فصل: قال السمرقندي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال السمرقندي:

{قُلْ أي شيء أَكْبَرُ شهادة} وذلك أن كفار مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد ألا وجد الله رسولًا غيرك؟ وما نرى أحدًا من أهل الكتاب يصدقك بما تقول فأرنا من يشهد لك أنك رسوله؟ فقال الله تعالى: {قُلْ}: لأهل مكة {أَىُّ شيء أَكْبَرُ شهادة} يعني: حجة وبرهانًا ويقال: من أكبر شهادة؟ فإن أجابوك وإلا ف {قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ} بأني رسول الله.
والشهيد في اللغة: هو المبين.
وإنما سمى الشاهد شاهدًا لأنه يبيّن دعوى المدعي بأمر الله نبيه عليه السلام بأن يحتج عليهم بالله الواحد القهار الذي خلق السموات والأرض، وجعل الظلمات والنور، وخلقهم أطوارًا.
ثم قال: {قُلْ أي شيء أَكْبَرُ شهادة قُلِ} يعني: لأخوفكم بالقرآن يا أهل مكة {وَمَن بَلَغَ} يعني: ومن بلغه القرآن سواكم، فأنا نذير وبشير من بلغه القرآن من الجن والإنس.
قال قتادة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً مِنْ كِتَابِ الله تَعَالَى»، فمن بلغه فكأنما عاين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمه.
وقال محمد بن كعب القرظي: من بلغه القرآن فكأنما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قرأ: {لأنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ} وقال مجاهد: {لأنذِرَكُمْ بِهِ} يعني: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَن بَلَغَ} يعني: من العجم وغيرهم. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

ومعنى الآية: قل لقريش: أيُّ شيء أعظم شهادة؟ فإن أجابوك، وإلا فقل: الله، وهو شهيد بيني وبينكم على ما أقول.
وقال الزجاج: أمره الله أن يحتج عليهم بأن شهادة الله في نُبُوَّته أكبر شهادة، وأن القرآن الذي أتى به، يشهد له أنه رسول الله، وهو قوله: {وأوحيَ إليَّ هذا القرآن لأُنذركم به} ففي الإِنذار به دليل على نبوته، لأنه لم يأت أحد بمثله، ولا يأتي، وفيه خبر ما كان وما يكون، ووعد فيه بأشياء، فكانت كما قال. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً} انتقال من الاستدلال على إثبات ما يليق بالله من الصفات، إلى إثبات صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وإلى جعْلِ الله حكمًا بينه وبين مكذّبيه، فالجملة استئناف ابتدائي، ومناسبة الانتقال ظاهرة.
روى الواحدي في أسباب النزول عن الكلبي: أنّ رؤساء مكّة قالوا: يا محمد ما نرى أحدًا مصدّقَك بما تقول، وقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس عندهم ذكرُك ولا صفتك فأرِنا من يشهد أنّك رسول الله.
فنزلت هذه الآية.
وقد ابتدئت المحاورة بأسلوب إلقاء استفهام مستعمل في التقرير على نحو ما بيّنته عند قوله تعالى: {قل لمن ما في السماوات والأرض} [الأنعام: 12] ومثل هذا الأسلوب لإعداد السامعين لتلقّي ما يرد بعد الاستفهام.
و(أي) اسم استفهام يطلب به بيان أحد المشتركات فيما أضيف إليه هذا الاستفهام، والمضاف إليه هنا هو {شيء} المفسّر بأنَّه من نوع الشهادة.
و{شَيء} اسم عامّ من الأجناس العالية ذات العموم الكثير، قيل: هو الموجود، وقيل: هو ما يعلم ويصحّ وجوده.
والأظهر في تعريفه أنّه الأمر الذي يعلم.
ويجري عليه الإخبار سواء كان موجودًا أو صفة موجود أو معنى يتعقّل ويتحاور فيه، ومنه قوله تعالى: {فقال الكافرون هذا شيء عجيب أإذا متنا وكنّا ترابًا ذلك رجْع بعيد} [ق: 2، 3].
