإِنْ تُبْتُمْ} أي: امتثلتم أمر اللّه تعالى فليس لكم إلا رؤوس أموالكم لا تَظْلِمُونَ المحتاجين بأخذ أموالهم من غير عوض {وَلا تُظْلَمُونَ} أنتم بضياع رؤوس أموالكم.
قيل: نزلت هذه الآية في أربعة إخوة من ثقيف: مسعود، وعبد ياليل، وحبيب، وربيعة: بنو عمرو بن عمير الثقفي، كانوا يداينون بني المغيرة، فلما ظهر النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أسلم الأخوة، ثم طالبوا برباهم بني المغيرة، فنزلت.
وإن وجد شخص ذو عسرة فعاملوه بالحسنى والرحمة، وأنظروه إلى ميسرة، أو {وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ} غريما لكم {فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ}.
فإنه عليه الصلاة والسلام يقول: «ولا يحلّ لكم دين رجل مسلم فيؤخّره إلا كان بكلّ يوم صدقة».
فلفظ كانَ في الآية يحتمل أن تكون تامة، ويحتمل أن تكون ناقصة.
والعسرة: اسم من الإعسار، وهي الحالة التي يتعسّر فيها وجود المال.
والنظرة: اسم للتأخير والتأجيل.
والميسرة: مصدر بمعنى اليسر وهو الغنى.
وقرأ نافع بضم السين، والباقون بفتحها.
{وَأَنْ تَصَدَّقُوا} على الغرماء المعسرين بالإبراء فهو {خَيْرٌ لَكُمْ} من الإنظار، وأكثر ثوابا، أو هو {خَيْرٌ لَكُمْ} مما تأخذونه {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} فضل التصدّق على الإنظار أو الأخذ.
قالوا: سبب نزول هذه الآية أن الأخوة الثقفيين طالبوا بني المغيرة برؤوس أموالهم، فشكوا إليهم العسرة، وقالوا: أخرونا إلى أن تدرك الغلات، فأبوا تأخيرهم، فنزلت هذه الآية.
ويؤخذ من الآية أن رب المال متى علم أنّ غريمة معسر وجب عليه إنظاره، وإذا لا حظنا أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب: نعلم أن الإنظار واجب عند العسر في كل دين، لا في خصوص دين الربا.
وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ لما كان الذين يعاملون بالربا من العظماء أصحاب الثروة والجلال والأنصار والأعوان: كانت الحالة داعية إلى مزيد من الزجر والوعيد، حتى يمتنعوا عن الربا وأخذ أموال الناس بالباطل. ولهذا توعّدهم اللّه وهدّدهم بهذه الآية أيضا فقال: وَاتَّقُوا يَوْمًا أي تشتدّ فيه الأهوال، وتعظم الخطوب، حتى ورد أنه يجعل الولدان شيبا، ولهول ما يقع فيه أمر اللّه باتّقاء نفس اليوم، للمبالغة في التحذير عما فيه.
وقال: {تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} أي لتوقيع الجزاء: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 7، 8] كما قال: {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ} أي جزاء ما عملت من خير أو شر {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} في هذه العقوبات، لأنّها مناسبة لأسبابها الواقعة منهم. وهاهنا أمور:
الأول:
نقل عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنّ قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} آخر آية نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، لأنه لما حجّ نزلت {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء: 176] ثم نزلت وهو واقف بعرفة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] ثم نزل: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ}.
فقال جبريل عليه السلام: «يا محمد ضعها على رأس ثمانين آية ومائتي آية من البقرة».
والثاني: قرأ أبو عمرو تُرْجَعُونَ بفتح التاء، والباقون بضمها، فبالفتح من رجع رجوعا، وهو لازم. وبالضم من رجعه إليه رجعا، وهو متعد، يصحّ بناؤه للمفعول.
الثالث: معنى رجوعهم إلى اللّه أنهم يرجعون إلى ما أعدّ لهم من ثواب أو عقاب وقيل: معناه أنهم يكونون في يوم البعث بحالة لا يتصرّف فيهم ظاهرا وباطنا إلّا اللّه تعالى، بخلاف حالتهم في الدنيا، فإنه يتصرف بعضهم في بعض بحسب الظّاهر.
