فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وكما يؤمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسؤال، فهو يؤمر كذلك بالجواب. ذلك أنه لا جواب غيره باعتراف المخاطبين أنفسهم. ولا جواب غيره في حقيقة الأمر والواقع:
{قل الله}..
نعم! فالله سبحانه وتعالى هو أكبر شهادة.. هو الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين.. هو الذي لا شهادة بعد شهادته، ولا قول بعد قوله. فإذا قال فقد انتهى القول، وقد قضي الأمر.
فإذا أعلن هذه الحقيقة: حقيقة أن الله سبحانه هو أكبر شهادة، أعلن لهم أنه سبحانه هو الشهيد بينه وبينهم في القضية:
{شهيد بيني وبينكم}..
على تقدير: هو شهيد بيني وبينكم، فهذا التقطيع في العبارة هو الأنسب في جو المشهد: وهو أولى من الوصل على تقدير: {قل الله شهيد بيني وبينكم}.
فإذا تقرر المبدأ: مبدأ تحكيم الله سبحانه في القضية، أعلن إليهم أن شهادة الله سبحانه، تضمنها هذا القرآن، الذي أوحاه إليه لينذرهم به؛ وينذر به كل من يبلغه في حياته صلى الله عليه وسلم- أو من بعد. فهو حجة عليهم وعلى من يبلغه غيرهم؛ لأنه يتضمن شهادة الله في هذه القضية الأساسية؛ التي تقوم عليها الدنيا والآخرة، ويقوم عليها الوجود كله والوجود الإنساني ضمنًا:
{وأوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ}..
فكل من بلغه هذا القرآن من الناس، بلغة يفهمها، ويحصل منها محتواه، فقد قامت عليه الحجة به، وبلغه الإنذار، وحق عليه العذاب، إن كذب بعد البلاغ.. (فأما من يحول عدم فهمه للغة القرآن دون فهمه لفحواه، فلا تقوم عليه الحجة به؛ ويبقى إثمه على أهل هذا الدين الذين لم يبلغوه بلغته التي يفهم بها مضمون هذا الشهادة.. هذا إذا كان مضمون القرآن لم يترجم إلى لغته)..
فإذا أعلن إليهم أن شهادة الله سبحانه متضمنة في هذا القرآن، أعلن إليهم مضمون هذه الشهادة في صورة التحدي والاستنكار لشهادتهم هم، المختلفة في أساسها عن شهادة الله سبحانه.
وعالنهم بأنه ينكر شهادتهم هذه ويرفضها؛ وأنه يعلن غيرها ويقرر عكسها ويشهد لربه بالوحدانية المطلقة والألوهية المتفردة؛ وأنه يفاصلهم على هذا عند مفرق الطريق؛ وأنه يتبرأ من شركهم في صيغة التشديد والتوكيد: {أئنكم لتشهدون أن مع الله ألهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون}..
والنصوص القرآنية بمقاطعها هذه، وبإيقاعاتها هذه، تهز القلوب بما لا يملك البيان البشري أن يفعل. فلا أريد أن أوقف تدفقها وانسكابها في القلب بأي تعليق.
ولكني أريد أن أتحدث عن القضية التي تضمنها هذا المقطع، وجرت بها هذه الموجة.. إن هذه القضية التي عرضها السياق القرآني في هذه الآيات.. قضية الولاء والتوحيد والمفاصلة.. هي قضية هذه العقيدة؛ وهي الحقيقية الكبرى فيها. وإن العصبة المؤمنة اليوم لخليقة بأن تقف أمام هذا الدرس الرباني فيها وقفة طويلة..
إن هذه العصبة تواجه اليوم من الجاهلية الشاملة في الأرض، نفس ما كانت تواجهه العصبة التي تنزلت عليها هذه الآيات، لتحدد على ضوئها موقفها، ولتسير على هذا الضوء في طريقها؛ وتحتاج- من ثم- أن تقف وقفة طويلة أمام هذه الآيات، لترسم طريقها على هداها.
لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية؛ وعادت البشرية إلى مثل الموقف الذي كانت فيه يوم تنزل هذا القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويوم جاءها الإسلام مبنيًا على قاعدته الكبرى: شهادة أن لا إله إلا الله. شهادة أن لا إله إلا الله بمعناها الذي عبر عنه ربعي بن عامر رسول قائد المسلمين إلى رستم قائد الفرس، وهو يسأله: «ما الذي جاء بكم؟» فيقول: «الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام».. وهو يعلم أن رستم وقومه لا يعبدون كسرى بوصفه إلهًا خالقًا للكون؛ ولا يقدمون له شعائر العبادة المعروفة؛ ولكنهم إنما يتلقون منه الشرائع، فيعبدونه بهذا المعنى الذي يناقض الإسلام وينفيه؛ فأخبره أن الله ابتعثهم ليخرجوا الناس من الأنظمة والأوضاع التي يعبد العباد فيها العباد، ويقرون لهم بخصائص الألوهية- وهي الحاكمية والتشريع والخضوع لهذه الحاكمية والطاعة لهذا التشريع- (وهي الأديان).. إلى عبادة الله وحده وإلى عدل الإسلام.
لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية بلا إله إلا الله. فقد ارتدت البشرية إلى عبادة العباد، وإلى جور الأديان؛ ونكصت عن لا إله إلا الله، وإن ظل فريق منها يردد على المآذن: لا إله إلا الله؛ دون أن يدرك مدلولها، ودون أن يعني هذا المدلول وهو يرددها، ودون أن يرفض شرعية الحاكمية التي يدعيها العباد لأنفسهم- وهي مرادف الألوهية- سواء ادعوها كأفراد، أو كتشكيلات تشريعية، أو كشعوب.
فالأفراد، كالتشكيلات، كالشعوب، ليست آلهة، فليس لها إذن حق الحاكمية.. إلا أن البشرية عادت إلى الجاهلية، وارتدت عن لا إله إلا الله. فأعطت لهؤلاء العباد خصائص الألوهية. ولم تعد توحد الله، وتخلص له الولاء..
البشرية بجملتها، بما فيها أولئك الذين يرددون على المآذن في مشارق الأرض ومغاربها كلمات: لا إله إلا الله بلا مدلول ولا واقع.. وهؤلاء أثقل إثمًا وأشد عذابًا يوم القيامة، لأنهم ارتدوا إلى عبادة العباد- من بعدما تبين لهم الهدى- ومن بعد أن كانوا في دين الله!
فما أحوج العصبة المسلمة اليوم أن تقف طويلًا أمام هذه الآيات البينات!
ما أحوجها أن تقف أمام آية الولاء: {قل أغير الله أتخذ وليًا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين}..
ذلك لتعلم أن اتخاذ غير الله وليًا- بكل معاني الولي.. وهي الخضوع والطاعة، والاستنصار والاستعانة.. يتعارض مع الإسلام، لأنه هو الشرك الذي جاء الإسلام ليخرج منه الناس.. ولتعلم أن أول ما يتمثل فيه الولاء لغير الله هو تقبل حاكمية غير الله في الضمير أو في الحياة.. الأمر الذي تزاوله البشرية كلها بدون استثناء. ولتعمل أنها تستهدف اليوم إخراج الناس جميعًا من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده؛ وأنها تواجه جاهلية كالتي واجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم والجماعة المسلمة حين تلقي هذه الآيات..
وما أحوجها أن تستصحب في مواجهتها للجاهلية تلك الحقائق والمشاعر التي تسكبها في القلب المؤمن الآيات التالية: {قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير}..
فما أحوج من يواجه الجاهلية بطاغوتها وجبروتها، وبإعراضها وعنادها، وبالتوائها وكيدها، وبفسادها وانحلالها.. ما أحوج من يواجه هذا الشر كله، أن يستصحب في قلبه هذه الحقائق وهذا المشاعر.. مخافة المعصية والولاء لغير الله. ومخافة العذاب الرعيب الذي يترقب العصاة.. واليقين بأن الضار والنافع هو الله. وأن الله هو القاهر فوق عباده فلا معقب على حكمه ولا راد لما قضاه. إن قلبًا لا يستصحب هذه الحقائق وهذه المشاعر لن يقوى على تكاليف إنشاء الإسلام من جديد في وجه الجاهلية الطاغية.. وهي تكاليف هائلة تنوء بها الجبال!
