فصل: قال في ملاك التأويل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد ينسب الإنسان كشف الضر لغير الله، فينسب انكشاف الضر إلى مهارة الطبيب الذي لجأ إليه، ناسيًا أن مهارة الطبيب هي من نعم الله. أو ينسب أسباب خروجه من كربه إلى ما آتاه الله من علم أو مال، ناسيًا أن الله هو واهب كل شيءٍ، كما فعل قارون الذي ظن أن ماله قد جاءه من تعبه وكده وعلمه ومهارته، ناسيًا أن الحق هو مسبب كل الأسباب، ضُرًّا أو نفعا، فسبحانه هو الذي يسبب الضر كما يسبب النفع.
ويلفت الضر الإنسان إلى نعم الحق سبحانه وتعالى في هذه الدنيا. وإذا ما رضي الإنسان وصبر فإن الله يرفع عنه الضر؛ لأن الضر لا يستمر على الإنسان إلا إذا قابله بالسخط وعدم الرضا بقدر الله. ولا يرفع الحق قضاء في الخلق إلا أن يرضى خلق الله بما أنزل الله، والذي لا يقبل بالمصائب هو من تستمر معه المصائب، أما الذي يريد أن يرفع الله عنه القضاء فليقبل القضاء.
إن الحق سبحانه يعطينا نماذج على مثل هذا الأمر؛ فها هوذا سيدنا إبراهيم عليه السلام يتلقى الأمر بذبح ابنه الوحيد، ويأتيه هذا الأمر بشكل قد يراه غير المؤمن بقضاء الله شديد القسوة، فقد كان على إبراهيم أن يذبح ابنه بنفسه، وهذا ارتقاء في الابتلاء. ولم يلتمس إبراهيم خليل الرحمن عذرًا ليهرب من ابتلاء الله له، ولم يقل: إنها مجرد رؤيا وليست وحيًا ولكنها حق، وقد جاءه الأمر بأهون تكليف وهو الرؤيا، وبأشق تكليف وهو ذبح الابن، ونرى عظمة النبوة في استقبال أوامر الحق. ويلهمه الله أن يشرك ابنه اسماعيل في استقبال الثواب بالرضا بالقضاء: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعي قَالَ يابني إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ فانظر مَاذَا ترى قَالَ ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ ستجدني إِن شَاءَ الله مِنَ الصابرين} [الصافات: 102].
لقد بلغ إسماعيل عمر السعي في مطالب الحياة مع أبيه حين جاء الأمر في المنام لإبراهيم بأن يذبح ابنه، وامتلأ قلب إسماعيل بالرضا بقضاء الله ولم ينشغل بالحقد على أبيه. ولم يقاوم، ولم يدخل في معركة، بل قال: {ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ} [الصافات: 102].
لقد أخذ الاثنان أمر الله بقبولٍ ورضا؛ لذلك يقول الحق عنهما معًا: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 103- 107].
لقد اشترك الاثنان في قبول قضاء الله، وأسلم كل منهما للأمر؛ أسلم إبراهيم كفاعل، وأسلم إسماعيل كمنفعل، وعلم الله صدقهما في استقبال أمر الله، وهنا نادى الحق إبراهيم عليه السلام: لقد استجبت أنت وإسماعيل إلى القضاء، وحسبكما هذا الامتثال، ولذلك يجيء إليك وإلى ابنك اللطف، وذلك برفع البلاء. وجاء الفداء بِذِبْحٍ عظيم القدر، لأنه ذِبْحٌ جاء بأمر الله. ولم يكتف الحق بذلك ولكنَّ بشرَ إبراهيم بميلاد ابن آخر: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصالحين} [الصافات: 112].
لقد رفع الله عن إبراهيم القدَر وأعطاه الخير وهو ولد آخر. إذن فنحن البشر نطيل على أنفسنا أمد القضاء بعدم قبولنا له. لكن لو سقط على الإنسان أمر بدون أن يكون له سبب فيه واستقبله الإنسان من مُجريه وهو ربه بمقام الرضا، فإن الحق سبحانه وتعالى يرفع عنه القضاء. فإذا رأيت إنسانًا طال عليه أمد القضاء فاعلم أنه فاقد الرضا.
ونلحظ أن الحق هنا يقول: {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ} الله سبحانه وتعالى يعلم أن أي عبد لا يتحمل أن يضره الحق؛ فقوة الحق لا متناهية ولذلك يكون المس بالضر، وكذلك بالخير؛ فالإنسان في الدنيا لا ينال كل الخير، إنما ينال مس الخير؛ فكل الخير مدخر له في الآخرة.
ونعلم أن خير الدنيا إما أن يزول عن الإنسان أو يزول الإنسان عنه، أما كل الخير فهو في الآخرة.