قال اللّه تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [الآية 282].
قال اللّه تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)}.
التداين: تفاعل، مأخوذ من الدّين، وهو: التبايع بالدين.
{وَلْيُمْلِلِ} أي يملي، يقال أملّ إملالا إذا كان أملى إملاء.
مناسبة هذه الآية: إنّ الآيات السابقة بيّن اللّه فيها حكم التعامل بالربا، وشدّد في منعه، فأراد هنا أن يبيّن حالة المداينة الواقعة في المعاوضات الجارية فيما بينهم ببيع السلع بالدين المؤجل بطريقة تحفظ الأموال، وتصونها عن الضياع.
ويمكن أن يقال في المناسبة: إنّه لما بيّن فيما سبق أنّ الإنفاق في سبيل اللّه مطلوب، وهو يوجب نقص المال، وإن الربا محرّم، وهو يوجب نقص المال أيضا، أراد هنا أن يبيّن كيفية حفظ المال الحلال، وطريق صونه عن الضياع فقال: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ} تبايعتم وتعاملتم نسيئة بِدَيْنٍ بما يصحّ فيه الأجل، كبيع سلعة حاضرة بنقود مؤجلة، أو بسلعة أخرى مؤجلة، وكبيع سلعة مؤجلة أي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى مع معرفة الجنس والنوع والقدر بثمن حالّ، وهو السلم، أي إذا تعاملتم ببدل مؤجل {فَاكْتُبُوهُ} فاكتبوا ما يدلّ على هذا التعامل، مع بيان الأجل بالأيام أو الأشهر أو غيرهما، بطريقة ترفع الجهالة، لا بمثل الحصاد والدياس مما لا يرفعها، لأنّ الكتابة أوثق في ضبط الواقع، وأرفع للنزاع.
ثم أراد أن يبيّن كيفية الكتابة، ويعيّن من يتولاها فقال: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ} أي مأمون يكتب بِالْعَدْلِ: وهذا أمر للمتداينين باختيار كاتب فقيه متديّن يقظ، ليكتب بالحق، ويتحاشى الألفاظ المحتملة للمعاني الكثيرة والألفاظ المشتركة، ويوضّح المعاني، ويتجنّب خلاف الفقهاء.
ثم أوصى الكاتب، ونهاه عن الإباء. فقال: {وَلا يَأْبَ كاتِبٌ} أي لا يمتنع أحد من الكتاب عن {أَنْ يَكْتُبَ} وثيقة الدين كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ على الطريقة التي علّمه اللّه في كتابة الوثائق، أي يكتب كتابة كالتي علمه اللّه، فالكاف صفة لموصوف محذوف.
أو المعنى: ولا يأب كاتب أن ينفع النّاس بكتابته، كما نفعه اللّه بتعلّم الكتابة، كما في قوله تعالى: {وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77].
ثم قال: {فَلْيَكْتُبْ} أي تلك الكتابة المعلّمة، فهو توكيد للأمر المستفاد من قوله: {وَلا يَأْبَ كاتِبٌ} إلخ. ويجوز أن يكون توكيدا للأمر الصريح في قوله: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ} إلخ.
ثم أرشد اللّه تعالى إلى أن الذي يملي على الكاتب هو المدين، فإنّه المكلّف بأداء مضمون الكتابة، فاللازم أن تكون الكتابة كما يراه ويعلمه، ثم أوصاه بتقوى اللّه، وبألا ينقص من الحق الذي عليه شيئا حيث قال: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ} أي لا ينقص {مِنْهُ شَيْئًا}.
ثم بيّن أنه {فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا} أي ناقص العقل، مبذرا في ماله، {أَوْ ضَعِيفًا} بأن يكون صبيا أو مجنونا، أو شيخا كبيرا لا تساعده قواه العقلية على ضبط الأمور {أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ} أي يملي بنفسه، بأن كان أخرسا، أو جاهلا أو مصابا بالعمى {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ} القيم عليه، أو وكيله {بِالْعَدْلِ} أي من غير زيادة ولا نقص.