وقد تقدّم الكلام على مواقع حسن استعمال كلمة (شيء) ومواقع ضعفها عند قوله تعالى: {ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع} في سورة [البقرة: 155].
و{أكبَرُ} هنا بمعنى أقوى وأعدل في جنس الشهادات، وهو من إطلاق ما مدلوله عظم الذات على عظم المعنى، كقوله تعالى: {ورضوان من الله أكبر} [التوبة: 72] وقوله: {قل قتال فيه كبير} وقد تقدّم في سورة [البقرة: 217].
وقوة الشهادة بقوة اطمئنان النفس إليها وتصديق مضمونها.
وقوله: {شهادة} تمييز لنسبة الأكبرية إلى الشيء فصار ماصْدق الشيء بهذا التمييز هو الشهادة.
فالمعنى: أيّة شهادة هي أصدق الشهادات، فالمستفهم عنه بِ {أي} فرد من أفراد الشهادات يطلب عِلم أنَّه أصدق أفراد جنسه.
والشهادة تقدّم بيانها عند قوله تعالى: {شهادة بينكم} في سورة [المائدة: 106].
ولمّا كانت شهادة الله على صدق الرسول غير معلومة للمخاطبين المكذّبين بأنّه رسول الله، صارت شهادة الله عليهم في معنى القسم على نحو قوله تعالى: {ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنّه لمن الكاذبين} [النور: 8] أي أن تُشهد الله على كذب الزوج، أي أن تحلف على ذلك بسم الله، فإنّ لفظ (أشهد الله) من صيغ القسم إلاّ أنّه إن لم يكن معه معنى الإشهاد يكون مجازًا مرسلًا، وإن كان معه معنى الإشهاد كما هنا فهو كناية عن القسم مراد منه معنى إشهاد الله عليهم، وبذلك يظهر موقع قوله: {الله شهيد بيني وبينكم}، أي أشهده عليكم.
وقريب منه ما حكاه الله عن هود {قال إنّي أشهد الله} [هود: 54].
وقوله: {قل الله شهيد بيني وبينكم} جواب للسؤال، ولذلك فصلت جملته المصدّرة بـ {قل}.
وهذا جواب أمر به المأمور بالسؤال على معنى أن يسأل ثم يبادر هو بالجواب لكون المراد بالسؤال التقرير وكون الجواب ممّا لا يسع المقرّر إنكاره، على نحو ما بيّنّاه في قوله: {قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله} [الأنعام: 12] ووقع قوله: {الله شهيد بيني وبينكم} جوابًا على لسانهم لأنّه مرتّب على السؤال وهو المقصود منه فالتقدير: قل شهادة الله أكبر شهادة، فالله شهيد بيني وبينكم، فحذف المرتّب عليه لدلالة المرتّب إيجازًا كما هو مقتضى جزالة أسلوب الإلجاء والجدل.
والمعنى: أنّي أشهد الله الذي شهادته أعظم شهادة أنّني أبلغتكم أنّه لا يرضى بأن تشركوا به وأنذرتكم.
وفي هذه الآية ما يقتضي صحة إطلاق اسم (شيء) على الله تعالى لأنّ قوله: {الله شهيد} وقع جوابًا عن قوله: {أي شيء} فاقتضى إطلاق اسم (شيء) خبرًا عن الله تعالى وإن لم يدلّ صريحًا.
وعليه فلو أطلقه المؤمن على الله تعالى لما كان في إطلاقه تجاوز للأدب ولا إثم.
وهذا قول الأشعرية خلافًا لجهم بن صفوان وأصحابه.
ومعنى: {شهيد بيني وبينكم} أنّه لمّا لم تنفعهم الآيات والنذر فيرجعوا عن التكذيب والمكابرة لم يبق إلاّ أن يكلهم إلى حساب الله تعالى.
والمقصود: إنذارهم بعذاب الله في الدنيا والآخرة.
ووجه ذكر {بيني وبينكم} أنّ الله شهيد له، كما هو مقتضى السياق.
فمعنى البيْن أنّ الله شهيد للرسول صلى الله عليه وسلم بالصدق لردّ إنكارهم رسالته كما هو شأن الشاهد في الخصومات.