ومهما ارتقى الإنسان في الابتكار والاختراع فلن يصل إلى كل الخير الذي يوجد في الآخرة، ذلك أن خير الدنيا يحتاج إلى تحضير وجهد من البشر، أما الخير في الآخرة فهو على قدر المعطي الأعظم وهو الله سبحانه وتعالى. إذن فكل خير الدنيا هو مجرد مس خير؛ لأن الخير الذي يناسب جمال كمال الله لا يزول ولا يحول ولا يتغير، وهو مدخر للآخرة. ولا كاشف لضر إلا الله؛ فالمريض لا يشفى بمجرد الذهاب إلى الطبيب، لكن الطبيب يعالج الموهوبة له من الله، والذي يَشفي هو الله. {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80].
لأن الحق سبحانه وتعالى قد خلق الداء، وخلق الدواء، وجعل الأطباء مجرد جسور من الداء إلى الدواء ثم إلى الشفاء، والله يوجد الأسباب لِيُسرَّ ويُفْرِح بها عباده، فيجعل المواهب كأسباب، وإلا فالأمر في الحقيقة بيده سبحانه وتعالى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تَدَاوَوْا عبادَ الله فإن الله تعالى لم يضع داء إلا وضع له دواء غير داء واحد: الهِرَم».
ونحن نرى أن الطبيب المتميز يعلن دائمًا أن الشفاء جاء معه، لا به. ويعترف أن الله أكرمه بأن جعل الشفاء يأتي على ميعاد من علاجه. إذن فالحق هو كاشف الضر، وهو القدير على أن يمنحك ويَمَسَّك بالخير. وقدرته لا حدود لها. اهـ.

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير} وفى سورة يونس: {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم}، فورد جواب الشرط الثانى في الآية الأولى بقوله: {فهو على كل شيء قدير} وفي الثانية بقوله: {فلا راد لفضله} وقال في الأولى: {وإن يمسسك} وفى آية يونس: {وإن يردك} وأعقبت آية يونس بقوله: {وهو الغفور الرحيم} فخص هاتين الصفتين العليتين من صفاته تعالى فهذه ثلاث أسئلة فللسائل أن يسأل عن توجيهها وموجب ما ورد عليه ما ذكر؟
والجواب عن الأول والله أعلم أن مدار الأية الأولى وهى آية الأنعام على أنه سبحانه المنفرد بالخلق والاختراع والمتصرف في عباده بما يشاء والقدير على كل شيء ونفى هذه الصفات عمن سواه سبحانه وتنزيل هذا عل ما افتتحت به السورة من قوله تعالى: {الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور} وقوله: {هو الذي خلقكم من طين} وقوله: {وهو الله في السماوات وفى الأرض يعلم سركم وجهركم} وقوله فيمن أهلكه من القرون بكفرهم: {مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا...} الآية وقوله: {قل لمن ما في السماوات والأرض...} الآية وقوله: {قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض...} الآية.
فدارت هذه الآى كلها على التعريف بوحدانيته تعالى وانفراده بخلق الأشياء وملكها وقهرها ولم يقع فيها تعرض إلى أن أحدا من خلقه يمنع أو يدفع أو يتعاطى استبدادا بشئ وإن كان قد يفهم بعض ذلك من الجارى أثناء الكلام كقوله: {ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} وقوله: {قل أغير الله أتخذ وليا...} الآية.
بل في قوة الجارى في هذه الآى أن المشار إليهم بمخالفة مقتضاها أخلدوا إلى ترك التغير واشبهوا البهائم في البعد عن النظر وكأنهم يرون أن الأفعال وما يتجرد في العالم من المدركات المشاهدات من الأجسام والأعراض على كثرة تنوعها واختلاف شيآتها وأشكالها زجدت بأنفسها لا عن فاعل تقدمها أوجدها بالقدرة والاختيار بل تكونت بأنفسها فقوبل مرتكبهم بالتعريف بقدرته تعالى على كل شيء وأنه الموجد لما في العالم العلوى والسفلى وقيل له عليه السلام: {وإن يمسسك الله بضر...} الآية.
إعلاما بأن ما يكون من هذا فمنه تعالى لأنه المنفرد بالخلق والقدير على كل شيء فهذا حاصل ما تقتضيه آية الأنعام.
وأما آية يونس فقد ذكر قبلها حال من ظن أن غيره تعالى يضر أو ينفع قال تعالى: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} فقد نسبوا لهم النفع بالشفاعة وقال تعالى: {ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم...} الآية.
وقال تعالى: {قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار...} الآية.