ثم ما أحوج العصبة المؤمنة- بعد أن تستيقن حقيقة مهمتها في الأرض اليوم؛ وبعد أن تستوضح حقيقة العقيدة التي تدعو إليها ومقتضياتها من إفراد الله سبحانه بالولاء بكل مدلولاته؛ وبعد أن تستصحب معها في مهمتها الشاقة تلك الحقائق والمشاعر.
ما أحوجها بعد ذلك كله إلى موقف الإشهاد والقطع والمفاصلة والتبرؤ من الشرك الذي تزاوله الجاهلية البشرية اليوم كما كانت تزاوله جاهلية البشرية الأولى. وأن تقول ما أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوله؛ وأن تقذف في وجه الجاهلية، بما قذف به في وجهها الرسول الكريم، تنفيذًا لأمر ربه العظيم: {قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون}..
إنه لابد أن تقف العصبة المسلمة في الأرض، من الجاهلية التي تغمر الأرض، هذا الموقف. لابد أن تقذف في وجهها بكلمة الحق هذه عالية مدوية، قاطعة فاصلة، مزلزلة رهيبة.. ثم تتجه إلى الله تعلم أنه على كل شيء قدير، وأنه هو القاهر فوق عباده. وأن هؤلاء العباد- بما فيهم الطواغيت المتجبرون- أضعف من الذباب، وإن يسلبهم الذباب شيئًا لا يستنقذوه منه! وأنهم ليسوا بضارين من أحد إلا بإذن الله؛ وليسوا بنافعين أحدًا إلا بإذن الله، وأن الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ولابد أن تستيقن العصبة المسلمة كذلك أنها لن تنصر ولن يتحقق لها وعد الله بالتمكين في الأرض، قبل أن تفاصل الجاهلية على الحق عند مفترق الطريق. وقبل أن تعلن كلمة الحق في وجه الطاغوت، وقبل أن تشهد على الجاهلية هذا الإشهاد، وتنذرها هذه النذارة، وتعلنها هذا الإعلان، وتفاصلها هذه المفاصلة، وتتبرأ منها هذه البراءة..
إن هذا القرآن لم يأت لمواجهة موقف تاريخي؛ إنما جاء منهجًا مطلقًا خارجًا عن قيود الزمان والمكان. منهجًا تتخذه الجماعة المسلمة حيثما كانت في مثل الموقف الذي تنزل فيه هذا القرآن. وهي اليوم في مثل هذا الموقف تمامًا؛ وقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا القرآن لينشيء الإسلام في الأرض إنشاء.. فليكن اليقين الجازم بحقيقة هذا الدين. والشعور الواضح بحقيقة قدرة الله وقهره. والمفاصلة الحاسمة مع الباطل وأهله.. لتكن هذه عدة الجماعة المسلمة.. والله خير حافظًا وهو أرحم الراحمين. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ...} الآية.
غلَبَتْ شهادة الحق سبحانه كلَّ شهادة، فهم إذا أقبلوا يشهدون فلا تحيط بحقائِقِ الشيء علومُهم، والحقُّ سبحانه هو الذي لا يخفى عليه شيءٌ، ثم أخبره- صلى الله عليه وسلم أنه مبعوثٌ إلى الكافة ومَنْ سيوجد إلى يوم القيامة. اهـ.