وعبر هنا بصيغة العدل الشاملة لترك الزيادة والنقص، لأنّ المملي هنا يتصوّر منه الزيادة والنقص بمحاباة هذا أو هذا، بخلاف ما إذا كان المملي المدين، فإنّ المتصوّر منه النقص فقط.
ثم أرشد اللّه تعالى المتداينين إلى أمر آخر مفيد في ضبط الوقائع، وحفظ الأموال فقال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ} أي اطلبوا شهيدين ليحملا الشهادة، ويحفظا الواقع.
وقوله: {مِنْ رِجالِكُمْ} متعلق باستشهدوا، و{من} ابتدائية، أو متعلّق بمحذوف صفة لشهيدين، و{من} تبعيضية: أي من رجالكم المسلمين الأحرار، فإنّ الكلام في معاملاتهم.
{فَإِنْ لَمْ يَكُونا} الشهيدان {رَجُلَيْنِ} فليشهد رجل وامرأتان، أو {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ} يكفون في الشهادة.
وشهادة النساء مع الرجال تجوز عند الحنفية في الأموال والطلاق والنكاح والرجعة والعتق، وكل شيء إلا الحدود والقصاص.
وعند المالكية تجوز في الأموال وتوابعها خاصة، ولا تقبل في أحكام الأبدان مثل الحدود، والقصاص والنكاح والطلاق، والرجعة، والعتق. مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ.
الجار الأول، متعلق بمحذوف صفة لرجل وامرأتان: أي كائنون مرضيين عندكم بعدالتهم، وهذا الوصف وإن كان في جميع الشهود، لكنه ذكره هنا للتشدد في اعتباره، لأنّ اتصاف النساء به قليل.
والجار الثاني متعلق بمحذوف حال من الضمير المفعول المقدّر في ترضون، العائد إلى الموصول: أي ممن ترضونهم حال كونهم من بعض الشهداء، لعلمكم بعد التّهم، وثقتكم بهم، وإدراج النساء في الشهداء للتغليب.
وتدل الآية على أن الشهادة نوعان: شهادة رجلين، وشهادة رجل وامرأتين، ولا ثالث لهما، ولهذا قال الحنفية: الشهادة قسمان فقط كما ذكرها اللّه في هذه الآية، ولم يذكر الشاهد واليمين فلا يجوز القضاء عندهم بالشاهد واليمين، لأنه حينئذ يكون قسما ثالثا للشهادة، مع أن اللّه لم يذكر لها إلا قسمين.
وقال المالكية والشافعية: يجوز القضاء بشاهد ويمين، لا باعتبار أن هذا قسم ثالث للشهادة، وإنما هو باعتبار أن القضاء باليمين وإسقاط الشاهد ترجيح لجانب المدّعي، وأما عدم ذكر ذلك في القرآن فلا يمنع مشروعيته والعمل به. يدل على ذلك أن القضاء عند الحنفية يجوز بالنكول، وهو قسم ثالث، ليس له في القرآن ذكر.
والضمير في قوله: {مِنْ رِجالِكُمْ} يعود إلى المخاطبين المسلمين، وهو دليل على أنه لابد من إسلام الشهود، وهو مذهب مالك والشافعي، وأحمد وأجاز الحنفية قبول شهادة الكفار بعضهم على بعض. لما روي أنه عليه الصلاة والسلام رجم يهوديين بشهادة اليهود عليهما بالزنى.
ثم أراد تعليل اعتبار العدد في النساء فقال: {أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى} أي إنما اعتبر التعدّد في شهادة النساء لما عسى أن تضلّ إحداهما، فتذكر إحداهما الأخرى. والعلّة في الحقيقة هي التذكير، ولكن الضلال لما كان سببا في التذكير، وكان الشأن في النساء الغفلة والنسيان، نزّل منزلة العلة، كما في قولهم:
أعددت السلاح أن يجيء عدو فأدفعه، فإن العلّة هي الدفاع، ولما كان مجيء العدو سببا فيه نزّل منزلته، فهو علة حذف منها لام التعليل.