وقال تعالى: {قل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده} وقال تعالى: {قل هل من شركائكم من يهدى إلى الحق} فدارت هذه الآيات على أنهم توهموا نفع ما اتخذوه معبودا من شركائهم فبطل توهمهم واضمحل باطلهم واتبع ما تقدم بقوله جل وتعالى لنبيه عليه السلام: {ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك} ثم بقوله تعالى: {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله} وحصل من هذا أن كل ما عبد دونه سبحانه وتوهم أنه لا يضر أو ينفع ليس كما ظنوه قال تعالى: {وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه} فناسب ما تقدم من التنصيص على انفراده تعالى بالخلق والأمر.
والجواب عن السؤال الثانى والله أعلم: أن قوله تعالى هنا: {وإن يردك بخير} ولم يقل: {وإن يمسسك بخير} كما في آية الأنعام أنه تقدم قبل هذه الآية قوله تعالى: {إن الذين حقت كلمة ربك لا يؤمنون...} الآية.
فهو إعلام منه سبحانه بجرى الخلائق على ما قدر لهم أزلا وسبق به حكمه تعالى ثم أعقب بقوله تعالى: {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا} فهذا تأكيد للغرض المذكور من جرى العباد على ما قدر لهم وما شاءه سبحانه فيهم وإن ذلك لا يرده راد ولا يعارضه معارض فناسب هذا قوله تعالى: {وإن يردك بخير فلا راد لفضله} أتم مناسبة ثم وقع بعد هذا قوله تعالى: {يصيب به من يشاء من عباده} وإصابته سبحانه من يشاء بالخير هو المراد بقوله في آية الأنعام: {وإن يمسسك بخير} فاجتمع في آية يونس الأمران معا وكأن قد قيل: وإن يمسسك بخير ويردك به فلا راد لما أصابك به وأراده لك ففى هذه الآية من إمعان المقصود وتأكيده ما ليس في آية الأنعام ليطابق هذا التأكيد والإمعان ما تقدم من قوله تعالى: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون} وقوله: {ولو شاء ربك لأمن من في الأرض كلهم جميعا} ولم يتقدم في آية الأنعام مثل هذا فوقع الاكتفاء هناك بقوله: {وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير} فجاء كل على من هذا على أتم مناسبة وأوضح ملاءمة والله أعلم.
والجواب عن السؤال الثالث أنه لما تقدم هذه الآية من مؤثرات الخوف والجهل ومهيجات الرهب والخشية ما اقتضاه الاخبار بغيبة للقدر وجهل للمشيئة في قوله: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك...} الآية.
وقوله: {ولو شاء ربك لأمن من في الأرض كلهم جميعا} وعظم موقع ذلك على المؤمنين وكان مع ذلك للوفاء بمزدلفات الأعمال مما لا يحصل بالآمال أنسهم سبحانه بذكر الصفتين العليتين فقال: {وهو الغفور الرحيم} فناسب ورود الوصفين ما تقدم والله أعلم بما أراد. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
الباء في قوله: {بِضُرِّ} للتعدية، وكذلك في {بخير}، والمعنى: وإن يمسك اللَّهُ الضُّرَ، أي: يجعلك ماسًّا له، وإذا مست الضر فقد مَسَّك، إلاَّ أن التَّعديَةَ بالباء في الفعل المُتَعَدِّي قليلةٌ جدًا، ومنه قولهم: صَكَكْتُ أحَدَ الحجرين بالآخر.
وقال أبو حيان: ومنها قوله تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [البقرة: 251].
وقال الواحدُّ: رحمه الله: إن قيل: إن المَسَّ من صِفَةِ الأجَسْامِ فكيف قال: وإن يَمْسَسْكَ اللَّهُ؟
فالجواب الباء لتعدية، والباء والألف يتعاقَبَانِ في التَّعديَةَ، والمعنى: إن أمَسَّك اللَّهُ ضُرًّا، أي: جعله مَاسَّك، فالفعلُ للضُّرِّ، وإن كان في الظاهر قد أسند إلى اسمِ اللَّهِ تعالى، كقولك: ذهبَ زيدٌ بعمرو، وكان الذَّهابُ فِعْلًا لعمرو، غير أن زيدًا هو المُسَبِّبُ له والحاملُ عليه، كذلك هنا الميسُّ للضُرِّ، والله تعالى جعله مَاسًّا.
قوله: {فلا كاشف له}: {له}: خبر لا، وثمَّ مَحْذُوفٌ تقديره: فلا كاشف له عنك، وهذا المحذوف لي متعلِّقًا بـ {كاشف}، إذ كان يلزمُ تنوينه وإعرابه، بل يتعلَّق بمحذوف، أي: أغني عنه.