وقوله: {وأوحي إليّ هذا القرآن} عطف على جملة {الله شهيد بيني وبينكم}، وهو الأهمّ فيما أقسم عليه من إثبات الرسالة.
وينطوي في ذلك جميع ما أبلغهم الرسول صلى الله عليه وسلم وما أقامه من الدلائل.
فعطف {وأوحي إلي هذا القرآن} من عطف الخاصّ على العامّ، وحُذف فاعل الوحي وبني فعله للمجهول للعلم بالفاعل الذي أوحاه إليه وهو الله تعالى. اهـ.

.قال الفخر:

نقل عن جهم أنه ينكر كونه تعالى شيئًا.
واعلم أنه لا ينازع في كونه تعالى ذاتًا موجودًا وحقيقة إلا أنه ينكر تسميته تعالى بكونه شيئًا، فيكون هذا خلافًا في مجرد العبارة.
واحتج الجمهور على تسمية الله تعالى بالشيء بهذه الآية وتقريره أنه قال أي الأشياء أكبر شهادة ثم ذكر في الجواب عن هذا السؤال قوله: {قُلِ الله} وهذا يوجب كونه تعالى شيئًا، كما أنه لو قال: أي الناس أصدق، فلو قيل: جبريل، كان هذا الجواب خطأ لأن جبريل ليس من الناس فكذا ههنا.
فإن قيل: قوله: {قُلِ الله شَهِيدٌ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} كلام تام مستقبل بنفسه لا تعلق له بما قبله لأن قوله: {الله} مبتدأ، وقوله: {شَهِيدٌ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} خبره، وهو جملة تامة مستقلة بنفسها لا تعلق لها بما قبلها.
قلنا الجواب في وجهين: الأول: أن نقول قوله: {قُلْ أي شيء أَكْبَرُ شهادة} لا شك أنه سؤال ولابد له من جواب: إما مذكور، وإما محذوف.
فإن قلنا الجواب مذكور: كان الجواب هو قوله: {قل الله} وههنا يتم الكلام.
فأما قوله: {شهيد بيني وبينكم} فههنا يضمر مبتدأ، والتقدير، هو شهيد بيني وبينكم، وعند هذا يصح الاستدلال المذكور وأما إن قلنا: الجواب محذوف فنقول: هذا على خلاف الدليل، وأيضًا فبتقدير أن يكون الجواب محذوفًا، إلا أن ذلك المحذوف لابد وأن يكون أمرًا يدل المذكور عليه ويكون لائقًا بذلك الموضع.
والجواب اللائق بقوله: {أَىُّ شيء أَكْبَرُ شهادة} هو أن يقال: هو الله، ثم يقال بعده {الله شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ} وعلى هذا التقدير فيصح الاستدلال بهذه الآية أيضًا على أنه تعالى يسمى باسم الشيء فهذا تمام تقرير هذا الدليل.
وفي المسألة دليل آخر وهو قوله تعالى: {كُلُّ شيء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] والمراد بوجهه ذاته، فهذا يدل على أنه تعالى استثنى ذات نفسه من قوله: {كُلّ شيء} والمستثنى يجب أن يكون داخلًا تحت المستثنى منه، فهذا يدل على أنه تعالى يسمى باسم الشيء.
واحتج جهم على فساد هذا الاسم بوجوه: الأول: قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيء} [الشورى: 11] والمراد ليس مثل مثله شيء وذات كل شيء مثل مثل نفسه فهذا تصريح بأن الله تعالى لا يسمى باسم الشيء ولا يقال الكاف زائدة، والتقدير: ليس مثله شيء لأن جعل كلمة من كلمات القرآن عبثًا باطلًا لا يليق بأهل الدين المصير إليه إلا عند الضرورة الشديدة.