ويصح أن يكون مفعولا لأجله. أي إرادة أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إلخ.
ويقال في العلة الحقيقية هنا ما قيل في الوجه الأول، والضلال بمعنى النسيان.
وقرأ حمزة: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى بكسر أَنْ وجعلها شرطية مع رفع فتذكر، وتَضِلَّ فعل الشرط.
وقوله: {فَتُذَكِّرَ} مرفوع بالضمة، والجملة في محل جزم جواب الشرط.
ثم أوصى الشهود، ونهاهم عن الإباء عن الشهادة، كما نهى الكاتب عن الامتناع عن الكتابة فقال: {وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ} إِذا ما دُعُوا لأداء الشهادة، أو لتحمّلها، ورجّحوا الحمل هنا على التحمّل لأنه منهي عن كتمان الشهادة، أي بالامتناع عن الأداء بقوله: {وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} وما زائدة ثم عاد إلى أمر الكتابة فأكّد طلبها حيث قال: {وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ} أي لا تملّوا من كتابة الدّين، أو الحقّ مهما كثرت معاملاتكم، سواء كان الدين أو الحق صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا فلا تسأموا من كتابته إِلى أَجَلِهِ أي حال كون الدين أو الحق مستقرا في الذمة إلى أجله، أي إلى وقت حلول الأجل الذي أقرّ به المدين ذلِكُمْ الذي أمرتكم به من الكتابة، والإشهاد أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ أي أعدل في إصابة حكم اللّه تعالى، لأنّه متى كتب كان إلى اليقين أقرب، وعن الكذب أبعد، فكان أعدل عند اللّه.
والقسط: اسم، والإقساط مصدر، يقال: أقسط يقسط إقساطا إذا عدل، فهو مقسط، ومنه {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42].
وأما قسط فهو بمعنى جار كما قال تعالى: {أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)} [الجن: 15].
{ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ} أي أثبت لها، وأعون على إقامتها وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا أي أقرب إلى ارتفاع ريبكم في جنس الدّين ونوعه وقدره وأجله.
{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها} أي أنكم مأمورون بالكتابة إذا كان التعامل بالدين، لكن إن كانت معاملاتكم تِجارَةً حاضِرَةً بحضور البدلين، {تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ} أي تتعاملون بالبدلين يدا بيد فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ إثم في عدل الكتابة لبعده حينئذ عن التنازع.
{وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ} أي إذا كان التعامل يدا بيد فلا بأس من عدم الكتابة، ولكن ينبغي الإشهاد على هذا التعامل، فإنّ اليد الظاهرة ربما لا تكون محقّة، فالإشهاد أحوط.
{وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} أي لا يضارر- بالكسر- كاتب ولا شهيد بترك الإجابة، أو بالتغيير والتحريف في الكتابة والشهادة، أو لا يضار- بالفتح- كاتب إلخ.
أي لا يجوز للطالب أن يضارر- بالكسر- الكاتب والشهيد، بأن يقهرهما على الانحراف في الكتابة والشهادة، ويضغط عليهما للخروج عما حدّ لهما، {وَإِنْ تَفْعَلُوا} ما نهيتم عنه من الضرار، {فَإِنَّهُ} أي فعلكم هذا {فُسُوقٌ بِكُمْ} وخروج عن الطاعة، ملتبس بكم، أو وإن تفعلوا شيئا مما نهيتم عنه على الإطلاق فإنه فسوق إلخ.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ} فيما حذركم منه من الضرار، أو من ارتكاب شيء مما نهاكم عنه {وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} ما يصلح لكم أمر الدنيا، كما يعلّمكم ما يصلح أمر الدين {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} لا يخفى عليه حالكم الظاهر والباطن، فهو يجازيكم بذلك وكرر لفظ الجلالة في الجمل الثلاثة لتربية المهابة في نفس السامع، وللإشارة إلى استقلال كل منهما بما هو مقصود منه.
وهاهنا أمور:
الأول: ذهب قوم إلى أن الكتابة والشهادة على الديون المؤجّلة واجبان بقوله: {فَاكْتُبُوهُ} وقوله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ} ثم نسخ الوجوب بقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ} [البقرة: 283].