و{إلاَّ هو} فيه وجهان:
أحدهما: أنه بدلٌ من مَحَلّ {كاشف} فإن مَحَلَّه الرفع على الابتداء.
والثاني: أنه بَدَلٌ من الضمير المُسْتَكِنِّ في الخبر، ولا يجوز أن يرتفع باسم الفاعل، وهو {كاشف}؛ لأنه مطوَّلًا ومتى كان مطوَّلًا أعْرِبَ نَصْبًا، وكذلك لا يجوز أن يكون بَدَلًا من الضمير المُسْتَكِنّ في الكاشف للعلَّةِ المتقدّمة؛ إذ يحلُّ مَحَلُّ مَحَلَّ المبدل فإن قيل: المقابل للخير هو الشَّر، فكيف عدل عن لَفْظِ الشَّرِّ؟ والجواب أنه أراد تَغْلِيبَ الرحمة على ضِدِّهَا، فأتى في جانب الشَّرِّ بأخَصَّ منه وهو الضُّرُّ، وفي جانب الرَّحْمَةِ بالعام الذي هو الخَيْرُ تعليبًا لهذا الجانب.
قال ابن عطية: نابَ الضُّرُ مَنَابَ الشِّرِّ، وإن كان الشِّرُّ أعَمَّ منه، فقابل الخير.
وهذا من الفصاحةِ عُدُولٌ عن قانون التكليف والصيغة، فإن باب التكليف وترصيع الكلام أن يكون الشيء مُتءترنًا بالذي يختص به بنوع من أنواع الاختصاص موافقة أو مُضاهاة فمن ذلك: {إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تعرى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تضحى} [طه: 118- 119] فجاءؤ بالجوع مع العُرْي، وبابه أن يكون مع الظَّمَأ.
ومنه قوله امرئ القيس: [الطويل]
كَأنِّيَ أرْكَبْ جَوادًا لِلَذَّةِ ** وَلَمْ أتَبَطَّنْ كَاعِبًا ذَاتَ خَلْخَال

وَلَمْ أسْبإ الزِّقَّ الرَّوِيَّ وَلَمْ أقُلْ ** لِخَيْلِيَ كُرِّي كرَّةً بَعْدَ إجْفَالِ

ولم يوضّح ابن عطيَّة ذلك، وإيضاحه في آية: {طه} اشْتَرَاكُ الجوع والعُرْي في شيء خاص وهو الخلُوُّ، فالجوع خُلُوُّ وفراغٌ من الباطن، والعُرْيُ خُلُوِّ وفراغٌ من الظَّاهرِ واشتراك الظَّمَأ والضِّحَي في الاحتراق، فالظَّمَأُ احتراق في الباطن، ولذلك تقول: بَرَّدَّ الماءُ حَرارةَ كبدي وأوام عطشي.
والضَّحَى: احْتِرَاقُ الظَّاهر.
وأمَّا البيتان، فالجامعُ بين الرُّكوب لِلذَّةِ وهو الصيد وتبطُّن الكَاعِب اشتراكهما في لَذَّةِ الاسْتِعْلاءِ، والقهر والاقْتِنَاصِ والظّفر بمثل هذا المركوب، ألا ترى إلى تسميتهم هَنَ المرأة رَكَبًا، بفتح الراء والكاف، وهو فَعَل بمعنى مَفْعُول كقوله: [الرجز]
إنَّ لَهَا لَرَكَبًا إرْزَبَّا ** كَأنَّهُ جِبْهَةُ ذَرَّي حَبَّا

وأمَّا البيت الثاني فالجامعُ بين سَبَأ الخمر، والرُّجوع بعد الهزيمة اشتراكهما في البذْل، فشراءُ الخَمْرِ بَذْلُ المال، والرجوع بعد الانهزام بَذْلُ الروح.
وقدَّم تبارك وتعالى مَسَّ الضُّرِّ الخير لمناسبة اتِّصالِ مسِّ الضُّر بما قبله من التَّرْهيبِ المدلول عليه بقوله تعالى: {إنِّي أخَافُ}، وجاء جواب الشَّرْط الأوَّل بالحَصْر إشارةً إلى اسْتِقلالِهِ بكشف الضُّرُ دون غيره، وجاء الثاني بقوله تعالى: {فَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدُير} إشارةً قدرته الباهرة، فيندرج فيها المَسُّ بخير وغيره، على أنَّه لو قيل: إنَّ جواب الثاني مَحْذُوفٌ لكان وَجْهًا أي: وإن يمسك بخيرٍ فلا رَادَّ لِفَضْلِهِ، للتصريح بمثله في موضع آخر. اهـ. باختصار.