والثاني: قوله تعالى: {الله خالق كل شيء} [الرعد: 16] ولو كان تعالى مسمى بالشيء لزم كونه خالقًا لنفسه وهو محال، لا يقال: هذا عام دخله التخصيص لأنا نقول: إدخال التخصيص إنما يجوز في صورة نادرة شاذة لا يؤبه بها ولا يلتفت إليها، فيجري وجودها مجرى عدمها، فيطلق لفظ الكل على الأكثر تنبيهًا على أن البقية جارية مجرى العدم ومن المعلوم أن الباري تعالى لو كان مسمى باسم الشيء لكان هو تعالى أعظم الأشياء وأشرفها، وإطلاق لفظ الكل مع أن يكون هذا القسم خارجًا عنه يكون محض كذب ولا يكون من باب التخصيص.
الثالث: التمسك بقوله: {والله الأسماء الحسنى فادعوه بِهَا} [الأعراف: 180] والاسم إنما يحسن لحسن مسماه وهو أن يدل على صفة من صفات الكمال نعت من نعوت الجلال ولفظ الشيء أعم الأشياء فيكون مسماه حاصلًا في أحسن الأشياء وفي أرذلها ومتى كان كذلك لم يكن المسمى بهذا اللفظ صفة من صفات الكمال ولا نعتًا من نعوت الجلال فوجب أن لا يجوز دعوة الله تعالى بهذا الاسم لأن هذا الاسم لما لم يكن من الأسماء الحسنى والله تعالى أمر بأن يدعى بالأسماء الحسنى وجب أن لا يجوز دعاء الله تعالى بهذا الاسم وكل من منع من دعاء الله بهذا الاسم قال: إن هذا اللفظ ليس اسمًا من أسماء الله تعالى ألبتة.
الرابع: أن اسم الشيء يتناول المعدوم، فوجب أن لا يجوز إطلاقه على الله تعالى بيان الأول: قوله تعالى: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشيء إِنّى فَاعِلٌ ذلك غَدًا} [الكهف: 23] سمى الشيء الذي سيفعله غدًا باسم الشيء في الحال والذي سيفعله غدا يكون معدومًا في الحال فدل ذلك على أن اسم الشيء يقع على المعدوم.
وإذا ثبت هذا فقولنا: إنه شيء لا يفيد امتياز ذاته عن سائر الذوات بصفة معلومة ولا بخاصة متميزة ولا يفيد كونه موجودًا فيكون هذا لفظًا لا يفيد فائدة في حق الله تعالى ألبتة، فكان عبثًا مطلقًا، فوجب أن لا يجوز إطلاقه على الله تعالى.
والجواب عن هذه الوجوه أن يقال: لما تعارضت الدلائل.
فنقول: لفظ الشيء أعم الألفاظ، ومتى صدق الخاص صدق العام، فمتى صدق فيه كونه ذاتًا وحقيقة وجب أن يصدق عليه كونه شيئًا وذلك هو المطلوب والله أعلم. اهـ.

.قال ابن القيم:

قوله تعالى: {قُلْ أي شَيءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام: 19]، المراد بالآية شهادته سبحانه لرسوله بتصديقه على رسالته، فإن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: من يشهد لك على ما تقول؟ فأنزل الله تعالى آيات شهادته له وشهادة ملائكته وشهادة علماءِ أهل الكتاب له، فقال تعالى: {قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 43]، أي ومن عنده علم الكتاب يشهد لى وشهادته مقبولة لأنها شهادة بعلم، قال الله تعالى: {لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا} [النساء: 166]، وقال تعالى: {قُلْ أي شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام: 19]، فأخبر سبحانه في هذه المواضع بشهادته لرسوله وكفى بشهادته إثباتًا لصدقه وكفى به شهيدًا.
فإن قيل: وما شهادته سبحانه لرسوله؟ قيل: هي ما أقام على صدقه من الدلالات والآيات المستلزمة لصدقه بعد العلم بها ضرورة، فدلالتها على صدقه أعظم من دلالة كل بينة وشاهد على حق، فشهادته سبحانه لرسوله أصدق شهادة وأعظمها وأدلها على ثبوت المشهود به، فهذا وجه.
ووجه آخر: أنه صدقه بقوله وأقام الأدلة القاطعة على صدقه فيما يخبر به عنه، فإذا أخبر عنه أنه شهد له قولًا لزم ضرورة صدقه في ذلك الخبر وصحت الشهادة له به قطعًا، فهذا معنى الآية. اهـ.