والجمهور على أن الكتابة والإشهاد مندوبان، وأنّ الأمر بهما للندب، فإنه لم ينقل عن الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار أنّهم كانوا يتشدّدون فيهما، بل كانت تقع المداينات والمبايعات بينهم من غير كتابة ولا إشهاد، ولم يقع نكير منهم، فدل ذلك على أنّ الأمر للندب، وهو مذهب الحنفية، والمالكية، والحنابلة.
وإنما ندب اللّه تعالى إلى الكتابة والإشهاد في الديون المؤجلة، لحفظ ما يقع بين المتعاقدين إلى حلول الأجل، لأن النسيان يقع كثيرا في المدة التي بين العقد وحلول الأجل، وكذلك قد تطرأ العوارض: من موت أو غيره، فشرع اللّه الكتابة والإشهاد لحفظ المال وضبط الواقع.
الثاني: قال أكثر المفسرين: إن المبيعات على أربعة أوجه:
أحدها: بيع العين بالعين: كبيع الكتاب الحاضر بالنقد الحاضر.
والثاني: بيع الدين بالدين: كبيع أردب من القمح مثلا واجب في ذمته لزيد بإردبين من الشعير واجبين على زيد هذا للبائع الأول، وهذا البيع باطل منهيّ عنه، وكلاهما غير داخل في الآية.
والثالث: هو بيع العين بالدين: كبيع كتاب حاضر بثمن مؤجّل.
والرابع: بيع الدين بالعين، وهو السلم، وكلاهما داخل في الآية.
الثالث: قوله تعالى: {فَاكْتُبُوهُ} ليس المراد أن يكتبه المتعاقدان بأيديهما. وإنما المراد توصلوا إلى كتابة ما وقع، كما يدل عليه قوله: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ}.
وقد اختلفوا في كتابة الكاتب، فقيل: إنها فرض كفاية، وقيل: فرض عين على الكاتب متى طلب منه، وكان في حال فراغه: وقيل: إنه ندب. والصحيح أنه أمر إرشاد، فيجوز له أن يتخلّف عن الكتابة حتى يأخذ أجره.
والاستثناء في قوله: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً} منقطع: كما يدل عليه التقرير المتقدم، ويجوز أن يكون متصلا إن جعل استثناء من قوله: {إِذا تَدايَنْتُمْ} إلى قوله: {فَاكْتُبُوهُ} أي إلا أن تكون تجارة حاضرة، أي الأجل فيها قصير، لا بمعنى حضور البدلين.
أو جعل استثناء من قوله: {وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ} إلخ أي إلا أن تكون تجارة حاضرة، أي الأجل فيها قصير.
قال اللّه تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِبًا فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)}.
الآية المتقدمة ترشد إلى الاحتياط في المبايعات الواقعة بالديون المؤجلة بكتابتها والإشهاد عليها، والتمكّن من ذلك في الغالب يكون في الحضر.
أما في السفر فالغالب عدم التمكن من ذلك، فأرشد إلى الاحتياط في حالة السفر بالرهان، التي يستوثق بها في الحصول على المؤجل فقال: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ أي مسافرين، ولم تجدوا كاتبا يكتب الدين، فالذي يستوثق به رهان مقبوضة، وتعليق الرهان على السفر ليس لكون السفر شرطا في صحة الرهان، فإنّ التعامل بالرهان مشروع حضرا وسفرا، كما ورد أنه عليه الصلاة والسلام رهن درعه في المدينة من يهودي بثلاثين صاعا من شعير أخذه لأهله.
وإنما علّق هنا على السفر لإقامة التوثق بالرهان مقام التوثق بالكتابة في السفر الذي هو مظنّة تعسّرها.
ووصف الرهن بكونه مقبوضا ظاهر في أنه ما لم يقبض لا يظهر وجه للتوثّق به، وكونه مقبوضا يستلزم كونه معينا مفرزا، ولهذا قال الحنفية: لا يجوز رهن المشاع بناء على هذا.