.من فوائد ابن عطية في الآية:

قال رحمه الله:
{أي} استفهام، وهي معربة مع إبهامها، وإنما كان ذلك لأنها تلتزم الإضافة ولأنها تتضمن علم جزء من المستفهم عنه غير معين، لأنك إذا قلت أي الرجلين جاءنا فقد كنت تعلم أن أحدهما جاء غير معين فأخرجها هذان الوجهان عن غمرة الإبهام فأعربت، وتتضمن هذه الآية أن الله عز وجل يقال عليه {شيء} كما يقال عليه موجود، ولكن ليس كمثله تبارك وتعالى شيء، و{شهادة} نصب على التمييز ويصح على المفعول بأن يحمل {أكبر} علىلتشبيه بالصفة المشبهة باسم الفاعل وهذه الآية مثل قوله تعالى: {قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله} [الأنعام: 12] في أن استفهم على جهة التوقيف والتقدير ثم بادر إلى الجواب إذ لا تتصور فيه مدافعة، وهذا كما تقول لمن تخاصمه وتتظلم منه من أقدر من في البلد ثم تبادر وتقول السلطان فهو يحول بيننا، ونحو هذا من الأمثلة، فتقدير الآية أنه قال لهم أي شيء أكبر شهادة الله أكبر شهادة، فهو شهيد بيني وبينكم، ف {الله} رفع بالابتداء وخبره مضمر يدل عليه ظاهر الكلام كما قدرناه، و{شهيد} خبر ابتداء مضمر.
وقال مجاهد المعنى أن الله تعالى قال لنبيه عليه السلام: قل لهم: أي شيء أكبر شهادة؟ وقل لهم: الله شهيد بيني وبينكم لما عيوا عن الجواب، ف {شهيد} على هذا التأويل خبر لله وليس في هذا التأويل مبادرة من السائل إلى الجواب المراد بقوله: {شهيد بيني وبينكم} أي في تبليغي، وقرأت فرقة: {وأوحى إليّ هذا القرآن} على الفعل الماضي ونصب القرآن وفي {أوحى} ضمير عائد على الله تعالى من قوله: {قل الله}، وقرأت فرقة {وأوحي} على بناء الفعل للمفعول {القرآن} رفعًا، {لأنذركم} معناه لأخوفكم به العقاب والآخرة، {ومن} عطف على الكاف والميم في قوله: {لأنذركم} و{بلغ} معناه على قول الجمهور بلاغ القرآن، أي لأنذركم وأنذر من بلغه، ففي بلغ ضمير محذوف لأنه في صلة من، فحذف لطول الكلام، وقالت فرقة ومن بلغ الحكم، ففي {بلغ} على هذا التأويل ضمير مقدر راجع إلى {من}، وروي في معنى التأويل الأول أحاديث، منها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا أيها الناس بلغوا عني ولو آية، فإنه من بلغ آية من كتاب الله تعالى فقد بلغه أمر الله تعالى أخذه أو تركه»، ونحو هذا من الأحاديث كقوله: «من بلغه هذا القرآن فأنا نذيره» وقرأت فرقة {أأينكم} بزيادة ألف بين الهمزة الأولى والثانية المسهلة عاملة بعد التسهيل العاملة قبل التسهيل وقرأت فرقة {أينكم} بهمزتين الثانية مسهلة دون ألف بينهما، وقرأت فرقة {أإنكم} استثقلت اجتماع الهمزتين فزادت ألفًا بين الهمزتين، وقرأت فرقة {أنكم} بالإيجاب دون تقدير وهذه الاية مقصدها التوبيخ وتسفيه الرأي.
و{أخرى} صفة لآلهة وصفة جمع ما لا يعقل تجري في الإفراد مجرى الواحدة المؤنثة كقوله: {مآرب أخرى} [طه: 18] وكذلك مخاطبته جمع ما لا يعقل كقوله: {يا جبال أوبي معه} ونحو هذا، ولما كانت هذه الآلهة حجارة وعيدانًا أجريت هذا المجرى ثم أمره الله تعالى أن يعلن بالتبري من شهادتهم، والإعلان بالتوحيد لله عز وجل والتبري من إشراكهم، {وإنني} إيجاب ألحقت فيه النون التي تلحق الفعل لتبقى حركته عند اتصال الضمير به في قوله ضربني ونحوه، وظاهر الآية أنها في عبدة الأصنام وذكر الطبري أنه قد ورد من وجه لم يثبت صحته أنها نزلت في قوم من اليهود، وأسند إلى ابن عباس قال: جاء النحام بن زيد وفردم بن كعب وبحري بن عمرو، فقالوا: يا محمد ما تعلم مع الله إلهًا غيره؟ فقال لهم: لا إله إلا الله بذلك أمرت، فنزلت الآية فيهم. اهـ.