وقال المالكية: الرهن كالبيع، وبيع المشاع جائز، فرهن المشاع جائز أيضا، وقد اختلف الأئمة في أن القبض شرط لصحة الرهن أم لتمامه، فقال الحنفية والشافعية: إنه شرط صحة، تمسّكا بقوله تعالى: {فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ} وبما يظهر من مشروعية الرهن للتوثق، ولا توثق إلا بالقبض.
وقال المالكية والحنابلة: إنه شرط تمام، بمعنى أنّ الرهن يلزم بمجرّد العقد، ويجبر الراهن على الإقباض، ومتى قبض تمّ وكمل قياسا على سائر العقود، فإنها تلزم بمجرّد العقد. والرهان جمع رهن: بمعنى المرهون. وقرئ: {فَرِهانٌ} بضمتين، وهو جمع رهن أيضا.
{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} أي إن أمن بعض الدائنين بعض المدينين فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ في رعاية حقوق الأمانة فلا يجحدها، ولا يتأخر عن دفعها. فحيث إن الدائن عوّل على أمانته، ولم يطالبه بوثيقة ولا برهان، ينبغي للمدين أن يعامله بالحسنى.
وبَعْضًا مفعول لأمن، يقال: أمن فلان غيره إذا لم يخف خيانته. وعبّر بالذي أؤتمن بدل التعبير بالمدين للحث على الأداء، فإنّ التعبير عنه بهذه الصيغة مما يورطه ويدفعه إلى حسن الأداء وجميل المعاملة، وجمع بين الألوهية وصفة الربوبية في قوله: {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} للمبالغة في التحذير من الخيانة التي تغضب إلهه المعبود بحق، وربّه الذي يربيه، ويلي شئونه، ويدير مصالحه.
فاللّه تعالى جعل في هذه الآيات المبايعات على ثلاثة أقسام: بيع بكتابة وشهود، وبيع برهان مقبوضة، وبيع بالأمانة، فلما أمر في الآية الأولى بالكتابة والإشهاد، أشار في الآية الثانية إلى أنه ربما يتعذّر أمر الكتابة والإشهاد في حالة السفر، فذكر نوعا آخر من الاستيثاق: وهو الرهن الذي هو أبلغ في الاحتياط من الكتابة والإشهاد، وأوصي في النوع الثالث بما يليق به ثم قال: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ بعض المفسرين يرى أن هذه الجملة كالتأكيد لقوله: {وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا} مع ما فيها من زيادة تزعج الشاهد، وتحمله على أداء الشهادة وهي قوله: {وَمَنْ يَكْتُمْها}. إلخ.
وأسند الإثم إلى القلب، لأن الكتمان مما اقترفه، كما يسند الزنى إلى العين والأذن بمثل هذا الاعتبار.
وبعض آخر من المفسرين يصحّح ارتباط هذه الجملة بقوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} على معنى أنه إذا أمن الدائن المدين، ولم يكتب، ولم يشهد، ولم يأخذ رهنا لحسن ظنه به، كان من الجائز أن يجحد المدين، وأن يخلف ظنّ الدائن، وكان من الجائز الذي يقع كثيرا أن يطّلع بعض الناس على هذه المعاملة. فهنا ندب اللّه تعالى من يطّلع على هذه المعاملة ليشهد للدائن بحقه، وحذّره من كتمان الشهادة، سواء أعرف صاحب الحق تلك الشهادة أم لم يعرف، وشدّد فيه بأن جعله آثم القلب إن كتمها، ويدل لصحة هذا المعنى ما روي عنه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال: «خير الشّهود من شهد قبل أن يستشهد».
و{آثِمٌ} خبر إنّ، و{قَلْبُهُ} مرفوع به، ويجوز أن يكون قلبه مبتدأ، و{آثِمٌ} خبرا مقدما، والجملة خبر إنّ {وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} فيجازيكم به إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فاحذروا من الإقدام على هذا الكتمان، وامتثلوا ما أمركم به، واللّه سبحانه أعلم. وصلّى اللّه على محمد وآله وصحبه، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، والحمد للّه رب العالمين. اهـ.